القوقاز، رقعة جبلية صغيرة تقع بين روسيا وايران وتركيا، ليست مجرّد حدود على الخريطة، بل هي مسرح مفتوح لصراعات القوى الكبرى منذ القرن التاسع عشر. واليوم، يعود الإقليم إلى واجهة التوترات الدولية عبر مشروع "ممر زنغزور" الذي يربط أذربيجان بجيب نخجوان مروراً بأراضي أرمينيا، وهو على مرمى حجر من الحدود الإيرانية.


في ظاهر الأمر، يُسوّق المشروع كخط للتجارة والسلام، لكن في العمق، تتداخل فيه أهداف أميركية – أطلسية، تركية، وإسرائيلية، ترسم ملامح مواجهة جديدة، قد تمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين، وتهدد الأمن القومي للجمهورية الاسلامية مباشرة، المشروع يرسم طرق التجارة والطاقة الإقليمية، ويعيد تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

 

خلفية المشروع: اتفاق "سلام" بطعم الحصار

توقيع اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان جاء تحت رعاية امريكية، وبمشاركة شركات أميركية وأخرى أرمينية في التنفيذ. العنصر الأخطر في الاتفاق هو منح الولايات المتحدة الحق في إنشاء ما يُسمّى "ممر السلام"، الذي وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ"ممر ترامب"، وهو في الواقع النسخة المُحدَّثة من ممر زنغزور التاريخي.

الممر لن يكون مجرد طريق، بل كيان جغرافي – أمني تسيطر عليه واشنطن وحلف الناتو، مع تعيين قيادة عسكرية لحمايته. عملياً، سيشكل هذا الممر شريطاً جغرافياً يعزل إيران عن أرمينيا، ويقطع خط اتصالها البري مع روسيا وأوروبا عبر القوقاز، ما يضرب أحد أهم منافذها الاستراتيجية والتجارية شمالاً.

الأبعاد الجيوسياسية للممر

1. حصار استراتيجي لإيران

إيران تعتبر أرمينيا نافذتها الوحيدة نحو أوروبا عبر القوقاز، وقطع هذا الممر يعني إدخال طهران في طوق جغرافي خانق من الشمال الغربي. بالنسبة للولايات المتحدة، الهدف مزدوج: شلّ الدور الإيراني في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وحرمانها من العمق الاستراتيجي مع روسيا.

2. تموضع أطلسي في قلب القوقاز

بوجود قوات أميركية أو أطلسية على الممر، تكون واشنطن قد رسّخت أول موطئ قدم مباشر لها في جنوب القوقاز، وهو ما يعني مراقبة لصيقة للحدود الشمالية لإيران، وضغط جيوسياسي على روسيا التي تخوض صراعاً مفتوحاً مع الناتو في أوكرانيا. مع ان الرئيس الأميركي حاول إخفاء هذه الابعاد الاستراتيجية وانها مجرد اتفاق سلام  بين أذربيجان وأرمينيا، وان " شركات أميركية ستستثمر في البلدين بمبالغ كبيرة".

3. مكاسب تركية – أذرية

تركيا ترى في الممر خطوة نحو تحقيق حلم "الوطن التركي الكبير" الذي يربط الأناضول بآسيا الوسطى عبر أذربيجان. بالنسبة لباكو، الممر يختصر طرق التجارة والنفط نحو تركيا ومنها إلى إسرائيل، مع تجاوز الأراضي الإيرانية كلياً. هو خطوة مهمة لتعزيز نفوذ تركيا في آسيا الوسطى، وإحياء الهوية القومية التركية العابرة للحدود.

4. النفوذ الإسرائيلي

الكيان الاسرائيلي، الحليف الوثيق لباكو، سيحصل على قناة لوجستية غير معلنة تمر عبر تركيا وسوريا (ممر داوود) نحو أراضيه، ما يعزز روابطه الأمنية والاقتصادية مع أذربيجان،  لا سيما في مجال النفط الذي سيتدفق من باكو نحو  إسرائيل

المعادلة الأميركية: حصار رباعي

من زاوية واشنطن، ممر زنغزور يخدم أربعة أهداف استراتيجية:

محاصرة إيران من الشمال الغربي، وقطع تواصلها مع أرمينيا وروسيا. إضعاف روسيا عبر طرد نفوذها من جنوب القوقاز. عرقلة الصين بمنع مرور "طريق الحرير" عبر إيران إلى أرمينيا وأوروبا. تعزيز الناتو في منطقة لطالما كانت خارج سيطرته المباشرة.

ولايتي: إيران ستمنع الممر الأمريكي مع روسيا او بدونها

طهران لم تتأخر في إعلان موقفها، حيث شدد الرئيس مسعود بزشكيان على أن مطالب طهران المتعلقة بالسيادة الوطنية وضمان طرق الاتصال أُخذت بعين الاعتبار، وفق ما أفاد به وزير الخارجية عباس عراقجي" وأضاف أن موضوع زنغزور جرى تضخيمه إعلامياً، وأما مستشار قائد الثورة الإسلامية علي أكبر ولايتي فقد حذّر من أن الممر الأميركي "سيغيّر الجغرافيا ويهدد بتقسيم أرمينيا" والشعب الأرميني يرفض ذلك، وقال" جنوب القوقاز ليس أرضاً بلا صاحب ليستأجرها ترامب، بل سيصبح مقبرة لمرتزقته". وأضاف:" ادعاء استئجار الممر من قبل ترامب ساذج ومستحيل كاستئجار قناة بنما". مؤكداً "ان إيران ستتحرك لمنع هذه المؤامرة مع روسيا او بدونها".

حرس الثورة الاسلامية من جانبه صعّد اللهجة، محذراً قادة أذربيجان وأرمينيا من تكرار "خطأ زيلينسكي" بجلب الناتو إلى حدود روسيا وإيران. الرسالة الإيرانية واضحة: طهران مستعدة للتحرك لمنع تنفيذ الممر.
انعكاسات على الأمن القومي الإيراني

من وجهة نظر أمنية، وجود قوات أميركية أو أطلسية على بعد كيلومترات من الحدود الإيرانية يرفع مستوى التهديد المباشر. كما أن قطع الطريق البري نحو أرمينيا يحد من قدرة إيران على المناورة التجارية والسياسية مع أوروبا وروسيا.
الأخطر هو أن هذا التطور قد يشجع قوى انفصالية أو معارضة داخلية، مستغلة الضغط الخارجي لإضعاف النظام الإسلامي في إيران.

لكن ما هي استراتيجيات إيران المحتملة للرد؟

التصعيد الدبلوماسي عبر تفعيل التعاون مع روسيا والصين في المحافل الدولية لرفض أي تغيير جغرافي قسري. دعم أرمينيا سياسياً واقتصادياً لمنع تمرير الممر. التحرك الميداني عبر المناورات العسكرية في الشمال الغربي لإرسال رسائل ردع. فتح جبهات ضغط مضادة في مناطق نفوذ أميركا وحلفائها الإقليميين.

الموقف الروسي: خط أحمر استراتيجي

روسيا ترى في الممر تهديداً مباشراً لقدرتها على التأثير في جنوب القوقاز ونفوذاً أطلسياً في حديقتها الخلفية،، خصوصاً في ظل انشغالها بجبهة أوكرانيا. إذا سيطر الناتو على شريط جغرافي يربط أذربيجان بتركيا، فستجد موسكو نفسها محاصرة من الجنوب، وفاقدة لخطوط الإمداد والتأثير نحو الشرق الأوسط. لهذا السبب، من المتوقع أن تعمل موسكو مع طهران لعرقلة المشروع، سواء عبر الضغط الدبلوماسي أو عبر تحريك أدواتها في أرمينيا وأذربيجان.

القوقاز على حافة الانفجار

ممر زنغزور ليس مجرد مشروع نقل أو استثمار، بل هو أداة جيوسياسية لإعادة رسم خرائط النفوذ في القوقاز وآسيا الوسطى. بالنسبة لإيران، الأمر يتجاوز الاقتصاد أو التجارة، ليصل إلى صميم الأمن القومي والوجود الاستراتيجي في الشمال الغربي.

المشهد الحالي ينذر بأن الأشهر المقبلة قد تشهد مواجهة متعددة الأطراف، حيث ستتداخل خطوط الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وموسكو، مع صراعات النفوذ الإقليمي بين طهران وأنقرة وتل أبيب.
في هذه المعركة، ستسعى إيران بكل الوسائل لمنع تحول حدودها الشمالية إلى منصة أطلسية، لأن خسارة أرمينيا تعني فقدان نافذتها نحو أوروبا، وإضعاف موقعها في معادلات الشرق – الغرب، وهي كلفة لا يبدو أن طهران مستعدة لدفعها.

هل يتشكل محور ثلاثي إيران – روسيا – الصين؟

أمام خطورة مشروع ممر زنغزور، تبرز فكرة إنشاء تنسيق ثلاثي بين إيران وروسيا والصين، باعتباره رداً استراتيجياً على التحركات الأميركية – الأطلسية في القوقاز.

هذا التعاون ليس مجرد خيار سياسي، بل ضرورة جيوسياسية، إذ يجمع بين ثلاثة أطراف تمتلك مصالح مشتركة مهددة بشكل مباشر:

إيران تحتاج للحفاظ على منفذها نحو أرمينيا وأوروبا، ومنع حصارها من الشمال الغربي. روسيا ترى في الممر تهديداً يطوّقها من الجنوب ويعزلها عن الشرق الأوسط، في وقت تواجه فيه استنزافاً في أوكرانيا. الصين تخشى من إضعاف أحد أهم مسارات "مبادرة الحزام والطريق" الذي يمر عبر إيران وأرمينيا نحو أوروبا.

التنسيق الثلاثي يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة:

تحالف دبلوماسي في مجلس الأمن والمحافل الدولية لرفض أي تعديل قسري على الجغرافيا الإقليمية. تنسيق اقتصادي – لوجستي لإيجاد مسارات بديلة تعزز الربط البري والبحري بعيداً عن النفوذ الأميركي. تنسيق أمني – استخباراتي لمراقبة التحركات الأطلسية في القوقاز ومنع تمركزها الدائم.

نجاح هذا التعاون سيعيد التوازن للقوقاز، ويحول دون تحوّله إلى منصة انطلاق لمحاصرة القوى الثلاث، كما سيبعث رسالة واضحة بأن أي محاولة لعزل إيران أو روسيا أو تعطيل طريق الحرير الصيني ستواجه برد جماعي، وليس بمواقف منفردة يمكن احتواؤها.

د . محمد شمص

-إعلامي وباحث سياسي.

- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.

 

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الشمال الغربی جنوب القوقاز ممر زنغزور مع روسیا

إقرأ أيضاً:

ايران تعلن استعدادها لتوفير التعليم الجامعي عبر الانترنت للنساء الافغانيات

9 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة: أعلن وزير العلوم والبحوث والتقنية خلال لقائه مع وزير التعليم العالي الأفغاني استعداد جامعة “بيام نور” الإيرانية لتقديم التعليم الافتراضي (عبر الانترنت) للنساء الأفغانيات.
وأفادت وكالة تسنيم الدولية للانباء أن حسين سيمائي صراف، وزير العلوم والبحوث والتقنية الايراني، استقبل وزير التعليم العالي الأفغاني وناقش معه سبل التعاون.

وأشار الوزير الإيراني خلال اللقاء إلى أن جامعة “بيام نور” في إيران، التي تعمل غالبًا بنظام التعليم الافتراضي، يمكن تكليفها بمهمة تدريس النساء الأفغانيات.

وأضاف: “خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا، رأينا أن العلم والتقنية ضروريان لأمننا وحياتنا، ويجب أن نسير في طريق طلب العلم”.

وتابع: “لا يوجد في ديننا وتعاليمنا أي تمييز بين الرجل والمرأة. مع مراعاة الضوابط الشرعية، وفرنا التعليم للبنين والبنات. الفتيات والفتيان يدرسون معًا في جامعاتنا. في إيران، تشكل النساء نصف سكاننا، فهل يمكن استبعاد نصف شعب البلاد؟”

وأكد الوزير أن عدة آلاف من الطلاب والطالبات الأفغان يدرسون في جامعات إيران، إضافة إلى مئات الآلاف من الطلاب الأفغان في مدارسها، وهو ما يشكل مصدر فخر لإيران.

وأوضح: “يمكن لأفضل أساتذتنا تقديم الدروس للطلاب الأفغان عبر الإنترنت. بل ويمكننا من خلال تحسين خدمة الإنترنت تدريس النساء الأفغانيات في منازلهن افتراضيًا. نعلن استعدادنا لتكليف جامعة بيام نور الإيرانية، التي تعمل غالبًا افتراضيًا، بتدريس النساء الأفغانيات”.

واختتم سيمائي حديثه قائلًا: “مع ذلك، يجب أن تحاوروا العلماء لتمكين النساء من الدراسة بسهولة أكبر. أنتم قلقون من أن فتوى العلماء قد تسبب اضطرابًا، لكن الناس قد يحتجون يومًا ما. إذا تصرفتم بصرامة مطلقة، سينفر الناس”.

كيفية اعتماد الجامعات التركية في إيران

في لقاء منفصل مع حجابي كرلانغيتش، سفير تركيا في طهران، أشار وزير العلوم الإيراني إلى القدرات المشتركة والروابط الثقافية بين إيران وتركيا، مؤكدًا على تعزيز التعاون العلمي والبحثي والثقافي بين البلدين.

بدوره، أكد السفير التركي في إيران على اهتمام أنقرة بتعزيز العلاقات العلمية والثقافية مع إيران.

وناقش الجانبان خلال الاجتماع إطلاق تخصصات وكُرسيّات مشتركة، وتبادل الأساتذة والطلاب، وتعزيز المراكز التعليمية، وحل مشكلات الطلاب الدارسين في البلدين.

وأوضح سيمائي حول اعتماد الجامعات التركية: “في إيران، نحدد اعتماد الجامعات عبر التصنيف. بالنسبة للجامعات التركية، نأخذ في الاعتبار التصنيفين الإقليمي والعالمي. يتم نشر قائمة الجامعات المعتمدة من قبل منظمة شؤون الطلاب الإيرانية لإعلام الطلاب الراغبين بالدراسة في الخارج، ويُعتبر التصنيف معيارًا للاعتماد. أقترح تشكيل لجنة مشتركة لتحديث هذه القائمة وإدخال التعديلات اللازمة بعد الدراسة الدقيقة”.

كما تابع السفير التركي موضوع تسهيل دخول وخروج الطلاب الأتراك الدارسين في إيران، حيث أوضح، نائبة وزير العلوم الايراني ورئيس منظمة شؤون الطلاب، أنه تم التنسيق مع الشرطة الحدودية والجهات المعنية لضمان عدم مواجهة الطلاب الأتراك أي صعوبات في هذا الشأن.

في الختام، اقترح الوزير الإيراني تعاون الجامعات والمؤسسات البحثية الإيرانية والتركية في تخصصات متنوعة مثل الأدب والعلوم الأساسية والتقنية. وأعرب الجانبان عن استعدادهما لتعزيز التعاون العلمي بين البلدين إلى مستوى مستدام وبناء من خلال مشاريع مشتركة وتخطيط طويل المدى.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • استثمار تكنولوجى
  • ايران تعلن استعدادها لتوفير التعليم الجامعي عبر الانترنت للنساء الافغانيات
  • رئيس وزراء أرمينيا ييدأ زيارة رسمية إلى ألمانيا
  • ايران: كان علينا أن نثبت أن الأعداء لا يمكنهم بلوغ أهدافهم عبر الحرب
  • وزير الصحة يلتقي سفير ايران بالسودان
  • الأرصاد: منخفض جوي يبدأ تأثيره على الأردن الأربعاء
  • ايران تنفي تدخلها في لبنان و3 مطالب رفعها بري إلى طهران
  • فرص استثمار واعدة بمنطقة هوُّ الصناعية شمال قنا (تفاصيل)
  • ايران: مستعدون لمفاوضات نووية جدية مع واشنطن
  • تربويون: التعلم القائم على المشاريع استثمار في مستقبل الطلبة