مُستقبل التفاوض النووي بين إيران والغرب بعد حرب الـ12 يوماً
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
فرص وقيود :
مُستقبل التفاوض النووي بين إيران والغرب بعد حرب الـ12 يوماً
شبَّه أحد الكتّاب الإيرانيين الحرب الإسرائيلية الأمريكية على إيران، التي استمرت في الفترة من 13 حتى 24 يونيو 2025، بأنها كمن ألقى القنابل على طاولة التفاوض. وذلك على اعتبار أن تلك الحرب اندلعت في خضم المفاوضات التي كانت جارية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، والتي كانت قد وصلت إلى الاتفاق على جولتها السادسة؛ إذ كان من المفترض أن تُعقد تلك الجولة في 15 يونيو؛ وهو ما لم يحدث بسبب اندلاع الحرب قبلها بيومين.
ولا شك أن الحرب قد أثّرت بشدة في مسار التفاوض الذي كان قائماً، بما يشي بأن شكل ومضمون المفاوضات قبل الحرب يختلف عن طبيعتها وشروط أطرافها في حال عادت تلك الأطراف للمفاوضات مرة أخرى.
تحديات ماثلة:
أدَّت الهجمات الإسرائيلية الأمريكية على إيران إلى بروز العديد من التحديات في مسار المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
فقدان الثقة المُتبادلة: ضاعفت الحرب الإسرائيلية، والتي جرت بمساعدة أمريكية، من حالة تراجع الثقة لدى الإيرانيين في الولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار أن واشنطن قد شاركت في عملية خداع إيران، والتي أسهمت في إنجاح الضربة الإسرائيلية الأولى ضد القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، قبل أن تنضم الولايات المتحدة إليها فعلياً في الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية. وقد عزّز ذلك السردية التي يتبناها الأصوليون في إيران، والقائمة على رفض التفاوض مع الولايات المتحدة، واعتبار ذلك نوعاً من الاستسلام وإظهار الضعف والخديعة، فضلاً عن كونه شكلاً من “الغباء السياسي”، مدللين على ذلك، بقبول فريق التفاوض الإيراني، والذي كان يقوده أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني والرئيس اللاحق فيما بعد حسن روحاني، لشروط تجميد الأنشطة النووية، في إطار ما يُعرف بإعلان سعد آباد، والذي جرى توقيعه مع الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، في عام 2003، خشية أن تتعرض طهران لغزو أمريكي، مثلما جرى لجارتها الغربية (العراق)، وذلك خلال رئاسة محمد خاتمي. إلا أن ذلك لم يحُل دون توقيع ست حزم من العقوبات الأممية على إيران، في عهد الرئيس اللاحق له محمود أحمدي نجاد. كما يحاجج أنصار هذا الموقف بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه قد انسحب من الاتفاق النووي الموقع في 2015، في مايو 2018، وفرض سياسة “الضغط الأقصى” على إيران؛ وهو ما جعل الثقة في أي وعود أمريكية محل شك من جانب الإيرانيين، بل واتهام من قِبل البعض بـ”العمالة” و”الخيانة”.وفي المقابل، ترى الإدارة الأمريكية أنها منحت الفرصة لطهران، من خلال إرسال ترامب رسالة إلى المرشد علي خامنئي، والتي نصت على أن أمام إيران 60 يوماً للتوصل لاتفاق بشأن برنامجها النووي، إلا أن ما جرى خلال تلك المفاوضات، هو تكرار لنهج إيران في المماطلة والتعنت في الشروط، ما أفقد إدارة ترامب الثقة في جدية إيران في التوصل لاتفاق؛ الأمر الذي أسهم في منح واشنطن الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ الهجمات العسكرية ضد إيران.
تراجع الحماس الأمريكي: يبدو جلياً أن موقف إدارة ترامب، بعد الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية الثلاث (فوردو، نطنز، أصفهان)، تراجع فيما يتعلق بدعوة إيران للعودة لطاولة المفاوضات مرة أخرى، بخلاف ما كان يحدث قبل هذه الهجمات؛ إذ كانت واشنطن تبدو أكثر تعجلاً في إتمام اتفاق مع الجانب الإيراني.ويُعزى الموقف غير المتحمس من جانب واشنطن لعقد اتفاق مع الجانب الإيراني لسبييْن: الأول هو اعتقاد الرئيس الأمريكي ترامب بأن تلك الضربات قد دمّرت برنامج إيران النووي بشكل كامل، وأنها أعادت هذا البرنامج عقوداً إلى الوراء؛ ومن ثم فلا حاجة مُتعجلة للعودة للمفاوضات طالما أن إيران ليست بمقدورها تخصيب اليورانيوم لسنوات. والثاني هو الاعتقاد بأن دعوة طهران للعودة للمفاوضات هي إقرار بالتقييمات التي تُشكك في التأثير الكبير للضربات الأمريكية، حتى من داخل الولايات المتحدة ذاتها؛ ومن ثمّ فإن تكرار الدعوة للعودة للمفاوضات هو تشكيك في موقف ترامب بشأن تأثير تلك الضربات.
ومن ثم تجد واشنطن في المرحلة الحالية، أن الخيار الأفضل هو الاستمرار في فرض عقوبات قاسية تستهدف الاقتصاد الإيراني، وفي القلب منه القطاع النفطي؛ ما يزيد الضغوط الداخلية على النظام، خاصة مع تفاقم العديد من المشكلات في الداخل، مثل أزمة المياه والكهرباء والإنترنت والتضخم وغيرها، بما يُسهم في النهاية في إجبار طهران على العودة للمفاوضات وتقديم تنازلات. ومن ذلك؛ إعلان وزارة الخزانة الأمريكية، في 30 مايو 2025، عقوبات جديدة على أكثر من 115 فرداً وكياناً وسفينة على صلة بقطاع النفط الإيراني.
بقاء الخيار العسكري: لعل من أبرز النتائج التي أسفرت عنها الحرب الأخيرة بين كل من إيران وإسرائيل، أنها نقلت الصراع الدائر بين العدويْن اللدوديْن من مساحة “حرب الظل”، والتي استمرت لعقود بينهما، إلى المواجهات العسكرية المباشرة، صحيح أن البلدين قد دخلا في حالة من الضربات المُتبادلة، خلال شهري إبريل وأكتوبر 2024، إلا أنها كانت محدودة، ولم تخرج عن إطار الفعل ورد الفعل، وهو أمر يختلف عن المواجهات الأخيرة، والتي استُخدمت فيها الوسائل العسكرية والأمنية والاستخبارية والسيبرانية لإحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر لدى الطرف الآخر. ومن جهة أخرى، فإن الضربات الأمريكية الأخيرة ضد منشآت إيران النووية، تُعد أول استهداف أمريكي مباشر لأراضٍ إيرانية؛ وهو ما كسر بدوره حاجزاً كان قد رسخ في المخيال الاستراتيجي لكلتا الدولتيْن بشأن تجنب المواجهة العسكرية المباشرة؛ وهو ما يفرض بدوره مساحة حركة مرنة لصانع القرار.وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الملفات الخلافية التي اندلعت على إثرها الحرب الأخيرة لم يتم حسمها بشكل نهائي، سواء ما يتعلق بالبرنامجيْن النووي والصاروخي أم حتى ما يتعلق بنفوذ إيران الإقليمي ودعمها للمجموعات المسلحة المناوئة لإسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة، بل أُضيف لتلك الخلافات، في أعقاب الحرب الأخيرة، القيود التي وضعتها طهران على التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ إذ أصدر مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) قراراً يُلزم الحكومة بتعليق التعاون مع الوكالة؛ وهو ما يُحيل التعاون مع الوكالة إلى مجلس الأمن القومي الإيراني باعتباره ملفاً أمنياً بعد اتهام طهران للوكالة بأنها قدمت معلومات عن المنشآت والعلماء النوويين ما سهّل استهدافهم، وعلى إثر ذلك غادر مفتشو الوكالة إيران، ودخلت الأخيرة في حالة من “العمى النووي” بالنسبة للمجتمع الدولي.
ومن ثمّ فإن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، تقف متحفّزة لأي محاولة من جانب إيران لإعادة ترميم برنامجها النووي أو الصاروخي؛ وهو ما يكرّره المسؤولون في واشنطن وتل أبيب، ويرد عليه المسؤولون الإيرانيون بالاستعداد للرد على أي هجوم عسكري جديد، وأن “طبيعة الرد وساحة المعركة تتغير عن الجولة السابقة، وستكون ردود الفعل أشد وطأة من ذي قبل”، بحسب المتحدث باسم الحرس الثوري علي محمد نائيني، في 30 يونيو 2025.
الاتجاه نحو رفع سقف المطالب: يبدو أن المواجهات العسكرية بين إيران من جانب وإسرائيل مدعومة من القوى الغربية من جانب آخر، قد دفعت جميع الأطراف إلى مزيد من التشدد ورفع سقف المطالب، فبجانب الإصرار الأمريكي على أن يتضمن الاتفاق المُحتمل توقيعه مع إيران تجميد برنامجها النووي بشكل كلي، فقد بدا أن إسرائيل والقوى الغربية باتت تضع شروطاً أخرى بجانب هذا الشرط، وهي تحييد “التهديد الصاروخي البالستي”، ووقف “أنشطة زعزعة الأمن الإقليمي”، وهو ما صرّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 13 يوليو 2025، وكرّره وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، في 27 من الشهر نفسه.وترفض إيران إدراج أي ملف في المفاوضات بخلاف الملف النووي، كما ترفض التخلي عن تخصيب اليورانيوم، وتعده حقاً قانونياً بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، التي صادقت على الانضمام إليها عام 1970.
بل برز اتجاه مُتنامٍ، لا سيما من تيار الأصوليين، يطالب بالمضي قدماً نحو إنتاج السلاح النووي، على أساس أن الدول التي تمتلك سلاحاً نووياً لا يمكن هزيمتها عسكرياً أو تغيير نظامها السياسي من الخارج بالقوة، وهو ما جاء على لسان السياسي الإيراني حسين موسويان، خلال حوار له مع صحيفة “دنياى اقتصاد”، في 25 يونيو 2025. كما تلوّح طهران بالخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، بحسب تصريح المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني إبراهيم رضائي، في 28 يوليو 2025، والذي يعني – في حال إقراره- أن الباب مفتوح أمام إنتاج طهران للسلاح النووي؛ إذا ما اتُخذ قرار بذلك.
فرص داعمة:
رغم ما فرضته الحرب الإسرائيلية الإيرانية من تداعيات سلبية على مسار المفاوضات الأمريكية الإيرانية؛ فإن ثمّة فرصاً تلوح في الأفق، يمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:
انفتاح طهران على الترويكا الأوروبية: التقى وفد من وزارة الخارجية الإيرانية على مستوى نواب الوزير، بنظرائهم من دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، في إسطنبول، الجمعة 25 يوليو 2025، في أول لقاء منذ التصعيد العسكري الأخير بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة، لبحث حل لأزمة البرنامج النووي الإيراني، بعد تجميد المفاوضات التي كانت تجرى بين طهران وواشنطن، بوساطة عمُانية.ويُعزى القبول الإيراني لاستئناف مسار المفاوضات مع الترويكا الأوروبية، والذي كان قائماً بالفعل بالتوازي مع مسار المفاوضات الإيرانية الأمريكية، إلى رغبة طهران في تحييد أو تعطيل تفعيل “آلية الزناد”، والتي تعني العودة التلقائية للعقوبات التي كانت مفروضة على إيران قبل توقيع الاتفاق النووي في 2015، والتي هددت الترويكا الأوروبية بتفعيلها بنهاية أغسطس 2025؛ إذا لم يتم إحراز تقدم دبلوماسي ملموس بشأن البرنامج النووي الإيراني. ورغم تأكيد متحدث الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، أن دول الترويكا الأوروبية لا تمتلك الحق الأخلاقي ولا القانوني لتفعيل تلك الآلية، إلا أن انخراط طهران في المفاوضات مع دول الترويكا يؤكد تخوّفها من إحالة ملفها لمجلس الأمن وإدراجه ضمن الفصل السابع.
صحيح أن ترامب، كان قد تعمَّد استبعاد الترويكا الأوروبية من جولات التفاوض الخمس، التي عقدت قبل اندلاع الحرب الأخيرة، إلا أن ذلك لا يمنعها من أن تؤدي دوراً مهماً في المرحلة المقبلة من المفاوضات المُحتملة لاعتباريْن: الأول هو التكامل في المواقف بين الترويكا الأوروبية والموقفيْن الأمريكي والإسرائيلي، في ثالوث الضغط الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري على إيران؛ إذ ترى طهران أن القرار الذي أدت الأطراف الأوروبية دوراً مهماً في استصداره من مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان بمثابة التمهيد لشنّ إسرائيل – والولايات المتحدة لاحقاً- هجومهما على إيران وتستدل بذلك في عدم إدانة هذه الأطراف لما تعتبره طهران “عدواناً” عليها، والثاني أن الترويكا الأوروبية ما زالت تمسك بورقة ضغط مهمة تجاه طهران، وهي “آلية الزناد”، وتهدد بتفعيلها قبل 18 أكتوبر 2025، تاريخ انتهاء مفاعيل الاتفاق النووي؛ وهو ما يمنحها الفرصة لأداء دور مهم في المفاوضات المُحتملة، فضلاً عن تقاسمها مع واشنطن النتائج الاقتصادية في حال التوصل لاتفاق مع إيران.
إلى جانب ذلك، وافقت إيران على زيارة وفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن تتضمن الزيارة المرتقبة مباحثات فنية بين الجانبين، من دون السماح بزيارة المنشآت النووية. وهي رسالة أرادت طهران توجيهها للغرب بأنها لم تتخلَّ عن موقفها المتشدد بعد الحرب؛ لكنها تترك الباب موارباً أمام أي تفاهمات مستقبلية.
الغموض النووي والصاروخي: تُشير تقييمات عدّة، بما فيها الأمريكية والإسرائيلية، إلى أن الضرر الذي أصاب البرنامج النووي الإيراني، ليس بالفادح، وأن طهران، يمكنها استئناف التخصيب، ربما في فترة تتراوح ما بين أشهر إلى عام، كما ترجح تلك التقييمات أن تكون إيران قد نجحت في الحفاظ على اليورانيوم عالي التخصيب، والذي قدّرته بنحو 400 كيلوغرام؛ وهو اليورانيوم الذي يمكن أن يستخدم في صناعة السلاح النووي، في حال اتُخذ قرار بذلك. إلا أن البنية التحتية للبرنامج النووي؛ من منشآت تخصيب وغرف أجهزة الطرد المركزي، فقد اختلفت التقييمات في تقدير حجم الأضرار التي تعرضت لها.إلا أن المعلوم أن البرنامج النووي الإيراني لا يقتصر على المواقع المعلنة، بل إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها ملف خلافي ما زال مفتوحاً مع إيران، بشأن العثور على جزيئات يورانيوم مخصب في مواقع غير معلنة، فضلاً عن أن المواقع النووية المعروفة في إيران حالياً، قد كشفت عنها المعارضة الإيرانية في الخارج، بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية. وجدير بالذكر أن “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” المعارض والموجود بالخارج، كان قد كشف، قبيل أيام من الهجمات الإسرائيلية، أن السلطات الإيرانية تخفي مشروعاً متكاملاً لإنتاج الأسلحة النووية يُسمّى “خطة كوير”، في محافظة سمنان الصحراوية في إيران.
وبالتوازي مع ذلك؛ فإن البرنامج الصاروخي لا يقل غموضاً عن البرنامج النووي، ففي الوقت الذي كشفت فيه صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، في 25 يوليو 2025، نقلاً عن مصادر إسرائيلية أن نحو نصف الصواريخ البالستية الإيرانية ونحو 80% من منصات إطلاق الصواريخ، قد دمّرت خلال حرب الـ12 يوماً، إلا أن استمرار الضربات الصاروخية الإيرانية المؤثرة حتى آخر ساعة قُبيل وقف إطلاق النار، بالإضافة لما كشفته منظمة الفضاء الإيرانية، في 23 يوليو 2025، من اختبار شبة مداري لصاروخ “قاصد” الحامل للأقمار الاصطناعية، يوحي بأن برنامج إيران الصاروخي ما زال محل تساؤل حول مدى الضرر الذي أصابه.
ولا شك أن حالة الغموض الاستراتيجي تلك مفيدة لإيران، بل وقد تكون مدعاة لأن تقدم الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية على إقناع طهران بضرورة التوصل لاتفاق، على أساس أن هذا الاتفاق المُحتمل هو الحل الأنجع لكبح جماح برنامجيْ إيران النووي والصاروخي.
كُلفة وحدود الخيار العسكري: تُشير النتائج التي أسفرت عنها الحرب الإسرائيلية الأمريكية- الإيرانية، إلى أنها كانت ذات كُلفة عالية لجميع الأطراف، فمنشآت إيران النووية وقدراتها الصاروخية تعرضت لتدمير لا يبدو هيناً، كما فقدت إيران قادة عسكريين كباراً، صحيح أنها سدت الفراغات التي خلّفها مقتلهم بعد ساعات، إلا أن غياب شخصيات مؤثرة مثل قائد القوة الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري أمیر علي حاجي زاده، وكذلك قائد مقرِّ خاتم الأنبياء المركزي غلام علي رشید، وهما من مؤسسي البرنامج الصاروخي الإيراني، فضلاً عن كبار العلماء النوويين، لا شك سيحدث فرقاً في الاستراتيجيات النووية والصاروخية لإيران. وقد كان تعبير المرشد الإيراني علي خامنئي، خلال مشاركته في الذكرى الأربعين لمقتل القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، بأن “إيران تعرضت لمصيبة قاسية ومريرة”، معبّراً عن حجم الخسائر الإيرانية.وبالنسبة لإسرائيل؛ فقد أحدثت الصواريخ الإيرانية، والتي تزايد تطورها ودقتها مع مرور أيام الحرب، أضراراً لا تبدو هينة داخل إسرائيل؛ إذ استهدفت مقر وزارة الدفاع، ومعهد وايزمان للأبحاث، وميناء حيفا، ومنطقة بات يام، وقواعد عسكرية لم يُعلن عنها، وغيرها، فضلاً عمّا شهدته إسرائيل من تعطيل للحياة العامة طيلة فترة الحرب؛ بسبب تكرار الضربات الصاروخية.
يُضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة، قد خسرت، نتيجة نشرها منظومة “ثاد” الدفاعية في إسرائيل، نحو ربع مخزونها من الصواريخ، في التصدي للصواريخ الإيرانية التي كانت تهاجم إسرائيل، وفق تقرير نشرته شبكة “سي إن إن”، في 28 يوليو 2025.
ومع ذلك، ووفق أغلب التقييمات، لم تنهِ الضربات العسكرية البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل، بل إنها أخّرته أشهراً أو عاماً. كما أن أقصى التقديرات تُشير إلى تضرر جزئي لحق بالبرنامج الصاروخي. ومن ثمّ فإن العمل العسكري له حدود، كما أنه تترتب عليه تكلفة؛ وهو ما يؤكد السردية التي تقول بألا حل للأزمة النووية الإيرانية إلا عبر المفاوضات والتوصل لاتفاق، وهو ما كرّره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وربما هذا ما دعا الرئيس ترامب، لدعوة إيران للتفاوض في أسرع وقت فور إعلان وقف إطلاق النار بينها وبين إسرائيل؛ حيث قال: “إيران خاضت الحرب بشجاعة وقد نتفاوض معها الأسبوع المقبل”.
استمرار الاتصالات بين واشنطن وطهران: يؤكد المسؤولون الأمريكيون والإيرانيون أن الاتصالات والمباحثات بينهما لم تنقطع، حتى في وقت الحرب، وقد أكّد ذلك وزير الخارجية الإيراني، في تصريحات له، في 30 يوليو 2025، كما أكد نائبه للشؤون السياسية مجيد تخت روانجي أن الاتصالات بين الجانبين الأمريكي والإيراني لم تنقطع عبر دول وسيطة.وجدير بالذكر أن طهران قد أبدت تجاوباً، مع إمكانية استئناف المفاوضات مؤخراً؛ إذ أشار نائب وزير الخارجية للشؤون القانونية كاظم غريب آبادي، في 24 يوليو 2025، إلى أن بلاده مستعدة للعودة لطاولة المفاوضات، بشروط يأتي على رأسها ضمان ألا تهاجم إيران عسكرياً مرة أخرى، وثانياً الاعتراف بحقها في تخصيب اليورانيوم ولو بنسب ضئيلة كتلك المنصوص عليها في الاتفاق النووي الموقع في 2015، وأن ترفع العقوبات المفروضة عليها، وهو ما أعقبه تصريح من المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، في 27 يوليو 2025، بأن استئناف المفاوضات مع إيران بات قريباً.
إلا أن العودة للمفاوضات لا تبدو هينة بالنسبة لإيران على الأقل، والتي تشهد صراعاً محموماً بين تيارين؛ أحدهما يرى أن التفاوض هو خيانة عظمى، والآخر يرى أن التفاوض والتوصل لاتفاق هو المفتاح السحري لحل الأزمات التي يئن تحت وطأتها قطاع عريض من الإيرانيين، وتظل المفاوضات في النهاية تكتيكاً، يحدد توقيته المناسب المرشد الإيراني، بحسب ما صرّح به مستشاره علي لاريجاني.
ختاماً؛ يمكن القول إن حرب الـ12 يوماً بين إيران وإسرائيل قد ألقت بظلال كثيفة على المفاوضات التي كانت تجري بين إيران والولايات المتحدة، ووضعت العقبات والعراقيل في طريقها؛ ما أدى إلى تعثُّرها، ودخولها في سرداب مجهول. وفي حين اختلقت هذه الحرب أيضاً فرصاً قد تدفع باتجاه المضي قدماً نحو العودة للمفاوضات. إلا أن البَوْن بين العودة للمفاوضات والتوصل لاتفاق ليس بالأمر الهين؛ إذ تتمسك الولايات المتحدة بمبدأ تجميد البرنامج النووي الإيراني، في حين تُصر طهران على أن ذلك حق مشروع لها، بل وسوّقت له باعتباره قضية سيادية في الداخل والخارج؛ وهو ما قد يحكم على أي مفاوضات مقبلة بالفشل، ما لم تكن هناك متغيرات أخرى داخلية أو خارجية تُعيد حسابات الأطراف نحو رؤية جديدة.
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
وزير الخارجية يبحث مع نظيره الإيراني وجروسي العودة إلى مفاوضات البرنامج النووي
أكد وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطي، أهمية الالتزام بالمسارات الدبلوماسية، وتهيئة الظروف اللازمة لاستئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما يسهم في تعزيز الثقة المتبادلة، وخلق مناخ موات لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي.
جاء ذلك خلال مباحثات هاتفية بين وزير الخارجية المصري الدكتور بدر عبدالعاطي، مساء أمس الثلاثاء، مع كل من نظيره الإيراني عباس عراقجي، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، في إطار التحركات المصرية الرامية إلى خفض التصعيد والتوتر بالمنطقة، واستئناف التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية والعودة إلى المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، دعمًا للمسار السياسي والدبلوماسي.
كما تناول وزير الخارجية خلال اتصاله مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية مستجدات الملف النووي الإيراني، إذ استمع من المدير العام لتقييمه للزيارة التي أجراها نائب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى طهران، وسبل استعادة الثقة بين الوكالة وإيران واستئناف التعاون بينهما، فضلًا عن دعم التعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية بين الوكالة ودول المنطقة، بما يعزز من دور الوكالة في صون الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.