علي عزت بيغوفيتش.. جسر التسامح بين الإسلام والغرب ونموذج القيادة الإنسانية
تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT
في عصر التحديات والاصطفافات التي تشطر المجتمعات بين الهويات والثقافات، يبرز اسم علي عزت بيغوفيتش كواحد من النماذج الفريدة التي جمعت بين التمسك العميق بالإسلام والالتزام بالحوار الحضاري مع الثقافة الأوروبية.
لم يكن بيغوفيتش مجرد سياسي أو مفكر عادي، بل كان جسراً حقيقياً يربط بين أصالة الهوية الإسلامية ومنهجية العقل الأوروبي، مدافعاً عن قيم التسامح والحرية في مواجهة الوحشية والتعصب.
الكاتب والإعلامي المصري جمال سلطان، أعاد فتح سيرة علي عزت بيغوفيتش في الذكرى المئوية لميلاده، من خلال استحضار مآثره النضالية والفكرية التي جسدت نموذج القائد المسلم المعتدل، الذي جمع بين صلابة الموقف الإسلامي ورؤية التسامح الحضاري، مؤكدًا كيف شكّل بيغوفيتش جسراً بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية، ورفض كل أشكال التعصب والعنف، ليبقى إرثه مرجعًا حيًا لكل من يسعى إلى فهم الإسلام كدين سلام وإنسانية في عالم معاصر مضطرب.
في الذكرى المئوية لمولده ـ 8 أغسطس 1925
تمثل شخصية الرئيس البوسنوي الراحل علي عزت بيغوفيتش حالة استثنائية في كل من الثقافة الأوربية والثقافة الإسلامية على حد سواء ، أما من جانب الثقافة الأوربية فلأنه مثقف مسلم المولد والنشأة والتفكير والهوية ، لم يتحول عن المسيحية أو اليهودية إلى الإسلام مثل المفكر والفيلسوف الراحل ليوبولد فايس "محمد أسد"، أو السفير الألماني "مراد هوفمان"، كما لم يكتب باحترام وإنصاف وحب عن الإسلام من خارجه مثل بعض المستشرقين الأكثر إنصافا ومروءة مثل "زيغريد هونكه" أو "مونتجومري وات" أو "آن ماري شميل"، وإنما هو مسلم المولد والجذور والهوية ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو مثقف من طراز خاص، فهو محام، وأستاذ للقانون يحمل شهادة الدكتوراة في القانون والاقتصاد، كما أنه مناضل سياسي دفع سنوات من عمره في السجون التي دخلها عدة مرات دفاعا عن الحرية وعن فكرته وهويته وأمته، كما قاد عملا سياسيا وترأس حزبا قاد بلاده إلى الحرية، كما قاد باقتدار معركة التحرير العسكرية ضد طغمة صربية فاشية متوحشة مدعومة من دول أوربية كبيرة، كما ترك لنا مؤلفات فكرية عميقة ورصينة ومعطرة بالروح الإنسانية الأكثر تسامحا.
علي عزت شخصية شديدة التواضع أعرف ذلك من أصدقاء صحفيين ومثقفين وإسلاميين التقوه وعرفوه عن قرب كما أنها الصورة التي تخرج بها مباشرة من أسلوبه في كتابة مذكراته..فهو لم يقف بالثقافة في طورها النظري والتجريدي، وإنما خاض نضالا مريرا ضد قوى التعصب والوحشية، دفاعا عن إنسانية الإنسان، ودفاعا عن وطنه وبني أمته، ودفع الضريبة من حريته، ثم خاض حربا فرضت عليه كان فيها القائد النبيل الذي يقابل الوحشية الصربية بنبل المثقف الإنسان المتسامح، والذي ينطلق في هذا التسامح من أرضيته الإسلامية، وكان لافتا للنظر جدا إجابته على سؤال مراسل صحيفة "شتيرن" الألمانية عندما فاجأه بالسؤال: السيد الرئيس أنت معروف كمسلم حريص على التقاليد الأوربية والتسامح الأوروبي وأنك منفتح على العالم بأسره.." فيجيبه على الفور: أود فقط أن أصحح لك في نقطة واحدة، وهي أن تسامحي ليس مرده إلى أنني أوروبي، وإنما مصدره الأصلي هو الإسلام، فإذا كنت متسامحا حقا فذلك لأنني أولا وقبل كل شيئ مسلم، ثم بعد ذلك لأنني أوروبي"، وحتى يزيل أية مشاعر سلبية في نفسية الصحفي الألماني أضاف إليه إشارة علمية تاريخية مقارنة بقوله: أسوق إليك حقيقة تاريخية، فقد حكم الأتراك العثمانيون البلقان خمسمائة عام فلم يهدموا كنيسة ولم يبيدوا شعبا، بل حافظوا على الأديرة الشهيرة في جبال فروشكا جورا (قريبا من بلجراد) لأن إسلامهم يأمرهم بهذا، ولكن هذه الآثار الدينية التاريخية لم تصمد ثلاثة أعوام فقط تحت الحكم الأوربي، فقد دمرها الشيوعيون والفاشيون خلال الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء لم يكونوا نتاجا آسيويا بل صناعة أوربية "!.
أما من ناحية ثقافته الإسلامية فلأنه مثقف أوربي التفكير والمنهج والنشأة والخبرة والحياة، ومع ذلك استطاع أن يصل إلى مفاصل بالغة الأهمية في منهج التفكير الإسلامي، لم يصل إليها مع الأسف بعض ممن عاشوا في جوار أسوار الأزهر أو الزيتونة أو القرويين، لم ير في الإسلام وتاريخه تلك الصورة السوداوية الحاقدة التي روجها ويروجها مثقفون عرب ومسلمون ـ مع الأسف ـ من أنه تاريخ دم وحروب وجهل ومحاربة للعلم والاستنارة ومجون، مثل بعض بني جلدتنا الذين يحترفون التنقيب في صندوق قمامة التاريخ وليس التاريخ نفسه للرغبة في تشويه تاريخ الأمة ، بل رآه تاريخ فخر واستنارة ونموذجا للتسامح والعطاء الحضاري الفذ، الغريب أن علي عزت في مذكراته التي نشرت ـ وترجمت إلى العربية "هروبي إلى الحرية" ـ يتحدث بمرارة شديدة عن نماذج من المثقفين البوسنويين المسلمين ممن باعوا قضية وطنهم وهويتهم تحت شعارات سطحية عن الإنسانية والتعايش والسلام ، بينما الدماء تسيل أنهارا من اعتداءات جيرانهم وأهليهم الوحشية ، تحدثوا عن نبذ الحرب والتعصب وإراقة الدماء ، ولكنهم لم يملكوا شجاعة أن يقولوا من الذي يشن الحرب ومن الذي يسحق البشر ومن يريق الدماء ، تحدث الرجل عن نماذج من المثقفين وكأنه يتحدث عن "شلل" نعرفهم في مقاهي بعض عواصم العرب والعجم على السواء.
علي عزت شخصية شديدة التواضع أعرف ذلك من أصدقاء صحفيين ومثقفين وإسلاميين التقوه وعرفوه عن قرب كما أنها الصورة التي تخرج بها مباشرة من أسلوبه في كتابة مذكراته، بداية من وصف نفسه بأنه كان طالبا متوسط الذكاء، وكانت نتائجه في بعض المواد أقل من المتوسط، وانتهاء بوصفه للمفاجأة التي استشعرها عندما خرج من السجن ليجد نفسه زعيما للحزب الديمقراطي الذي أسس في البوسنة والذي حكم البلاد بعد ذلك ويصف نفسه بأنه لم يكن أفضل الموجودين، بل إن عيوبه كانت أكثر من عيوب الكثيرين غيره، بيد أن اللافت للنظر سماحته الرائعة، عندما تولى الحكم، وسألوه عن الزبانية الذين لفقوا له التهمة الزور وحكموا عليه بالسجن أربعة عشر عاما، قضى منها ستة ثم خرج إلى الحكم، رغم أن ما ارتكبوه جريمة في حق الإنسانية بشهادة محققين أوروبيين، وقد أصبحوا بعد ذلك تحت سلطته وسيطرته، إلا أنه رفض أن يمسهم بأي عقاب وقال حرفيا "لقد عفوت عنهم كسياسي في السلطة، ولكني كإنسان لم أستطع أن أغفر لهم في أعماق نفسي ذلك الظلم الذي لحق بي وبزملائي بلا ذنب أو جريرة"، إنها منتهى الأمانة في فصل القائد بين مشاعره الشخصية وبين أمانة الحكم واستخدام السلطات المتاحة.
والحقيقة أنه من الصعب أن أستوعب في هذه الأسطر القليلة لمحات من سيرة هذا الرجل الفذة، ولا أخفي أن شخصيته آسرة لضميري ومشاعري، ولكني أظن أن الرجل كإنسان ومثقف ومناضل ، يستحق كل الاحترام، كما يستحق أن يكون نموذجا نعرف عليه الجيل المسلم الجديد، ليكون أقرب إلى الوسطية والتسامح وحب الحرية، بنفس القدر الذي يكون فيه صلبا في الدفاع عن حقوقه وهويته، وقد حظي الراحل الكبير باحترام كبير من مختلف الدوائر السياسية والفكرية والإنسانية، في الغرب والشرق على حد سواء، وتم تكريمه في المملكة العربية السعودية بمنحه جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، كما كرم في تركيا ومنح جائزة مولانا جلال الدين الرومي لخدمة الإسلام، كما كرم من قبل المركز الأمريكي للدفاع عن الديمقراطية والحريات، وغير ذلك من وقائع التكريم والاحتفال بشخصه وتجربته ونضاله وميراثه، كما كانت جنازته في 22 أكتوبر عام 2003، حدثا تاريخيا لم تعرفه سراييفو من قبل، عندما سار فيها أكثر من 200 ألف إنسان، يشيعون جثمانه إلى مثواه الأخير، وأصروا على حمل نعشه على الأكتاف لمسافات طويلة.
السيد الرئيس علي عزت بيغوفيتش حالة إنسانية جديرة بأن يبقى ميراثها على الدوام في ذاكرة الإنسانية، ملهما للأجيال بالخير وكل معنى نبيل في هذه الحياة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير علي عزت بيغوفيتش البوسنة مسيرة البوسنة رأي علي عزت بيغوفيتش سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
ماليزيا تشيد بدور السعودية الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين
استقبل وزير الشؤون الدينية الماليزي الدكتور محمد نعيم مختار اليوم، بمقر رئاسة الشؤون الدينية في العاصمة الماليزية كوالالمبور، فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف الشيخ الدكتور صلاح بن محمد البدير.
وجاء ذلك بحضور نائب سفير خادم الحرمين الشريفين لدى ماليزيا الدكتور صالح بديوي، وذلك ضمن برنامج زيارات أئمة الحرمين الشريفين الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.نشر قيم الإسلاموأشاد الوزير الماليزي، بدور المملكة الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين، وتنفيذها للعديد من البرامج الدعوية، التي تخدم الإسلام والمسلمين، ونشر قيم الإسلام وتعاليمه السمحة.
أخبار متعلقة غلاء المهور وتكاليف الزواج.. أزمة تؤرق المجتمع منذ 60 عامًافي استطلاع "اليوم" حول نظام الفصلين الجديد.. تصدر مطالب تحسين التحصيل الدراسي والإجازات .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } ماليزيا تشيد بدور المملكة الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين - واس
وقدم الشيخ الدكتور صلاح البدير شكره للوزير على كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال.تعزيز قيم الوسطية والاعتدالوأعرب عن سعادته بالمشاركة في الندوة العالمية للقرآن الكريم، مثمنًا الجهود الماليزية في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال.
وأشاد فضيلته بجهود وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في تنفيذ العديد من البرامج والمناشط التوعوية والدعوية، التي تخدم المسلمين في العديد من دول العالم.