المسرح بين الخصوصية المحلية والمسؤولية البيئية.. نقاشات فكرية في "القاهرة التجريبي"
تاريخ النشر: 4th, September 2025 GMT
شهد اليوم الثالث من فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثانية والثلاثين، برئاسة الدكتور سامح مهران، إقامة جلسة بعنوان “المسرح والتنمية المستدامة” التي عُقدت ضمن محور “المسرح وما بعد العوالمة”، شارك فيها هاندان سالتا من (تركيا)، هايدي وايلي من (ألمانيا)، جيليانا كامبانا من (الولايات المتحدة الأمريكية) وأدار الجلسة د.
وفي البداية، استهلت د. دينا أمين الجلسة بالتأكيد على أن المسرح، كفن حيّ، يقف اليوم أمام مسؤولية مضاعفة؛ ليس فقط في التعبير عن قضايا الإنسان، بل أيضًا في مواجهة التحديات البيئية والاجتماعية التي تهدد مستقبلنا جميعًا. مشيرة إلى أن الندوة محاولة لفتح حوار عميق حول دور المسرح في تحقيق التنمية المستدامة.
هاندان سالتا: المسرح المستقل يقف عند مفترق طرق بين المحلي والعالمي
وبدأت هاندان سالتا، التي عملت طويلًا في المجال الأكاديمي قبل أن تتجه إلى النقد المسرحي وترجمة عدد من النصوص المسرحية التركية، حديثها قائلة: "أردتُ من خلال هذه الورقة أن أفتح نقاشًا واسعًا حول قضية أراها جوهرية، وهي: إلى أي مدى يمكن للعروض المسرحية التي تنبع من السياق المحلي أن تحافظ على قيمتها وأصالتها، في عالم صار أكثر ترابطًا وتشابكًا من أي وقت مضى بفعل العولمة؟”.
وواصلت قائلة: "الواقع أن السياسات الاقتصادية العالمية فرضت على الفرق المسرحية المستقلة تحديات قاسية، حتى بات إنتاج عرض واحد أمرًا مرهقًا، إن لم يكن مستحيلًا في أحيان كثيرة. هذا دفع الكثير من الفنانين إلى محاولة استهداف جمهور المهرجانات الدولية أو العروض العالمية، لكن المشكلة أن هذا الجمهور غالبًا لا يتفاعل بعمق مع قضايا الآخرين، ولا يكترث كثيرًا بتفاصيل حياتهم اليومية أو مشكلاتهم الخاصة".
وتسألت سالتا: "هل علينا أن نعمم رؤانا ونبسط رسائلنا كي يفهمها العالم بأسره؟ أم أن الوقت قد حان لنتحدث عن قضايا دقيقة، محلية وخاصة، لكن بلغة فنية راقية، وبأسلوب متبادل يجعلنا نتشارك الفهم من أرقّ وأضعف الزوايا الإنسانية؟".
وانتقلت هاندان سالتا لتعرض نماذج من تجارب عملية شهدتها إسطنبول، موضحة: "في السنوات الأخيرة، قدّمت عدة فرق مستقلة عروضًا مستوحاة من السياسات المحلية والإقليمية، ومن التقاليد والجذور الثقافية لمجتمعاتنا. هذه العروض تفاعل معها الجمهور المحلي بشكل كبير لأنها لامست همومه وتفاصيل حياته، لكنها لم تحقق الصدى ذاته لدى الجمهور العالمي الذي غالبًا يبحث عن شيء مختلف أو رسائل أشمل".
واختتمت سالتا حديثها بتساؤل مفتوح أمام الحضور: "ما الذي ننتظره من الجمهور العالمي في هذه الحالة؟ وكيف يمكن لعروضنا المستقلة، رغم خصوصيتها، أن تثير اهتمام جمهور يتوزع في ثقافات وخلفيات شديدة التنوع؟ هذه، برأيي، واحدة من أهم المعضلات التي يواجهها المسرح المستقل اليوم".
هايدي وايلي: المسرح الأوروبي يسير بخطى واثقة نحو مستقبل محايد مناخيًا
وفي كلمة مصوّرة، تحدثت هايدي وايلي، المديرة التنفيذية لاتفاقية المسرح الأوروبي (European Theatre Convention - ETC)، عن رؤية الاتحاد الأوروبي للمسرح في مواجهة التحديات البيئية والتغير المناخي، مؤكدة أن القطاع المسرحي في أوروبا بدأ يتحرك بخطوات جادة وطموحة نحو تحقيق الاستدامة والحياد المناخي.
وقالت وايلي في كلمتها: "مع تزايد التحديات البيئية وتأثيرات التغير المناخي، كان علينا في المسرح الأوروبي أن نتبنى نهجًا جديدًا، نهجًا يجمع بين الطموح والواقعية، ويضع الاستدامة في قلب العملية الإبداعية. من هنا بدأت رحلتنا في الاتحاد الأوروبي للمسرح لتحقيق مستقبل محايد مناخيًا".
واستعرضت المديرة التنفيذية للاتحاد الأوروبي للمسرح بدايات هذه الرحلة، موضحة: "البداية كانت مع تشكيل لجنة المسرح الأخضر داخل الاتحاد، حيث جمعت اللجنة شخصيات ومؤسسات مسرحية رائدة من بين أعضائنا، وولدت من رؤيتهم المشتركة فكرة طموحة أن تصل المسارح الأوروبية إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول عام 2030. وفي عام 2021، قمنا بتحويل هذا الهدف إلى التزام رسمي من خلال ميثاق العمل المستدام، ليصبح جزءًا من هوية الاتحاد ورؤيته المستقبلية".
وتابعت هايدي وايلي موضحة خطوات العمل الفعلية: "دخلنا في شراكة مع منظمة Renew Culture لتطوير دليل عملي شامل تحت اسم ETC Theatre Green Book، وهو أداة تسهّل على المسارح خطوات التحول نحو الحياد الكربوني. واليوم، أكثر من نصف المسارح الأعضاء في شبكتنا بدأت بالفعل بتطبيق هذه التحولات في إنتاجاتها المسرحية ومبانيها وطرق عملها".
وكشفت هايدي عن خطة الاتحاد للمرحلة القادمة بقولها: "في عام 2025، سنقوم بمراجعة شاملة لمسارنا: سنحتفل بما أنجزناه، ونعترف بالتحديات التي واجهتنا، ونضع خطوات عملية وواقعية للسنوات المقبلة. ندرك أن بعض المسارح قد لا تصل إلى هدف 2030 وقد تحتاج إلى تمديد المهلة حتى 2035، لكن الاتجاه العام واضح: قيادة جماعية، تعاون دولي، وإبداع مسرحي في خدمة البيئة".
واختتمت هايدي وايلي كلمتها مؤكدة أن النهج التشاركي والديناميكي للاتحاد الأوروبي للمسرح يعيد تعريف معنى الاستدامة في الفنون المسرحية، ويفتح الباب أمام مستقبل أكثر مسؤولية وإلهامًا لهذا القطاع.
*جيليانا كامبانا: المسرح البيئي قادر على إلهام التغيير ومواجهة أزمات المناخ*
من جانبها قدّمت الدكتورة جيليانا كامبانا، الباحثة والمخرجة المسرحية الأمريكية، كلمة موسّعة حول مفهوم “المسرح البيئي” أو “Eco-Theatre” ودوره في إحداث وعي بيئي ومجتمعي عميق، مؤكدة أن المسرح قادر على أن يكون أداة للتغيير في مواجهة التحديات البيئية والمناخية المتسارعة.
وقالت كامبانا في حديثها: "المسرح البيئي لا يقتصر على إضافة مشهد للطبيعة في خلفية العرض، بل يضع القضايا البيئية في قلب التجربة المسرحية، ليخلق مساحة للحوار، ولإثارة التعاطف، وتحفيز المجتمعات على الفعل تجاه التغير المناخي والاستدامة".
وأوضحت أن جذور المسرح البيئي تعود إلى تقاليد “المسرح البيئي” و”المسرح المرتبط بالمكان” منذ ستينيات القرن الماضي، مشيرة إلى أن ريتشارد ششنر، أحد أبرز رواد هذا الاتجاه، أعاد تعريف فضاء العرض المسرحي من خلال كسر الحاجز الرابع وإشراك الجمهور في الفعل المسرحي نفسه، الأمر الذي مهّد الطريق لفكرة المسرح البيئي التي نعرفها اليوم.
ثم استعرضت كامبانا المبادئ الأساسية للمسرح البيئي، قائلة: "هذا النوع من المسرح يتميز بتركيزه على البيئة والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويؤكد على الترابط بين البشر والمجتمعات والكائنات الأخرى، كما يدعو لممارسات إنتاج صديقة للبيئة، من استخدام مواد معاد تدويرها إلى تقليل السفر والانبعاثات. وهو أيضًا مسرح مرتبط بالمكان، يستلهم مواقعه وقصصه من البيئات المحلية، ويطرح قضايا العدالة البيئية والاجتماعية، ويدعو الجمهور للمشاركة والحوار وتخيّل مستقبل أكثر استدامة".
وأشارت إلى عدد من التجارب العالمية الملهمة في هذا المجال، مثل مشروع Climate Change Theatre Action الذي يجمع كتابًا مسرحيين من مختلف القارات لتقديم عروض قصيرة عن التغير المناخي، ومسرحيات The Arctic Cycle للكاتبة شانتال بيلودو التي تتناول تأثيرات المناخ على المجتمعات في دول القطب الشمالي، وكذلك مبادرات في المملكة المتحدة وجنوب شرق آسيا واليابان حيث ظهرت إرشادات Theatre Green Book لتعزيز الممارسات المسرحية المستدامة.
ثم انتقلت كامبانا إلى مصر، مؤكدة أن لها تاريخًا طويلًا في استخدام المسرح كأداة للتعليم والتغيير الاجتماعي، وضربت أمثلة معاصرة مثل عرض The Earth Turns الذي تناول قصصًا مصرية مرتبطة بالتصحر والفيضانات، ومسرحية It’s Just One Bag التي قُدمت بشكل تفاعلي خلال مؤتمر COP27 للفت الانتباه إلى مشكلة الأكياس البلاستيكية، بالإضافة إلى عروض مسرحية جالت القرى لتشجيع المزارعين على تقنيات الري الحديثة، ومسرحيات تناولت تلوث نهر النيل بشكل إبداعي.
وأضافت: "الأزمة البيئية في مصر حقيقية ومتفاقمة؛ درجات الحرارة ترتفع، والفيضانات تتزايد، ونقص المياه يهدد الزراعة، لكن سلوك البشر يتغير ببطء شديد. من هنا تأتي أهمية المسرح في جعل هذه القضايا ملموسة وقريبة من الجمهور، ودفع الناس للتفكير في دورهم في هذه الأزمة".
واختتمت الدكتورة جيليانا كامبانا كلمتها مؤكدة: "المسرح البيئي ليس نوعًا منفصلًا من المسرح، بل هو امتداد لحركات العدالة الاجتماعية والمناخية والاقتصادية. إنه مساحة نربط فيها بين الإنسان والطبيعة، بين الفن والمسؤولية. لم يعد المسرح مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبح منصة للتفكير والعمل والتغيير نحو مستقبل أكثر استدامة".
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المسرح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الدكتور سامح مهران الفن التحدیات البیئیة مؤکدة أن
إقرأ أيضاً:
السياسة النقدية الصينية بين الخصوصية والعالمية
تظل السياسة النقدية محورا مهما في أداء الاقتصادات المختلفة، وخاصة في المنتجة منها وأبرزها الصين، إذ يعكس استقرار السياسة النقدية الأداء الإيجابي في ميزان المدفوعات، والسيطرة على معدلات التضخم.
ومنذ فترة تتجه أنظار المعنيين بالاقتصاد العالمي، صوب أداء السياسة النقدية في أميركا، لما لها من تداعيات سلبية أو إيجابية على العديد من جوانب الاقتصاد العالمي، مثل أسواق الدين، وأسواق المال، وأسواق المعادن والنفط، وغيرها، فضلا عن تأثيرها على السياسة النقدية في الدول المرتبطة بالدولار الأميركي.
ولكن لم يعد الواقع الاقتصادي العالمي رهن أداء الاقتصادي الأميركي فقط، إذ يبرز دور الاقتصاد الصيني كذلك مؤخرا، ولعل الخطوة التي اتخذتها الصين بشأن توصيفها في منظمة التجارة العالمية، سيكون لها ما بعدها.
إذ تخلت الصين عن المزايا الممنوحة لها بوصفها دولة نامية، ما ينم عن درجة عالية من الثقة بقوة اقتصادها، وبخاصة أن الخطوة تأتي في ظل الحرب التجارية، التي أشعلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ضد مجموعة من الدول على رأسها الصين.
ليس هذا فقط، بل أشارت وسائل الإعلام، إلى سعي الصين إلى أن تكون أمين حفظ لاحتياطيات الذهب السيادية للبنوك المركزية للدول الأخرى، الأمر الذي من شأنه أن يقود الصين لتصبح أحد الفاعلين الجدد في السوق العالمي للذهب.
وفي السطور الآتية، سوف نتناول مجموعة من مؤشرات السياسة النقدية للصين، وتأثيرها محليا وعالميا.
سعر اليوان وتأثيره عالميامنذ عام 2016، نجحت الصين في جعل عملتها ضمن العملات الرئيسة عالميا، بجانب الدولار، واليورو، والين الياباني، والجنيه الاسترليني، والدولار الكندي، والدولار الأسترالي، لكن لا يزال أداء اليوان كعملة للتسويات التجارية والمالية عالميا محدود الأثر.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة، وبروز دور الصين في التجارة الدولية، وجهت اتهامات من قبل أميركا والاتحاد الأوروبي للصين، لكون العملة الصينية مقومة بأقل من قيمتها، وهو ما يعد دعما لصادراتها، إلا أن رد فعل الصين جاء محدود الأثر.
إعلانإذ اعتبرت أن هذه المسألة من خصوصيات سيادتها، وعندما استجابت برفع قيمة عملتها، كان الأمر في حدود قليلة.
وبلغ سعر صرف الدولار أمام اليوان في عام 1994م 8.6 يوانات، وذلك قبل أن يشهد تحركات صعودية طفيفة، حيث بلغ 8.19 عام 2005، ثم صعد عام 2021 أمام الدولار عند 6.45، في حين تراجع عام 2024 إلى 7.20 يوانات للدولار، وبذلك ارتفعت قيمة العملة الصينية خلال 30 عاما بنحو 16%.
في حين أن الصادرات السلعية الصينية قفزت من 121 مليار دولار عام 1994 إلى 3.58 تريليونات دولار عام 2024، وهو ما يعني أن الصادرات السلعية زادت بقيمة 3.4 تريليونات دولار، وهي نسبة تمثل عشرات أضعاف الأداء عام 1994.
والمردود المحلي لبقاء سعر صرف اليوان منخفضا، أن قطاع الصادرات يسهم بقدر متزايد في الناتج المحلي الإجمالي للصين، وخلق فرص عمل جديدة، وتشغيل العديد من الأنشطة المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بالتصدير، مثل النقل والشحن، والتأمين، والبنوك.
أما على الصعيد العالمي، فكان لانخفاض سعر اليوان، ودوره في زيادة الصادرات السلعية الصينية، دور سلبي على العديد من الصناعات في دول العالم، نظرا لرخص أسعار السلع الصينية، وهذا أضعف المنافسة لدى اقتصاديات تلك الدول، على الصعيدين المحلي والدولي.
ونتيجة لذلك تحولت اقتصاديات العديد من الدول إلى مجرد أسواق لاستقبال المنتجات الصينية، وهذا كرس لمزيد من البطالة، والتبعية للخارج، وهي نفس النتيجة التي جنتها أسواق الدول النامية في القرن الـ20 أمام المنتجات الأميركية والغربية واليابانية.
سعر الفائدةأرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، تظهر أمرا مهما، فيما يتعلق بسعر الفائدة داخل الصين، فخلال فترة 2024/2015، ظل سعر الفائدة على الودائع ثابتا عند نسبة 1.5%، كما ظل سعر الفائدة على الإقراض ثابتا أيضا خلال تلك الفترة عند 4.30%.
والمردود المحلي لهذا الأمر، يتمثل في عدة جوانب إيجابية، تتمثل في اطمئنان المستثمرين وباقية الفاعلين الاقتصاديين، فتتخذ القرارات المتعلقة بالادخار والاستثمار في ضوء حالة من الاستقرار الاقتصادي.
أما على الصعيد العالمي، فالسياسة النقدية للصين لم تتأثر بالأداء العالمي، وخاصة مثلا ما حدث بعد عام 2022 وحتى سبتمبر/أيلول 2025، برفع سعر الفائدة في أميركا وبالتالي في دول العالم، والأسواق العالمية، ومعنى ذلك أن ثمة دعما مباشرا يقدم للمنتجين الصينيين، أو الشركات الأجنبية العاملة على الأراضي الصينية، عبر الحصول على الائتمان الرخيص.
فالجميع على الصعيد العالمي، شكى من ارتفاع تكلفة التمويل البنكي أو من أسواق المال، بينما بقي سعر الفائدة إيداعا وإقراضا، ثابتا ولم يتغير.
ومن الفوائد المحلية لثبات سعر الفائدة على الودائع لمدة تصل إلى 10 سنوات، أن يدفع المدخرين بشكل كبير للبورصة، للبحث عن عائد أفضل من البنوك، وهو ما يعني تنشيط البورصة بشكل دائم خلال هذه الفترة.
أرقام التضخم المستمدة من البنك الدولي عن الصين، تبين أن معدل التضخم يكاد يكون غير مؤثر داخليا، ففي عام 2015، أي منذ 10 سنوات، بلغ معدل التضخم 1.4% في المتوسط، وارتفع عام 2019 إلى 2.9%، إلا أنه في عامي 2023 و2024 على التوالي كان بحدود نسبة 0.20%.
إعلانوتعتبر هذه المعدلات مناسبة جدا لمعدل التضخم في الصين، نتيجة لكون الصين صاحبة اقتصاد إنتاجي، ويعول بشكل كبير على نموذج تنموي يعرف بـ"الاعتماد على الذات". وإن كانت الأرقام المذكورة تعبر عن متوسطات سنوية، إلا أن الأمر لم يظهر تأثر معدلات التضخم في الصين بالعديد من الأزمات الاقتصادية العالمية، مثل جائحة كورونا، والحرب الروسية على أوكرانيا.
ومؤخرا الحرب التجارية التي شنها ترامب على الصين، والمعلوم أن الصين تُعد من أكبر مستوردي العالم، ومع ذلك لم تتأثر معدلات التضخم بها، بصورة ملحوظة.
ومن شأن هذا الأداء للتضخم أن يعود إيجابيا على المواطنين الصينيين من جهة، ومن جهة أخرى على الأجانب، المستثمرين في الصين، بل يعتبر أحد أهم مؤشرات جذب الاستثمارات الأجنبية للصين.
وتشير الأرقام، أن الصين كانت ثاني أكبر متلقي للاستثمارات الأجنبية المباشرة حتى عام 2021، إذ بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي إليها في ذلك العام 344 مليار دولار، ولكن تراجعت هذه التدفقات بشكل كبير بعدها، ووصلت عام 2024 إلى 18.5 مليار دولار فقط.
ويعود تراجع تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة للصين، بشكل كبير إلى صراعها مع أميركا، وخروج بعض الاستثمارات الأميركية منها، أو مخافة المستثمرين من أن تتعرض الصين لعقوبات اقتصادية أو أن يشهد مناخ الاستثمار بها تداعيات سلبية نتيجة الصراع.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الأرقام الخاصة بمعدلات التضخم في الصين، تأتي في إطار ما يعرف بالتضخم المكبوت، وهو التضخم الناتج عن تدخل الدولة بدعم بعض الخدمات مثل التعليم والرعاية الصحية، وأحيانا الإسكان أو بعض أصناف الغذاء.
ومن هنا فالتضخم في الصين، سيكون له معدلات أخرى، أعلى مما هي عليه، في حال رفعت الدولة يدها عن هذا الدعم، في القطاعات المختلفة.
حرب السياسة النقديةأشارت بعض التقارير السنوية لصندوق النقد الدولي، إلى معانات الاقتصاد العالمي، من عدة سلبيات منها حرب العملات، وكذلك التنافس الشديد في خفض معدلات سعر الفائدة، بغية جذب الاستثمارات.
ومن المرصود على ساحة الصراع الصيني الأميركي، تفعيل السياسة النقدية، ضمن باقي أدوات الصراع، وفيما يخص الصين، فقد اتجهت منذ سنوات، إلى التخلص من رصيدها الكبير من سندات الخزانة الأميركية.
ففي عام 2015 كانت الصين، قد تجاوزت اليابان وأصبحت صاحبة أكبر حصة من سندات الخزانة الأميركية بقيمة 1.1 تريليون دولار، ولكنها في السنوات الأخيرة، أصبح رصيدها 761 مليار دولار تقريبا.
وقد حقق التصرف الصيني، أمرين:
– الأول: التخلص من عبء الاحتفاظ بالدولار الأميركي والوقوع تحت ضغط السياسة النقدية الأميركية، فيما يتعلق بقيمة الدولار أو سعر الفائدة.
– الآخر: محاولة التأثير على كون الدولار عملة دولية، والعمل على إهدار قيمته في السوق الدولية.
كما أن الصين وجدت نفسها أمام مجموعة من المشكلات الاقتصادية الداخلية التي تتطلب تمويلا وسيولة بحيث لا تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، فاتجهت لتمويل مشروعات داخلية من خلال بيع جزء كبير من رصيدها من سندات الخزانة الأميركية، كما وجهت جزءا من هذه الأموال للاستثمار في مناطق أخرى بالعالم.
ختاما، من حق كل دولة أن تسعى لزيادة مصالحها عبر تعاملها المحلي والخارجي، ولكن القضية هنا، أن العالم قد يستعيض عن الصين بأميركا، بسبب الممارسات الصينية في سياستها النقدية، التي بدأت تنحى نفس المنحى الأميركي، باستغلال الآخرين وتصدير المشكلات الداخلية لباقي دول العالم، وإن كانت الصين لا تزال تتحمل تداعيات مشكلاتها الاقتصادية الداخلية.