في الآونة الأخيرة رجع الحديث عن خطاب الفتنة المذهبية في وقت يشهد الفلسطينيون إبادة ممنهجة وتدمر غزة تدميرًا شاملًا على أيدي الصهيوغربية الاستعمارية. إنَّ معاول الهدم ستظل مسنونة طالما بقي المسلمون على خطابات تأريخية تزعم أنَّها على الدين الذي جاء به النبي الخاتم رحمةً للعالمين كأن دين الرحمة يوجب عليها الغلظة اتجاه الآخرين.
لا نعلم متى بدأ الصراع بالأفكار، ولكن الإنسان عندما وجد في الفكرة مصدرًا للقوة استعملها ضد أخيه الإنسان، وقد درست ذلك في مقال «في جذور العلاقة بين الدين والسياسة» [«عمان»، 15/ 7/ 2025]، ومما قلته: (إنَّ الإنسان حصلت لديه مع السلطة المادية سلطة معنوية، وذلك عندما وجد أخاه الإنسان ينافسه على السلطة المادية، ويتغلب عليه في امتلاكها لجأ هو إلى السلطة المعنوية؛ لأنَّها سلطة ترجع إلى النفس). اكتشاف الإنسان أنَّه يملك سلطة معنوية كان مبكرًا، ولكي يظل بقاؤها وتأثيرها قوياً ألبسها لبوس الإيديولوجيا؛ فالسياسي ربطها بالولاء للوطن، والمتدين ربطها بالولاء لله.
لقد أدرك جيلنا نار الماركسية التي لا تنزل أرضًا إلا أتت على أخضرها ويابسها، وهي تدعي امتلاك الحقيقة، وأنَّها جاءت خلاصًا للبشرية من جحيم الرأسمالية، فإذا الرأسمالية مع توحشها جنة أمامها. ما السبب؟ السبب تطور الأفكار، ونموها في حقل التاريخ.
لقد قامت الشيوعية على فكر كارل ماركس (ت:1883م) الذي لم يكن يتصور مقدار العنف المتولّد بسبب أطروحته بين مادية شيوعية تتنكر للدين، ومادية رأسمالية تستغل الدين. لقد أراد ماركس الموجوع من الرأسمالية أن يطيح بها في عقر دارها، وإذا به يزيدها توحشًا عالميًا. إنَّ أطروحته ما هي إلا تطوير لفلسفة جورج هيجل (ت:1831م) التي أسست لصراع الأفكار بالتنظير للفكرة أنَّها تحمل نقيضها، وتدخل مع نفسها في «جدل» لتنتج فكرة ثالثة. كان تنظيرًا ناعمًا، إلا أنَّه أسس لعنف لم تشهد البشرية له مثيلًا.
هكذا تتحول بعض المنظومات الفكرية وفلسفاتها إلى عنف مدمّر، وهذا ما حصل في الفكر الإسلامي؛ حيث تحول قديمًا وحديثًا بعض منظوماته وأفكاره إلى عنف. والحال أنَّ الأمة كلها تقريبًا ابتليت بالعنف بدرجة أو أخرى بدءاً من الإقصاء والتكفير، وانتهاءً بالقتل والتفجير. إنَّ العنف عَرَض وليس مرضًا، والمرض يكمن في المقولات التي تقف خلفه، وهي حلقات من سلسلة طويلة، كل حلقة منها تحتاج إلى فحص ونظر. ولا ينبغي الاستهانة بأي نوع من مقولات العنف، وإنْ كان ظاهرها انتصارًا للدين؛ فحقيقةُ الدين أنَّه رحمة، ولا يمكن أنْ يؤسس للكراهية. فقد ثبت أنَّ العنف يترعرع تحت السطح الاجتماعي لنتفاجأ بنتائجه الخطيرة فوق السطح، ولا يكفي أنْ نرفع شعار التسامح؛ فهذا خطاب -مع أهميته- لا يصمد أمام قارعة الفتنة عندما تحل، فكل أحد ينحاز لطائفته. إذًا؛ لابد من إخراج العنف من تلافيف العقل، وأقصد تلك السلسلة المتشابكة من الأفكار المؤدية إلى العنف، والتي قد يبدو بعضها بعيدًا عنه، وبالتتبع نجده حلقة من سلسلته العتيدة.
الكثيرون يقصرون نظرهم في واقعة العنف، أو دعوة الكراهية على أسبابها المباشرة، فيردون على من صدرت عنه، وقد يكون ردهم بنفس المنطق، أو استجداءً للتسامح، وقد يحلل البعض الحادثة وفقًا لمؤثرات قريبة، أو علل نفسية لمن صدرت عنه، وقليل من يمد بصره إلى جذور المشكلة، ويفحص شبكة المنظومات الفكرية المؤسسة لخطاب الكراهية. فإذا ما وقعت حادثة عنف رددناها إلى اختراق عقول المنفذين من قِبَل أعداء الدين، وقد نبحث عن التحولات الفكرية والعقدية التي أوقعت مرتكبيها في حبائل العنف، ورُبّما ارتفعنا قليلًا فألقينا باللوم على المتطرفين، وأتبعناه بتأكيد أنَّ هذه الجريمة حصلت بمؤامرة ضد المسلمين. ومع الإقرار بأنَّ مثل هذا قد يحدث، إلا أنَّ الأمر أعمق من ذلك بكثير.
العنف لا ينبت فجأة، أو يهطل من السماء، وإنَّما ينمو في غابة من الأفكار تمتد جذورها إلى مئات السنين، وهي ليست أفكارًا بريئة ليعبّر عنها صاحبها بحرية، بل أفكار متحركة على أرض الواقع ذات ثمار مرة تجري في عروق آكلها نسغًا للتطرف غابة حافلة بما لا يحصى من الأفكار بعضها منظور، وأغلبها خفي عن البصر، منها ما يتشكل حديثًا، وأخطرها قادم من فجاج التاريخ. وهي قد تؤثر مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة، وعلى كل الأحوال هي لا تعمل منفردة، وإنَّما تنتظم في منظومات متماسكة من الأفكار؛ كل فكرة تأخذ بحجزة فكرة أخرى.
الشجرة الأولى التي يُلقى ببذورها في غابة العنف هي المسلّمات، وفي مقدمتها المعتقدات الدينية الغائرة في النفس؛ بحيث ترى الإنسان هادئاً بعيداً عن الصراعات المذهبية، إلا أنَّ البذرة القابعة في قعر نفسه تتغذى باستمرار من الأفكار التي تعبر عليها من مثل: فتوى تتشدد في أمر مباح شرعًا، أو رأي يتحول إلى دين يكفر من يخالفه، ومن أخطرها تلك التي تدّعي التسامح، ثم فجأة تفسر تلك البذرة عنفًا وكراهية. وفكرنا الإسلامي غارق في بحر الخصومات المذهبية تضليلًا وتفسيقًا وتكفيرًا، ومليء بالمناوشات التي اتخذتها المذاهب قربةً لله، كما أنَّ أطروحاتنا المعاصرة لديها فاعلية نافذة بالدوران في طاحونة التاريخ. إنَّ في التاريخ الديني جذورًا سامة تغذي أشجار العنف التي تأبى الموت.
ليس لازمًا أنْ يكون هناك توجيه ظاهر للعنف؛ فقد يكون خفيًا، فعندما يُفتى بجواز قتل المرتد، فهذا يؤسس للعنف، وأما التفاصيل فيحددها المحتسب في تطبيق الحكم بحسب نظرته لمخالفه عقديًا، أو فقهيًا، أو سياسيًا. وهذا التنظير العام من أخطر ما أنتجته آلة الفقه التي يجب مراجعتها.
السياسة لا تقل شأنًا في إذكاء العنف في الإنسان؛ لاسيما إنْ استغلت معتقداته الدينية، وصادفت لدى المهيئين للعنف مقدمات تؤسس له. ومسار التأريخ يكشف أنَّ السياسة تسوس الناس بالدين، وتعمل على استغلال الفوارق المذهبية؛ حتى تتمكن من الهيمنة على الناس، ولكن كثيرًا ما ينقلب السحر على الساحر، فتتحول المعتقدات إلى مصدر تهديد للأنظمة الحاكمة، وقد يصل الأمر إلى سقوطها، والوقائع القريبة تشهد عليه.
ليست السياسة الداخلية وحدها التي ترتع في غابة الأفكار المغذية للعنف، وإنَّما كذلك السياسة الخارجية؛ فالدول الكبرى حتى تهيمن على العالم تستعمل الدين؛ لإثارة الصراع في المناطق التي تشهد تباينات دينية أو مذهبية أو عرقية. وقد ابتليت منطقتنا بالتدخلات الدولية، وإثارتها للنعرات بشتى أنواعها.
صفوة القول إنَّ العنف غابة واسعة مشتبكة الجذور متشابكة الأغصان تتفاعل فيما بينها لتدمير الإنسان والمجتمعات والدول، وفيروساتها شديدة العدوى والانتشار بين الناس، ومن عسف التحليل النظر إلى سبب دون آخر. ولذلك؛ يحتاج الأمر إلى دراسة واعية، وصبر على التتبع والاستقصاء، ثم إيجاد الحلول السليمة والعملية. ولنكن حذرين في دراستنا غير منحازين عاطفيًا لفكر دون آخر، فالجميع ينبغي أن يوضع على طاولة التشريح، وهذا لا يعني القطيعة مع تراثنا الإسلامي؛ فهو من مكوناتنا الحضارية، ومؤثر في حركة واقعنا، وإنَّما ينبغي نقده؛ ليظل رافد خير لنا، ولأجيالنا القادمة.
ختامًا؛ إنَّ من يؤمن بالله ربًا للعالمين، وأنَّ كلامه جاء رحمة للناس أجمعين فلا ينبغي أنْ يصدر منه العنف والإقصاء؛ فهذا من الإفساد في الأرض، وصدق الله القائل: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) «الشعراء:182».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من الأفکار فی غابة
إقرأ أيضاً:
عوض تاج الدين: «100 يوم صحة» تعمل على إيصال الرعاية الطبية للمواطنين بالقرى والمدن
قال الدكتور محمد عوض تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الصحة والوقاية، إن حملة «100 يوم صحة» تحمل أهدافا متعددة تسعى إلى تعزيز المنظومة الصحية في مصر، مشيرا إلى أن الحملة تمثل خطوة مهمة نحو تقديم خدمات طبية متكاملة للمواطنين كافة.
وأوضح «تاج الدين»، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج «هذا الصباح» على قناة إكسترا نيوز، أن الهدف الأول من الحملة هو سد الفجوة في تقديم الخدمات الصحية، مشيرا إلى أنها تعمل على إيصال الرعاية الطبية للمواطنين في القرى والمدن والمراكز والمحافظات، خاصة أولئك الذين قد لا تصلهم هذه الخدمات بانتظام، مؤكدا أن الحملة تُعد بمثابة تمهيد لتطبيق نظام التأمين الصحي الشامل، من خلال التأكد من أن كل مواطن يتلقى الحد الأدنى من الرعاية الصحية اللازمة.
وأشار مستشار الرئيس إلى أن الحملة تتيح فرصة لإجراء كشف طبي دوري شامل للمواطنين، ما يساهم في اكتشاف الأمراض غير المُعلنة أو الوراثية، التي قد تتفاقم بمرور الوقت وتؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة، موضحا أن هذه الخطوة تمكّن الأطباء من التدخل المبكر وتقديم العلاج اللازم في الوقت المناسب، ما ينعكس إيجابيًا على الحالة الصحية العامة للمجتمع.
وأضاف أن أحد الأهداف المحورية للحملة هو رفع الوعي الصحي لدى المواطنين، من خلال التعريف بالأعراض والعلامات المبكرة للأمراض المختلفة، وأهمية التوجه إلى الطبيب فور ظهور أي أعراض، مؤكدا أن المواطن المصري يستجيب بشكل ملحوظ عندما يشعر بوجود نظام صحي فعال ينعكس على حياته اليومية، خاصة مع وجود نتائج ملموسة وإيجابية.
ولفت إلى أن أحد الجوانب الأساسية في حملة 100 يوم صحة هو الكشف المبكر عن الأورام، وهي خطوة حيوية ضمن سلسلة المبادرات الرئاسية في القطاع الصحي، والتي تهدف إلى خفض معدلات الإصابة والوفيات الناتجة عن السرطان عبر التدخل المبكر.