دراسة أثرية: المكان واللغة والرمز والعدالة مفردات شكلت هوية المصريين
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
دراسة أثرية للدكتور قاسم زكي أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة بجامعة المنيا وعضو اتحاد كتاب مصر كشفت عن عبقرية الهوية في مصر القديمة باعتبارها نمط حياة وأسلوب تفكير ولهذا لم تمت مصر القديمة بل بقيت حية في وجدان أبنائها ودهشة زوارها تشهد أن من امتلك الوعي بذاته لا يُقهر أبدًا قديمًا أو حديثًا .
ويؤكد الدكتور قاسم زكى بأن ملامح الحضارة المصرية لم تتغير عبر أكثر من ثلاثة آلاف عام بشكل جذري ولم تذُب في ثقافات الغزاة أو تتلاشى في تقلبات الزمان والسر في ذلك هو حفاظ المصري القديم على خصوصيته الثقافية والحضارية فهوية مصر القديمة لم تكن مجرّد شعور بالانتماء بل منظومة متكاملة من الفكر واللغة والرمز والطقس والمكان والتاريخ واللغة والدين حيث تجسّدت عبقرية المصريين القدماء في بناء ذاتًا جماعية لها ملامح راسخة تُحسّ وتُرى وتستعصي على الذوبان مع بناء دولتهم .
ويتعمق خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة ، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية في تحليل هذه الدراسة الهامة موضحًا أن أرض مصر شكّلت حجر الزاوية في الهوية، فلم تكن الأرض مجرد مجال زراعي بل كانت "كيانًا حيًا" مرتبطًا بالنيل والفيضان والفصول وكان المصري يرى في أرضه مهد الحياة وموطن الآلهة ومسرح الخلق والبعث.
عبّر المصريون عن ارتباطهم بالأرض من خلال أسماء الأقاليم والرموز النباتية (زهرة اللوتس للجنوب والبردي للشمال) كما قدّسوا النيل وأطلقوا عليه “إيتروعا” أي النهر العظيم وكان الاحتفال بفيضان النيل طقسًا وطنيًا عامًا.
كما كانت اللغة المصرية القديمة والكتابة سلاح الدفاع عن الذات ووسيلة ترميز للهوية فلم تكن فقط نظامًا للتواصل بل أداة لحفظ الذاكرة الجمعية نقشت على جدران المعابد والمقابر وكتبت فى البرديات لتعكس فكرهم وشعورهم ومعتقداتهم.
ولم تتغير البنية الأساسية للغة المصرية رغم التحولات السياسية بل تطورت من الهيروغليفية إلى الديموطيقية ثم القبطية مع احتفاظها بجذورها الأصلية وهذا الاستمرار اللغوي يبرهن على تمسك المصريين القدماء بهويتهم حتى مع موجات التأثير الخارجي.
ويتابع الدكتور ريحان من خلال هذه الدراسة بأن الديانة المصرية القديمة من أقوى عناصر الهوية لأنها شكّلت الوعي الجمعي وربطت بين الفرد والمجتمع والكون حيث آمن المصريون بفكرة "الماعت " التي تعني النظام والعدالة والتوازن واعتبروها أساس الحياة الفردية والسياسية والكونية ولم يكن الدين طقسًا عابرًا بل فلسفة وجود فكل شيء في حياة المصري يخضع لنظام إلهي الزراعة والموت والسلطة وقد أنتج هذا الإيمان العميق هوية روحانية أخلاقية راسخة لا تزعزعها تغيرات الحكم أو الزمان.
والرموز في مصر القديمة هي مفاتيح الذاكرة الجماعية الصقر حورس رمز الملكية والحماية وعلامة عنخ (☥) رمز الحياة الأبدية والجعران رمز البعث والتجدد واللون الأبيض رمز النقاء وارتبط بالتاج الملكي للوجه القبلي ولم تكن تلك الرموز زينة شكلية بل شفرات للهوية يفهمها المصري ويستشعرها ويعيش بها سواءً في الجداريات أو الملابس أو أدوات الحياة اليومية.
وتميّزت مصر بهوية سياسية واضحة منذ عهد الملك "مينا" بتوحيد القطرين مما أوجد شعورًا بالوحدة والانتماء لكيان مركزي اسمه "كِمِت" الأرض السوداء وكانت مصر تُرى كوحدة روحية وإدارية تُحكم من ملك يُعتبر “ابن الإله رع” وتخضع لقوانين كونية واجتماعية.
الملك لم يكن مجرد حاكم بل تجسيد للهوية العليا للدولة يلبس تاجين الأحمر والأبيض للدلالة على توحيد الأرض ويقوم بدور ديني وسياسي في آنٍ واحد مما يعمّق فكرة الدولة ذات الذات الواحدة.
ونشأ الولع بالحضارة المصرية المتجسّدة في الفن والعمارة ولم يكن الفن المصري القديم تجريديًا أو عبثيًا بل فنًّا وظيفيًا يخدم الهوية فالتماثيل والمقابر والمعابد وُضعت في سياق رمزي محدد يخدم تصور المصري عن نفسه والكون.
فالأهرامات مثلًا لم تكن مجرد مقابر بل تجسيدًا لهوية خالدة تنطق بالتنظيم والدقة والخلود وأصبحت الجداريات نوعًا من "السيرة الذاتية الجماعية" تسجل أفعال الإنسان وارتباطه بالقيم العليا كالممات والبعث والخلود.
ويوضح الدكتور ريحان أن الاسم في مصر القديمة شكّل جزءًا لا يتجزأ في منظومة الهوية حيث كان لكل مصري اسمه الذي يحمل بعدًا دينيًا أو اجتماعيًا مثل "سخم رع" و "با نفر" وارتدى المصرى زيًا يعكس طبقته ومهنته ومكانته، فالمرأة مثلًا كانت تُصوّر بملابس دقيقة وتسريحات مميزة وأحيانًا بتيجان رمزية تعكس دورها المحوري في الأسرة والدين وكانت الطقوس المرتبطة بالاحتفالات مثل حفلات الميلاد أو الأعياد الدينية أو طقوس الدفن تُعيد صياغة الهوية بشكل دوري.
وميز المصري نفسه عن الآخرين (الليبيين، النوبيين، الآسيويين) حيث أظهرت النقوش هذه الشعوب بملابس وهيئات مغايرة مما يشير إلى إدراك المصري لخصوصيته ليس بدافع العنصرية بل دفاعًا عن ذات حضارية متميزة.
وقد مارست مصر سياسة استيعاب للثقافات الأخرى دون أن تفقد هويتها فحين حكمها الفرس ثم اليونان ثم الرومان احتفظت بمعتقداتها ورموزها ولغتها في المعابد والمجتمعات المحلية.
وتجلت عبقرية الهوية في حضارة مصر القديمة في قدرتها على البقاء والتجدد رغم العواصف والاحتلالات والتحولات فلم تكن الهوية شعارًا بل نظام حياة وأسلوب تفكير وفن تعبير وإيمان بالخلود.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: دراسة اثرية اتحاد كتاب مصر كتاب مصر قاسم زكي الزراعة مصر القدیمة لم تکن
إقرأ أيضاً:
«النيل وتشكيل الهوية المصرية».. مائدة مستديرة بالمجلس الأعلى للثقافة
نظم المجلس الأعلى للثقافة، بأمانة الدكتور أشرف العزازي، مائدة مستديرة بعنوان "النيل وتشكيل الهوية المصرية" ضمن فعاليات الاحتفاء بمناسبة وفاء النيل، التي تشهد تنظيم عدد من الفعاليات في قطاعات وزارة الثقافة.
استهل اللقاء الدكتور أسامة طلعت، رئيس دار الكتب والوثائق القومية وأستاذ الآثار الإسلامية والقبطية بجامعة القاهرة، حديثه عن التأثير الوجداني العميق لنهر النيل في نفوس المصريين، مؤكّدًا أن النيل هو "هبة المصريين" وليس العكس. وأوضح أن وجوده كان سببًا في نشأة حضارة عظيمة على ضفتيه، ودفع القدماء المصريين لدراسته جغرافيًّا ومعرفة أسراره، ما أسهم في استقرار الزراعة وتحويل مسار البشرية آنذاك.
وتطرق إلى أسطورة دموع إيزيس، وتقنيات الحفر، وورق البردي، ومقاييس النيل التي كانت تحدد ارتفاع منسوب المياه، مثل مقياس الروضة الذي كان المنسوب المثالي فيه 16 ونصف ذراع، ومنها جاءت عبارة "وفّى وكفى".
كما أشار إلى مشروعات محمد علي باشا للتحكم في فيضان النيل، ثم السد العالي الذي وصفه بأنه أهم مشروع مائي في القرن العشرين.
أما الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامي وخبير المخطوطات، فقد استعرض بعض الطقوس القديمة مثل إلقاء "عروسة النيل" في العصر البيزنطي، وذكر كتابات المؤرخين والرحالة عن النيل، ودوره في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى حضوره في السينما المصرية من خلال مهن مثل "ناظر الزراعة".
كما عرض بعض الكواليس التاريخية لاحتفالات وفاء النيل، وأبرز الدراسات والمذكرات التي كتبها مستشرقون عن الدلتا والنهر.
وقدمت الدكتورة إيمان عامر، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، التحية لوزارة الثقافة لاهتمامها بهذه المناسبة، مؤكدة أن النيل شكّل سمات الشخصية المصرية عبر السماحة والكرم، وحرص المصريين قديمًا على طهارته، بل واعتقادهم أن تلويثه يجلب اللعنات.
وأشارت إلى تأثير النيل في اللغة المصرية، حيث اكتسبت نعومة ورومانسية قربه، بينما أصبحت أكثر جفافًا في بيئات الصحراء. كما تناولت حضوره في الشعر والأفلام التي تغنت بجماله وسماره.
من جانبه، أوضح الدكتور خلف الميري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أن الشخصية المصرية نتاج بيئة زراعية مستقرة نشأت على ضفاف النيل، وأن الحضارات العريقة دائمًا ما قامت حول الأنهار.
وأكد أن المصري القديم استغل النهر في الزراعة والنقل، ما أرسى دعائم دولة مركزية قوية منذ توحيد القطرين، وتطور استخدامه للنقل حتى إنشاء هيئة عامة للنقل النهري بعد ثورة يوليو.
كما تحدث الدكتور أحمد الشربيني، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة، عن تأثير النيل في الاقتصاد والزراعة منذ عهد محمد علي والخديوي إسماعيل، وصولًا إلى مشروعات الدلتا الجديدة لمواجهة تآكل الأراضي الزراعية.
وأوضح أن النهر أسهم في تكوين عقل جمعي تعاوني لدى المصريين، خاصة في مواجهة مواسم الفيضان، وكان سببًا في تآكل الصحراء عبر مشروعات توصيل المياه، كما أسهم في تشكيل وجدان المصريين وهويتهم السياسية منذ أقدم العصور.