العنوان: حول الديمقراطية المسلمة: السيادة، الشريعة، والشعب
المؤلف: أندرو ف. مارش
المشارك في النسخة العربية: راشد الغنوشي (مقدّمة وتعقيبات)
الناشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 2023
عدد الصفحات: 271 صفحة


تمثّل العلاقة بين الإسلام والديمقراطية واحدة من أكثر القضايا إثارةً للنقاش في الفكرين العربي والغربي المعاصرين، لما تطرحه من أسئلة مركبة تتعلّق بمفهوم السيادة، ومصدر الشرعية، وطبيعة الحكم، وموقع الإنسان في المنظومة السياسية الإسلامية.

وقد تزايد الاهتمام بهذا الموضوع في السياق التونسي ما بعد الثورة، حيث وجد الإسلاميون أنفسهم أمام تحدي التوفيق بين المرجعية الدينية ومتطلبات الدولة الديمقراطية الحديثة.

في هذا السياق، يأتي كتاب "حول الديمقراطية المسلمة.. السيادة، الشريعة، والشعب" كمساهمة فكرية أصيلة، مشتركة بين الفيلسوف السياسي الأمريكي أندرو مارش والمفكر التونسي راشد الغنوشي. فالكتاب لا يكتفي بعرض نظري، بل يسعى إلى تفكيك الممانعة المفترضة بين الإسلام والديمقراطية، من خلال نحت مفهوم مركّب هو "الديمقراطية المسلمة"، يقوم على التوفيق بين السيادة الشعبية والمبادئ الإسلامية.

تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية تأويلية في هذا العمل، مع التركيز على الإشكالات النظرية التي يثيرها، وخصوصًا إشكالية السيادة السياسية في الفكر الإسلامي، كما عالجها الفصل الأول من الكتاب. وتنطلق الورقة من فرضية أساسية مفادها أن الكتاب يسعى إلى تقديم بديل تأصيلي إسلامي لمفهوم السيادة، يتجاوز الثنائية التقليدية بين "حكم الله" و"حكم الشعب"، ويعيد بناء نظرية سياسية من داخل المرجعية الدينية.

الفصل الأول ـ السيادة السياسية بين الله والإنسان: تفكيك المعضلة

ينطلق أندرو مارش في الفصل الأول من الكتاب من سؤال مركزي: من يملك السلطة العليا في النظام السياسي الإسلامي؟ هل هي لله؟ أم للأمة؟ أم للحاكم؟ أم لمجموع القيم المستمدة من الشريعة؟

هذا السؤال الذي يبدو فلسفيًا في ظاهره، يتصل بأحد أخطر التوترات في الفكر السياسي الإسلامي، وهو التوتر بين المرجعية العلوية للشريعة والفاعلية الأرضية للأمة، أي بين ما هو متعالٍ إلهي وما هو واقعي بشري.

في مقابل الفكرة الغربية الحديثة التي ترى أن "السيادة للشعب"، باعتباره مصدر الشرعية ومفوض السلطات، يرى الفكر الإسلامي الكلاسيكي أن "السيادة لله"، وأن الحاكم ليس إلا منفّذًا لأوامر الشريعة، لا ممثلًا لإرادة الجماعة. غير أن هذا التأسيس أدى إلى تقييد دور الأمة، واختزالها في "البيعة" الشكلية، أو في واجب الطاعة للحاكم "المتغلب".

يحاول مارش تفكيك هذا المأزق من خلال استعراض موقف الفقهاء التقليديين: الماوردي، رغم دقته في بناء نظام الحكم، أبقى الأمة في موقع التلقي، ابن تيمية قدّم تصورات إصلاحية، لكنّها بقيت تدور حول الحاكم العادل لا حول الأمة الفاعلة، ابن خلدون، رغم نقده للسلطة الوراثية، لم يطرح بديلاً ديمقراطيًا حقيقيًا.

يُشير مارش هنا إلى أن الفقه السياسي الإسلامي لم يطوّر مفهومًا متماسكًا للسيادة الشعبية، بل تعامل مع السلطة كأمر واقع تنظّمه الشريعة لا كإرادة يُنتجها الشعب.

في هذا السياق، يقدّم الكاتب مخرجًا فلسفيًا تأويليًا يتمثل في مفهوم "خلافة الإنسان". يرى مارش أن القرآن ذاته يضع الإنسان في موقع الخلافة عن الله في الأرض: "إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (البقرة: 30). وبذلك، فإن السيادة التي تُنسب إلى الله، لا تُقصي دور الإنسان، بل تُحيله إلى وكيل مأذون، لا عبدٍ منزوع الإرادة. وهنا يقترح مفهومًا وسطًا: الله هو مصدر السيادة من حيث المرجعية والقيم، والإنسان ـ كجماعة ـ هو الفاعل السيادي الأرضي المكلّف بتجسيد القيم. هكذا تصبح الأمة "الخليفة الجماعية" لله، بما يعيد تعريف السيادة ليس كـ"ملكية مطلقة"، بل كـ"أمانة جماعية"، تؤول في النهاية إلى نظام تشاركي ديمقراطي مقيد بالشريعة.

يرى مارش أن أغلب منظّري السياسة في الإسلام ـ من الماوردي إلى الجويني وابن خلدون ـ لم يُنتجوا نظرية متكاملة للسيادة، بل قدموا محاولات لتقنين السلطة القائمة، خاصة في ظل غياب النموذج الراشدي بعد القرن الأول للهجرة.وهذا الطرح يلتقي مع تصور راشد الغنوشي الذي يرى أن الشريعة لا تعارض الديمقراطية، بل تؤسس لها من داخل مقاصدها العليا، شريطة أن تُفهم الشريعة كقيمة وروح، لا كنص جامد.

لكن، رغم هذا البناء التأويلي العميق، يظل التساؤل قائمًا: هل تكفي فكرة "خلافة الإنسان" لتأسيس نظام ديمقراطي حقيقي؟ أم أنها تبقى اجتهادًا فلسفيًا لا يرقى إلى مستوى النظرية السياسية التطبيقية؟

ينبّه مارش إلى أن الجواب لا يكون داخل النصوص فقط، بل في إرادة تأويل حديثة للتراث، ترى في الإنسان فاعلًا مسؤولًا، لا مجرد مكلّفٍ بالطاعة.

الفصل الثاني ـ السيادة في التراث الإسلامي: من التغلب إلى التفويض

يرى مارش أن أغلب منظّري السياسة في الإسلام ـ من الماوردي إلى الجويني وابن خلدون ـ لم يُنتجوا نظرية متكاملة للسيادة، بل قدموا محاولات لتقنين السلطة القائمة، خاصة في ظل غياب النموذج الراشدي بعد القرن الأول للهجرة.

الماوردي في "الأحكام السلطانية" لم يطرح نموذجًا تعاقديًا بين الأمة والحاكم، بل أسس سلطة الخليفة على البيعة "الاضطرارية"، حيث الأمة تبايع، لكن لا تُمارس سلطة فعلية على الحاكم.

الجويني قدّم نظرية أكثر قربًا من التعاقد، حين تحدّث عن "تفويض الأمة للإمام"، لكنه جعل هذا التفويض محكومًا بالشرع، لا بإرادة سياسية حرّة.

أما ابن خلدون، فرغم تأكيده على الطابع القهري للعصبية، فإنه أقرّ بشرعية السلطة القائمة طالما وفّرت الأمن والنظام، وهو بذلك يشرعن واقعية سياسية أكثر من سعيه إلى بناء نظام شرعي شعبي.

ومن أهم المفارقات التي يتوقف عندها مارش هو أن كثيرًا من الفقهاء ـ بمن فيهم من يُحسبون على التيار الإصلاحي ـ قبلوا بشرعية الحاكم المتغلب، أي من يصل إلى السلطة بالقوة، طالما أنه يحافظ على "الجمْع والأمن". هذا القبول ـ وإن بدا واقعيًا ـ يعكس غياب تصور سيادي للأمة، بل يعيدها إلى موقع الجماعة الخاضعة، لا الجماعة المؤسسة للشرعية.

ورغم أن مفكرين مثل الماوردي اشترطوا العدالة والكفاءة في الحاكم، فإنهم لم يمنحوا الأمة أي آلية لمساءلة السلطة أو عزلها، ما جعل السيادة عمليًا تنتقل من الأمة إلى الحاكم، ثم تُغلف بغلاف ديني.

ويشير مارش إلى أن التراث الإسلامي لا يعرف "الشعب" بوصفه فاعلًا سياسيًا، كما في النظريات الحديثة. الأمة ليست "صاحبة سلطة"، بل جماعة مكلّفة بالطاعة، أو في أحسن الأحوال، جماعة تُستشار دون إلزام. وهنا يكمن أحد أكبر التحديات أمام التحديث السياسي في الإسلام: الانتقال من "جماعة المؤمنين" إلى "جمهور المواطنين".

لكن، في الوقت ذاته، لا يُسقِط مارش إمكانية التأويل الإيجابي. فبعض المفكرين الكلاسيكيين، كـ أبي حامد الغزالي، تحدّثوا عن مشروعية الخروج على الحاكم الظالم، وهو ما يشير إلى بقايا حس شعبي سيادي، وإن ظلّ هامشيًا في النسق الفقهي العام.

اما بالنسبة للتراث فلا يسعى  مارش إلى تسفيهه أو تسخيفه، بل إلى تحليله بوصفه خطابًا وظيفيًا نشأ في ظل تحولات سياسية عميقة، من الخلافة الراشدة إلى الدولة الملكية الوراثية. لذلك، فهو يدعو إلى عدم استنساخ هذا التراث، بل قراءته من موقع الإنسان المسلم اليوم، الباحث عن الحرية والمشاركة السياسية.

الفصل الثالث ـ اجتهادات معاصرة في تأصيل السيادة: من رشيد رضا إلى راشد الغنوشي

بعد أن عرض أندرو مارش في الفصلين الأولين المأزق النظري للسيادة في التراث الإسلامي، ينتقل في هذا الفصل إلى تحليل جهود عدد من المفكرين المسلمين المعاصرين الذين سعوا إلى إعادة بناء الفقه السياسي على أسس تُراعي مقتضيات العصر، وفي مقدمتها مطلب السيادة الشعبية.

من أهم المفارقات التي يتوقف عندها مارش هو أن كثيرًا من الفقهاء ـ بمن فيهم من يُحسبون على التيار الإصلاحي ـ قبلوا بشرعية الحاكم المتغلب، أي من يصل إلى السلطة بالقوة، طالما أنه يحافظ على "الجمْع والأمن". هذا القبول ـ وإن بدا واقعيًا ـ يعكس غياب تصور سيادي للأمة، بل يعيدها إلى موقع الجماعة الخاضعة، لا الجماعة المؤسسة للشرعية.يركّز مارش على أربعة مفكرين يُمثلون اتجاهات مختلفة داخل الفكر الإسلامي الحديث: رشيد رضا: كبداية لتحول إصلاحي، يوسف القرضاوي: كممثل للتقليد الوسطي المقاصد، حسن الترابي: كصاحب أطروحة تجديدية جذرية، راشد الغنوشي: كنموذج جامع بين التأصيل الفقهي والتجربة الديمقراطية.

 1 ـ رشيد رضا: الشورى الملزمة ومأسسة الشريعة

ينطلق رضا من خلفية سلفية إصلاحية، لكنه يتأثر بأفكار الحداثة السياسية التي نقلها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

في مشروعه السياسي: يحاول تأصيل مفهوم الشورى بوصفه معادلًا إسلاميًا للديمقراطية، يدعو إلى مأسسة الشريعة، عبر هيئات ومجالس منتخبة تطبق الشريعة لا تصنعها، يقرّ بدور الأمة في مراقبة الحاكم، لكنها تظل خاضعة للقيود الشرعية.

ورغم الطابع التوفيقي في مشروعه، فإن مارش يرى أن رضا تردّد بين السيادة الشرعية والسيادة الشعبية، وظل يميل إلى مركزية الشريعة كمصدر أعلى، ما قيد فعالية الأمة السياسية.

2 ـ يوسف القرضاوي: فقه المقاصد كمدخل للسيادة المقيدة

يمثّل القرضاوي الاتجاه الوسيط الذي حاول توسيع دائرة الاجتهاد السياسي ضمن مرجعية الشريعة، يركّز على فقه المقاصد كمنهج لتجديد فهم السياسة، يعتبر أن الديمقراطية آلية من آليات الشورى الموسّعة، يرى أن الأمة تملك حق اختيار الحاكم ومحاسبته، لكن في إطار المرجعية الإسلامية.

مارش يعتبر القرضاوي مفكرًا إصلاحيًا حذرًا، لم يتقدّم بما يكفي نحو بناء نظرية سياسية متكاملة، بل ظل يجتهد في تبرير آليات الحكم الحديث من داخل النصوص، دون إحداث قطيعة مع البنية الفقهية الكلاسيكية.

3 ـ حسن الترابي: السيادة التعاقدية وإعادة تأويل النصوص

يمثّل حسن الترابي نموذجًا جريئًا في الفكر السياسي الإسلامي، حيث: يطرح نظرية السيادة التعاقدية: فالشعب هو الذي يختار نظام الحكم، ويضع دستوره، يُعيد تأويل النصوص لتبرير مشاركة المرأة، والحقوق المدنية، بل حتى تجاوز بعض الأحكام الفقهية، يؤسس لفكرة الدولة الإسلامية الديمقراطية، حيث لا تعارض بين إرادة الأمة وحاكمية الشريعة.

مارش يُثمّن جذرية الترابي، لكنه يرى أن مشروعه افتقر إلى أرضية جماهيرية صلبة، وأن اندراجه في التجربة السودانية انتهى إلى مآزق سلطوية قلّلت من صدقية أطروحاته النظرية.

4 ـ راشد الغنوشي: الأمة مصدر الشرعية والخلافة الشعبية

يخصّص مارش حيزًا هامًا من الفصل للغنوشي، ليس فقط بسبب مشاركته في النسخة العربية من الكتاب، بل لأن فكره يُعد من أكثر المحاولات نضجًا في الجمع بين الديمقراطية والإسلام.

الغنوشي ينطلق من أن: "الإسلام لا يعارض الديمقراطية، بل يحتويها من داخله، من خلال مبدأ الشورى، ومقاصد العدل والحرية والمشاركة.، ويطرح مفهوم "الخلافة الشعبية" الذي يقوم على: تفويض الأمة للحكم في إطار الشريعة، فهم الشريعة كمقاصد ومصالح متغيرة، وليست مجرد أحكام جامدة، اعتبار الدولة الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية، لا ثيوقراطية.

مارش يلاحظ أن الغنوشي يتجاوز كثيرًا من الحذر الفقهي الذي اتسم به سابقيه، ويؤسس لرؤية تأصيلية ديمقراطية من داخل الإسلام، دون الحاجة لنسخ النموذج الغربي أو تكرار الفقه السلطاني.

الفصل الرابع ـ "خلافة الإنسان": نحو نظرية سيادة تأصيلية

في هذا الفصل، يقدّم أندرو مارش محاولة فلسفية لبناء مفهوم إسلامي للسيادة، لا يقوم على فكرة الهيمنة أو الإكراه، بل على مبدأ "الخلافة"، بوصفها تجسيدًا للعلاقة التكوينية والتكليفية بين الإنسان والله.

الغنوشي ينطلق من أن: "الإسلام لا يعارض الديمقراطية، بل يحتويها من داخله، من خلال مبدأ الشورى، ومقاصد العدل والحرية والمشاركة.، ويطرح مفهوم "الخلافة الشعبية" الذي يقوم على: تفويض الأمة للحكم في إطار الشريعة، فهم الشريعة كمقاصد ومصالح متغيرة، وليست مجرد أحكام جامدة، اعتبار الدولة الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية، لا ثيوقراطية.يمثّل هذا الطرح انتقالًا من المستوى التاريخي والفقهي الذي عولج في الفصول السابقة، إلى مستوى الأنثروبولوجيا السياسية الإسلامية، حيث يصبح سؤال "من يملك السلطة؟" متصلًا بسؤال أعمق: "من هو الإنسان في التصور الإسلامي؟"

 1 ـ الخلافة بوصفها تكليفًا لا تفويضًا سلطويًا

يبدأ مارش باستعادة المعنى القرآني لمفهوم "الخلافة"، كما ورد في قوله تعالى:"إني جاعل في الأرض خليفة." (البقرة: 30)

في هذا السياق، لا تعني "الخلافة" مجرّد الحكم أو السيطرة، بل الدور الوجودي للإنسان كفاعل حرّ ومكلّف بالأمانة والمسؤولية. فالإنسان ليس مجرد منفّذ لإرادة عليا، بل شريك في إعمار الأرض وتحقيق مقاصد العدل والرحمة والحرية.

وبالتالي، فإن السيادة ليست في جوهرها "حكمًا باسم الله"، بل أداء تكليف إلهي من خلال الإرادة البشرية الجماعية. وهنا يطرح مارش تصورًا مغايرًا لفكرة "الحاكمية"، حيث تصبح الخلافة مصدرًا للسلطة لا نفيًا لها.

2 ـ  السيادة المشتركة: الله مرجعًا... والإنسان فاعلًا

يرفض مارش الثنائية القطعية بين "السيادة الإلهية" و"السيادة الشعبية"، ويقترح بديلًا تركيبيًا يمكن تلخيصه كالآتي: الله هو المرجعية الأخلاقية والغاية الكبرى للسياسة، الإنسان ـ كأمة ـ هو الممارس الفعلي للسلطة، بتكليف منه تعالى، الشرعية لا تأتي من الإرادة الذاتية المطلقة للأمة، ولا من نصوص فوق ـ تاريخية، بل من تلاقي المقاصد الإلهية مع الاختيار الحرّ للجماعة.

بهذا الشكل، تنشأ سيادة وظيفية وليست ميتافيزيقية: وظيفتها تحقيق المقاصد الكبرى، ومصدرها هو "خلافة الإنسان عن الله"، لا وصايته باسمه.

3 ـ خلافة جماعية لا فردية: الدولة كأداة لا كقدَر

يتوسّع مارش في نقد الفهم السلطوي التقليدي للخلافة، باعتبارها سلطة فردية مركزية، ويقترح تأويلاً جماعيًا وتشاركيًا لمفهوم الخلافة: الخلافة لا تُمارس عبر الخليفة الفرد، بل عبر مؤسسات سياسية تمثيلية.

الدولة، في هذا السياق، ليست تجسيدًا للشريعة، بل أداة لتحقيق مقاصدها، الشرعية لا تأتي من نسب الحاكم أو غلبته، بل من رضا الأمة ومساءلتها.

وبهذا، يصبح النظام السياسي المطلوب ليس "خلافة إلهية"، بل "خلافة مدنية تشاركية"، تتقاطع مع النموذج الديمقراطي الحديث، دون أن تتماهى معه كليًا.

4 ـ المقاصد بوصفها الجسر بين السيادة والشرعية

يرى مارش أن ما يتيح هذا التأويل الجديد للسيادة هو التحول نحو فقه المقاصد، الذي: يُحرّر فهم الشريعة من الجمود النصي، يُقرّ بأن المصلحة العامة هي أساس التشريع، يُمكّن الأمة من الاجتهاد الجماعي في ضوء واقعها المتغير.

وعليه، فإن المقاصد تصبح هي المرجع السيادي الأعلى، الذي يُحاكم إليه الحاكم والمؤسسات والنصوص، وهو ما يجعل السيادة مشتركة بين الشريعة والعقل الجماعي للأمة.

الفصل الخامس ـ تعقيبات راشد الغنوشي: نحو تكامل الشريعة والديمقراطية

 1 ـ تجاوز الإشكال النظري: لا تناقض بين الإسلام والديمقراطية

منذ بداية تعقيباته، يؤكد الغنوشي أن الطرح الذي يقدّمه مارش ينسجم إلى حد بعيد مع أطروحاته الفكرية السابقة، وأن "التوتر بين الشريعة والديمقراطية هو توتر مصطنع"، ناتج عن: إسقاط مفاهيم غربية على المرجعية الإسلامية دون تأويل، قراءة جامدة للنصوص تؤدي إلى تقديس السلطة وتهميش الأمة.

ويرى الغنوشي أن الإسلام، منذ تأسيسه، قدّم تصورًا للسلطة يقوم على: سيادة الأمة بوصفها "الجماعة المستخلفة"، وتقييد الحاكم بالشورى والعدل، وليس بنصّ مطلق أو تفويض إلهي مباشر.

 2 ـ مفهوم "الخلافة الشعبية" بدلًا من "الخلافة المقدّسة"

يجتهد الغنوشي هنا في بلورة مفهوم جديد يربط بين المرجعية الإسلامية والأسس الديمقراطية، عبر مصطلح "الخلافة الشعبية"، والتي تعني: "أن السيادة لله من حيث القيمة، وللأمة من حيث الممارسة."

ويضيف: الأمة هي صاحبة القرار، وهي التي تختار الحاكم وتعزله وتضع الدستور، الشريعة ليست قوة قهر خارجية، بل هي نتاج فهم إنساني متجدد لمقاصد النص، لا يجوز فرض أحكام باسم "الحق الإلهي"، بل لا بد من الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والشرعية الشعبية.

الغنوشي هنا يُعيد الاعتبار للسيادة الشعبية دون أن يُسقط المرجعية، من خلال قراءة مقاصدية تاريخانية مرنة للشريعة.

3 ـ الديمقراطية ليست أداة فقط، بل منظومة أخلاقية

في تعقيباته، يُلفت الغنوشي النظر إلى أن بعض المفكرين الإسلاميين ـ وحتى غير الإسلاميين ـ اختزلوا الديمقراطية في آليات الانتخاب والتداول، وتجاهلوا بعدها القيمي، ويؤكد أن الإسلام: لا يرفض الديمقراطية كآلية فقط، بل يلتقي معها في قيم الحرية، الكرامة، العدالة، والمشاركة.

ومن هنا، يُقدّم مفهومه للديمقراطية المسلمة كصيغة: تُراعي الخصوصية الحضارية للأمة، وتلتزم بقيم الحداثة السياسية، دون الوقوع في التغريب أو الثيوقراطية.

 4 ـ الاجتهاد الجماعي والمؤسسي: شرط للسيادة الحديثة

من بين أهم ما يركّز عليه الغنوشي هو ضرورة تحوّل الأمة من مفهوم "الجماعة الغفيرة" إلى "المؤسسة السيادية"، وهو ما يقتضي: بناء مؤسسات مستقلة تُعبّر عن الإرادة الشعبية، تفعيل مبدأ الاجتهاد الجماعي داخل المجالس المنتخبة والمؤسسات التشريعية، القطع مع التقليد الفقهي الفردي الذي يجعل السيادة بيد العالم لا الأمة، وهذا يعكس تطورًا في فكر الغنوشي، من مجرّد التنظير للمبادئ إلى السعي نحو مأسستها.

الفصل السادس ـ الخاتمة: نحو بناء نظرية سيادة إسلامية ديمقراطية

1 ـ الآفاق المستقبلية لتطوير "الديمقراطية المسلمة"

في هذا الفصل، يختتم أندرو مارش كتابه بتقديم تقييم نظري للمشروع الذي تم عرضه، ويُحاول استشراف الآفاق المستقبلية لتطوير "الديمقراطية المسلمة"، وهي فكرة تأصيلية تعتمد على مبدأ الخلافة الشعبية وتجدّد التأويلات التقليدية لمفهوم السيادة.

2 ـ مفهوم الديمقراطية المسلمة: بين التحديات والفرص

يؤكد مارش أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وعلى رأسه أطروحة الغنوشي، قد تجاوز العديد من القيود التقليدية التي كانت تحول دون الاندماج الفعّال بين الشريعة والديمقراطية، لكن هذا المشروع لا يزال يواجه تحديات كبيرة على الأصعدة:

يرفض مارش الثنائية القطعية بين "السيادة الإلهية" و"السيادة الشعبية"، ويقترح بديلًا تركيبيًا يمكن تلخيصه كالآتي: الله هو المرجعية الأخلاقية والغاية الكبرى للسياسة، الإنسان ـ كأمة ـ هو الممارس الفعلي للسلطة، بتكليف منه تعالى، الشرعية لا تأتي من الإرادة الذاتية المطلقة للأمة، ولا من نصوص فوق ـ تاريخية، بل من تلاقي المقاصد الإلهية مع الاختيار الحرّ للجماعة.الشرعية المؤسسية: كيف يتم تمكين الأمة من المساءلة السياسية والحفاظ على التوازن بين الحاكم والمحكوم؟

المساواة: كيف يتم تأصيل المساواة السياسية بين جميع المواطنين، في ضوء التباين الفقهي في قضايا حقوق المرأة والأقليات؟

التحولات الاجتماعية: كيف يتم تفعيل الديمقراطية المسلمة في ظل البيئة السياسية والاقتصادية المتغيرة التي يعيشها العالم الإسلامي؟

يُقدّم مارش دعوته لتوسيع نطاق التأويل المقاصدي للشريعة، بحيث يصبح الاجتهاد الجماعي هو الآلية التي تقوّي من قدرة الأمة على التأثير في خياراتها السياسية.

3 ـ التحديات السياسية التطبيقية: من النظرية إلى الواقع

بعد التحليل النظري، يطرح مارش عددًا من الأسئلة التطبيقية التي تخص كيفية تنزيل هذا النموذج في الواقع السياسي العربي والإسلامي: هل يمكن للمجتمعات الإسلامية المعاصرة إعادة بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية تتمتع بسيادة شعبية كاملة دون تجاوز القيم الدينية؟ كيف يمكن لهذه المجتمعات أن تحقق العدالة الاجتماعية في سياق ديمقراطي، وسط تحديات الفقر والفساد؟ هل يمكن للأنظمة الإسلامية الجديدة أن تكون ديمقراطية حقًا، أم ستظل تتسم بالصراع بين النظام السلطوي واحتياجات المجتمع المدني؟

هذه الأسئلة تعكس التوتر بين المثال النظري والواقع السياسي، وتفتح المجال لمراجعة مستمرة لمفاهيم السيادة الشعبية.

4 ـ الغنوشي: تكامل الشريعة والديمقراطية من الداخل

الغنوشي، في تعقيباته، يُقدّم رؤيته الإصلاحية للانتقال من الفكر النظري إلى الممارسة السياسية. فهو يرى أن الإسلام لا يتناقض مع الديمقراطية، بل على العكس، يُعتبر الدين أداة للتوجيه الأخلاقي للممارسة الديمقراطية. بالنسبة له، الديمقراطية ليست فقط أداة لاختيار الحكام، بل منظومة من القيم، تشمل:

الحرية: لا يمكن فرض حاكم على الشعب.

المساواة: يجب أن يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية.

العدالة الاجتماعية: لا تكون الديمقراطية كاملة دون تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.

ومع ذلك، يُنبّه الغنوشي إلى أن الطريق إلى هذه الديمقراطية المسلمة لن يكون مفروشًا بالورود، بل سيتطلب اجتهادًا مستمرًا وتطويرًا للمؤسسات، بما يضمن الاستقلالية عن السلطة، والتمكين للأمة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتاب السياسة عرض اسلام علاقات كتاب سياسة عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاجتهاد الجماعی السیاسی الإسلامی السیادة الشعبیة الفکر الإسلامی فی هذا السیاق راشد الغنوشی فهم الشریعة فی الفکر یقوم على من خلال مفهوم ا من داخل تفویض ا مارش ی یرى أن التی ت إلى أن الذی ی مصدر ا

إقرأ أيضاً:

قمة ترامب-بوتين: هل تنازع روسيا حقا سيادةَ أمريكا على ألاسكا؟

فيما يستعد الرئيسان الروسي والأمريكي للاجتماع في ألاسكا، ظهرت مجددا على الإنترنت التكهناتُ التي تقول إن فلاديمير بوتين يرفض الاعتراف بشرعية بيع روسيا لألاسكا عام 1867 إلى الولايات المتحدة. اعلان

سيلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين وجهاً لوجه الجمعة في قاعدة عسكرية نائية في أنكوراج العاصمة الاقتصادية لألاسكا لإجراء محادثات طال انتظارها حول الحرب الروسية في أوكرانيا.

اختيار المكان ليس اعتباطيا. إذ لا يفصل بين البر الرئيسي لألاسكا وروسيا سوى 90 كيلومتراً فقط، بينما تقع جزيرة ديوميدي الصغيرة في ألاسكا على بعد أقل من 4 كيلومترات من جزيرة ديوميدي الكبيرة الروسية في مضيق بيرينغ.

وهذا يعني أنه سيكون بإمكان بوتين السفر لإجراء المحادثات وهو في نفس الوقت سيتجنب المجال الجوي للدول الغربية التي قد تحاول اعتراض رحلته تنفيذا لمذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.

Related حلفاء أوكرانيا يبدون تفاؤلًا بقمة ألاسكا.. وترامب يُهدّد روسيا بـ"عواقب وخيمة"اتصال هاتفي بين كيم جونغ أون وبوتين وتوافق حول أوكرانيالندن تستضيف اجتماعاً أمنياً دولياً لبحث مبادرة ترامب للسلام في أوكرانيا

لكن المكان ليس عملياً فحسب، بل يكتسي أيضا أهمية رمزية. فقد كانت ألاسكا ذات يوم أرضا روسية بأتم معنى الكلمة.

في عام 1867، باع قيصر روسيا ألكسندر الثاني ألاسكا إلى الولايات المتحدة مقابل 7.2 مليون دولار، للمساعدة في سداد الديون المرتفعة المتراكمة خلال حرب القرم 1853-1856.

بالنسبة للكرملين، لم يكن يُنظرلألاسكا على أنها جزء مهم من أراضيها من الناحية الاقتصادية.

وبفضل هذا الاتفاق، استكملت الولايات المتحدة شراء ما يقرب من 600 ألف ميل مربع من الأراضي من الحكومة الروسية. Wikicommons

وقد أُعلنت ألاسكا رسمياً الولاية التاسعة والأربعين في عام 1949، وهي الآن أكبر الولايات الأمريكية الخمسين الحالية. وسيكون بوتين أول رئيس روسي يزورأنكوراج.

اختيار المكان يعيد إلى الواجهة السردية المناهضة للإمبريالية

أحيت قمة أنكوراج الروايات التي تشيد بأن ألاسكا أرض روسية "تاريخية"، حيث سارع مسؤولون بارزون في الكرملين وحلفاء آخرين إلى تسليط الضوء على التراث والتاريخ الروسيين في الإقليم.

لكن النظرية القائلة بأن موسكو ستستعيد يومًا ما الولاية الأمريكية باعتبارها تابعة لها ليست جديدة، وسبق أن روّج لها بعض المسؤولين الروس في روسيا وفي دولة حليفة أيضا.

في العام الماضي، أشارت المذيعة في التلفزيون الحكومي الروسي أولغا سكابيفا إلى الأراضي الأمريكية على أنها "ألاسكا الخاصة بنا".

أما ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي فقد أثار في نبرة مازحة على وسائل التواصل الاجتماعي، احتمال الدخول في حرب مع الولايات المتحدة بسبب الإقليم.

كيريل ديمتريف، وهو كبير المفاوضين في الكرملين ويرأس أيضًا صندوق الاستثمار المباشر الروسي، قال أيضا الأسبوع الماضي إن ألاسكا "أمريكية روسية" وأشار إلى أن القمة قد تؤدي إلى تعاون أوثق بين موسكو وواشنطن في القطب الشمالي.

كما ظهرت لوحة إعلانية في عام 2022 تحمل رسالة "ألاسكا لنا"، وهو ما أثار في ذلك الوقت غضب بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.

لا دليل على أن موسكو ألغت بيع ألاسكا عام 1867

كما تنتشر على نطاق واسع تكهناتٌ مفادُها أن موسكو تتخذ خطوات لاستعادة الإقليم.

وما عزز هذه التكهنات هو أن ترامب بدا وكأنه يخلط بين ألاسكا وروسيا في مؤتمر صحفي يوم الاثنين، عندما قال إنه سيسافر إلى "روسيا" للقاء بوتين على الرغم من أنه أكد بالفعل أن ألاسكا هي المكان الذي سيقابل فيه سيد الكرملين.

وقد أشار بعض روّاد وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن حكم المحكمة العليا الروسية لعام 2022 أبطل بيع ألاسكا إلى الولايات المتحدة عام 1867.

لكن يوروفيفاي لم يتمكن من العثور على أي وثيقة رسمية صادرة عن المحكمة تؤكد هذا الادعاء.

أشار مستخدمون آخرون إلى مرسوم صدر عام 2024 ويُقال إنه ينص على عدم شرعية بيع ألاسكا عام 1867.

هذا المرسوم موجود بالفعل. وقد صدر بتاريخ 18 يناير 2024 ويرصد أموالاً لتمويل االبحث عن الأصول التاريخية لروسيا في الخارج وتسجيلها وسبل حمايتها القانونية.

وقد تحققنا من محتوياته ووجدنا أنه لا يشير إلى ألاسكا أو أي من مطالبات روسيا التاريخية في الإقليم. ومع ذلك، يعتقد المحللون أن الكرملين قد يستخدم المرسوم لإعادة فتح النزاعات التاريخية، ليس فقط في ألاسكا ولكن أيضًا في الأراضي التي كانت سابقا تحت السيادة الروسية.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة

مقالات مشابهة

  • أمين الفتوى: مخالفة قواعد المرور حرام شرعًا وإهدار لمقاصد الشريعة
  • قمة ترامب-بوتين: هل تنازع روسيا حقا سيادةَ أمريكا على ألاسكا؟
  • مصر: نرفض تصريحات سموتريتش بشأن فرض سيادة إسرائيل على الضفة
  • طالبة بطب قصر العيني تشارك في تأليف كتاب عالمي
  • الصين تطلق مجموعة أقمار صناعية للإنترنت
  • سوريا الجولاني.. مرآة الغد العربي.. كيف حوَّل التطبيعُ السيادةَ إلى ساحة استباحة؟
  • عاجل: الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء
  • بين ضوابط الشريعة وحدود التقنية.. نقاشات موسعة حول مستقبل الإفتاء
  • سمية الغنوشي: جريمة اغتيال أنس الشريف ليست حادثا عرضيا.. كان صوت غزة