د. محمد بشاري يكتب: الإفتاء في زمن الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 15th, August 2025 GMT
لم يكن المؤتمر العاشر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم مجرد تظاهرة علمية روتينية، بل كان انعطافة حقيقية في مسار الفكر الإفتائي المعاصر، إذ جمع بين أهل الفقه ومهندسي التقنية وصناع القرار، ليبحثوا في سؤال لم يعد مؤجلًا: كيف يمكن لمؤسسات الإفتاء أن تظل وفيّة لمرجعيتها الشرعية، وهي تخوض غمار عصر تتسارع فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتعيد تشكيل طرق المعرفة ووسائطها؟
في قلب هذه الفعالية برزت “وثيقة القاهرة حول الذكاء الاصطناعي والإفتاء” باعتبارها أهم مخرجات المؤتمر وأبرز تعبير عن الوعي الاستباقي الذي بدأ يتشكل في العقل الإفتائي العالمي.
هذه الوثيقة تنطلق من مبدأ راسخ: أن الإفتاء فعل إنساني مركب لا ينفصل عن ملكات العقل الفقهي، ولا يجوز إسناده إلى البرمجيات استقلالًا، لأن الاجتهاد يتطلب إدراك المقاصد، وفهم السياقات، واستحضار المآلات، وهي عناصر لا تتوافر في المعالجة الآلية مهما بلغت من التطور. لكنها، في الوقت ذاته، لا تدعو إلى الانغلاق أو رفض التقنية جملة، بل تفتح الباب أمام توظيفها كأدوات مساندة للمفتي، شريطة أن تكون خاضعة لضوابط معرفية وأخلاقية واضحة.
من أبرز ما شددت عليه الوثيقة ضرورة بناء أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي في الإفتاء، وذلك عبر لجان رقابة علمية مستقلة، تمنع تسلل الفوضى أو التلاعب بالبيانات، وتحول دون خضوع الفتوى لهيمنة مصادر غير منقحة أو موجهة أيديولوجيًا. كما حذرت من مخاطر الاعتماد على قواعد بيانات مفتوحة مجهولة المصدر، لما يترتب على ذلك من تحريف المعاني الشرعية أو إسقاط الأحكام في غير مواضعها.
على المستوى الأصولي، اعتمدت الوثيقة على جملة من القواعد الكبرى مثل “اعتبار المآل” و”سد الذرائع وفتحها” و”الوسائل لها حكم المقاصد”، لتؤكد أن إدخال التقنية في الإفتاء لا يمكن أن ينفصل عن فقه الضوابط والحدود. وهي بهذا تضع حدًا لتوجهين متقابلين: توجه الانبهار الذي يلهث وراء التقنية دون ضوابط، وتوجه الرفض المطلق الذي يحكم عليها بالفساد قبل النظر في إمكان توظيفها الرشيد.
ولعل البعد الاستراتيجي في هذه الوثيقة يكمن في دعوتها إلى إعادة صياغة مناهج إعداد المفتين، بحيث تتضمن تدريبًا على أدوات التحليل الرقمي وفهم منطق عمل النظم الذكية، لا بهدف تحويل الفقيه إلى مبرمج، بل لتمكينه من توجيه التقنية ومساءلتها بدل الانقياد لنتائجها الجاهزة. كما طرحت فكرة التعاون الدولي بين دور الإفتاء لتوحيد المعايير والمصطلحات في ظل بيئة رقمية عابرة للحدود، وهو ما يفتح الباب أمام “حوكمة عالمية للفتوى” قادرة على مواجهة التحديات المشتركة.
بهذا التصور، يصبح الإفتاء في زمن الذكاء الاصطناعي مجالًا لإعادة هندسة العلاقة بين المرجعية الشرعية والوسائط التقنية، حيث يظل الإنسان هو صاحب القرار الاجتهادي، بينما تعمل الآلة كامتداد لأدواته، لا كبديل عنه. وإذا ما تحولت هذه الوثيقة من نصٍّ إرشادي إلى إطار إلزامي داخل المؤسسات الفقهية، فإنها قد تؤسس لمرحلة جديدة تحفظ للفتوى أصالتها، وتضمن في الوقت ذاته انفتاحها على أدوات العصر.
إن التحدي الأكبر اليوم ليس في إدخال الذكاء الاصطناعي إلى منظومة الإفتاء، بل في ضمان أن يكون دخوله مضبوطًا برؤية مقاصدية، تحفظ الإنسان من الاستلاب، والمجتمع من الفوضى الرقمية، والشريعة من التفريغ من معناها. وهذا ما جعل وثيقة القاهرة لا تُقرأ فقط كأحد مخرجات مؤتمر، بل كبوصلة فكرية توجه الإفتاء نحو مستقبل متوازن، تتكامل فيه الحكمة مع التقنية، والمرجعية مع الابتكار، في خدمة مقاصد الشريعة وحاجات الإنسان المعاصر.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الإفتاء الذكاء الاصطناعي الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
أمين الفتوى: الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة للمفتي ولا يغني عن اللمسة الإنسانية
أكد الدكتور أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن الاعتماد المباشر على الذكاء الاصطناعي في إصدار الفتوى أمر غير مقبول، مشددًا على ضرورة التعامل معه باعتباره أداة مساعدة للباحث والمفتي، وليس بديلاً عن العنصر البشري.
وأوضح خلال تصريح له، أن هذه النماذج يمكن أن تسهم في جمع المعلومات وتصنيفها وتنظيمها، لكنها تحتاج دائمًا إلى مراجعة بشرية لضمان صحة المخرجات.
وأضاف ممدوح أن الذكاء الاصطناعي، شأنه شأن أي أداة تكنولوجية، محايد في طبيعته، ويتحدد أثره بمدى حسن أو سوء استخدامه، مؤكدًا أن الاستفادة منه في المجال الإفتائي يجب أن تتم في إطار مؤسسي يضمن المراجعة والاعتماد، ويحافظ على الثوابت الشرعية بالتوازي مع مواكبة مقتضيات العصر.
مفتي الجمهورية لـ إمام المركز الثقافي في لندن: دار الإفتاء داركم وأهلًا بكم
مفتي جنوب أفريقيا: أعتز بانتمائي للأزهر الشريف وتدريبي في دار الإفتاء المصرية
وأشار إلى أن العمل المؤسسي في الإفتاء يوفر الاستمرارية والدعم المادي والمعنوي، ويضمن أن تكون الفتاوى صادرة عن مختصين ذوي خبرة وكفاءة، وليس عن جهود فردية قد تفتقر إلى المراجعة أو الاستدامة.
وفي ما يتعلق بمقومات المفتي الرشيد، أوضح ممدوح أن تكوينه العلمي المتزن، والتدريب العميق على المهارات الإفتائية، والقدرة على فهم الواقع من خلال الاستعانة بالخبراء في مختلف المجالات، هي عناصر أساسية، مشددًا على أهمية الإلمام بالقدر الكافي من التقنيات الحديثة لتمكين المفتي من التعامل مع قضايا العصر بوعي ودقة.