بلغة المسرح السياسي تدخل المؤلف الأمريكي كالعادة لإنقاذ إسرائيل شخصيته المفضلة في الرواية من السقوط إلى الهاوية. حبك بلد آرثر ميللر واحدة من أخطر تحولات الدراما التاريخية في الشرق الأوسط مقترحا ما سمي بخطة ترامب التي هي في الأصل خطة رون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي مع مساحيق تجميل أضافها ويتكوف، وكوشنر، وبلير على الخطة الأصلية التي تم استعارة روائحها من صندوق الانتداب السامي، وعصر وزراء المستعمرات والدولة للشرق الأوسط.

 

خلال الأسبوعين الأخيرين تتالت المشاهد التالية، لكن الفصل الأخير وكلمة النهاية يمكن أن تفلت من جبروت المؤلف إذا امتلكت الشخصيات الأخرى الإرادة لتحدي انحيازه لشخصيّته الشريرة. المشهد الأول إسرائيل على وشك السقوط في الهاوية: مئات الملايين حول العالم يصلون ويدعون لنحو ٥٠٠ من أشهر وأكثر الشخصيات في العالم أخلاقية وإنسانية وهم يمخرون عباب المتوسط في خمسين سفينة لأكبر أسطول سلمي عرفته البشرية لكسر حصار حرب التجويع الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة وفي نفس الوقت عشرات الدول تعلن في الأمم المتحدة اعترافها بدولة فلسطين، وتقرر دول أخرى قطع روابطها الدبلوماسية أو التجارية أو الأكاديمية مع إسرائيل، وتنسحب دول من مسابقات فيها فريق رياضي أو غنائي إسرائيلي. باختصار أصبحت إسرائيل دولة منبوذة والدولة المكروهة الأولى في العالم، وسقطت أسطورة الضحية، لتحل محلها صورة البلد والجيش قاتل الأطفال. ثم بعد اعتدائها على الدوحة صارت هي العدو وليست إيران، وسقطت نكتة أن إيران هي الخطر. باتت اتفاقيات إبراهام وممر بهارات وحتى كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة مترنحة. ليس هذا فقط، بل ضاعف انحياز أمريكا لدولة تضرب سبعة بلدان في وقت واحد بتصاعد مؤشر كراهية الشعوب العربية للعم سام كما لم يحدث من قبل منذ غزو العراق. والأخطر من ذلك باتت الحكومات العربية المرتبطة بواشنطن مهددة بقسوة في عمرها الافتراضي، وشرعيتها السياسية. 

المشهد الثاني فرقة الإنقاذ السريع: يعترف الرئيس ترامب بدوافعه كمؤلف في الانعطافة الحادة التي أدخلها على مجرى الرواية من مسار إعطاء الضوء الأخضر لنتنياهو لاحتلال مدينة غزة، والقضاء عسكريا على حماس مهما اتسعت حقول القتل الفلسطينية لمسار إعلان خطة «للسلام»! فيقول: لقد تمادى نتنياهو، وذهب بعيدا في حربه على غزة، وأصبحت إسرائيل في عزلة دولية، وأنا من سأخرج إسرائيل من هذه العزلة. بل بشكل ضمني يعترف بأن هذا المسار الدرامي الجديد لن ينقذ إسرائيل من السقوط الوشيك في الهاوية كدولة فحسب، ولكن أيضا يعطيها بالدبلوماسية ما فشلت في تحقيقه بالحرب. يقول ترامب قلت لنتنياهو هذه «الخطة» فرصتك لتحقيق الانتصار!! 

المشهد الثالث: مشهد الخداع خطة الإنقاذ انقسمت إلى لقطتين لزوم الدبلوماسية العامة، واجتذاب فلاشات الكاميرات فصل بينهما أقل من أسبوع. اللقطة الأولى تجمع لقادة ٨ دول إسلامية وعربية يمثلون نحو نصف العالم الإسلامي ديموغرافيا مع ترامب أطلعهم فيه على الخطوة، وحصل على موافقتهم عليها. في اللقطة الثانية هو ونتنياهو ومؤتمر صحفي مشترك له يعلنان عن الخطة رسميا. 

أعلن وزير الخارجية الباكستاني رسميا وسربت مصادر في قطر ومصر أن ما أعلن عنه ترامب ليس هو ما اتفق عليه مع العرب والمسلمون. بعبارة أخرى؛ تعرض هؤلاء القوم لخديعة جديدة للمرة الألف من الغرب. وأخذ قسم من الدول الثماني على الأقل خطوة للوراء متحدثين عن أن الشيطان، بل مئات الشياطين مدفونة في الاتفاق، وأن الإبهام والغموض والتعبيرات المطاطية والفضفاضة في كل ما يتعلق بالطرف الفلسطيني هم سادة الخطة بينما حصول إسرائيل على كل ما تريده -بل تتمناه- محدد وملزم بمواقيت ومواعيد محددة. 

مشهد الانقلاب على الخط الدرامي للخطة: إضافة إلى ما يمكن وصفه بمشهد الإفاقة الجزئي الذي فجره مشهد الخديعة وتقديم خطة مختلفة: أحبطت المقاوم الفلسطينية وحركة حماس خصوصا توقعات المؤلف برفض الخطة، وتحويلها هي -لا إسرائيل- إلى زاوية العزلة الدولية ينهال عليها الجميع باللكمات لا سيما العرب والمسلمين. انثنت حماس تحت ضغوط جاء بعضها من أقرب الأطراف أيديولوجيا إليها، ولكنها لم تنكسر. بحنكة سياسية أعلنت قبولها للخطة على طريقة (نعم ولكن) داعية إلى التفاوض حول شروط تنفيذ كل بند من بنودها، بل أحالت جزءا منها إلى قرار فلسطيني وطني جامع يضم السلطة مشترطة على الوسطاء أن تكون موافقتها مرهونة بتعهدها باستضافة حوار لجميع الفصائل. 

المشهد الرابع بين تحدي المؤلف أو قبول نهايته بالسقوط بدلا من إسرائيل: في اليوم الذي ينشر فيه هذا المقال ربما تستضيف إحدى المدن المصرية كل الشخصيات المشاركة في مشهد الشرق الأوسط الجديد والذي سيتحدد نهايته على قاعدة وحيدة؛ فهل سنشهد تصارع إرادات حقيقي بين هذه الشخصيات، أم سيستمر نهج الخضوع للمؤلف؟ بعبارة أوضح لقد خلق هامش مناورة للعرب والفلسطينيين بسبب عدة عوامل. مرونة حماس وتفويتها الفرصة على واشنطن وتل أبيب للادعاء أنها هي التي تعرقل وقف الحرب ودخول الغذاء لغزة. واكتشافهم لخديعة الفارق بين ما اتفق عليه معهم وما أعلنه ترامب ونتنياهو وما ترتب على ذلك من تبين الهاوية التي يدفعون إليها بدلا من إسرائيل، وأيضا إدراك لمخاطر هائلة على أمن واستقرار ومصالح بعضهم كدول وليس فقط على الفلسطينيين. 

السؤال هو: هل يستغل العرب هذا الهامش في التوقف أولا وقبل كل شيء عن اعتناقها فكرة واشنطن وتل أبيب الخاطئة من أن التخلص من المقاومة في غزة سيجلب لهم السلام وراحة البال، ويلقي من على ظهورهم عبء القضية الفلسطينية للأبد. استخدام نهج التفاوض العلمي بخبرات حقيقية، وإعداد وخرائط تضع أمام الأمريكيين أصحاب الخبرة فهما عربيا صحيحا لما يسمى في علم التفاوض بالأزواج المتبادلة والمتكافئة من التنازلات، أو المكاسب لكل طرف، وليس فوزا دائما لطرف وخسارة دائمة للطرف الآخر الذي هو عادة الطرف العربي والفلسطيني. 

فالإفراج عن الرهائن فلسطينيا لا بد أن يقابله إنهاء الحرب، والانسحاب من القطاع في مدى زمني يتوافق معه خروج الاحتلال بتسليم آخر جثة الأسرى الإسرائيليين. فصل غزة عن الضفة مرفوض، وحكم القطاع حتى تتسلمه سلطة وطنية هو للفلسطينيين في حكومة تكنوقراط اقترحتها مصر. أما نزع سلاح المقاومة فيقابله خطة للحل النهائي لا تزيد على ٣-٥ سنوات بقرار ملزم من مجلس الأمن بقيام الدولة الفلسطينية يتضمن جدولا صارما، ومراقب دوليا؛ لإزالة المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وانسحاب قوات الاحتلال إلى حدود الرابع من يونيو. وليس في ذلك اختراع جديد؛ فحتى بلير الذي أقحم في قصة غزة إقحاما وافق كرئيس حكومة بريطانيا على حل نهائي لإيرلندا الشمالية يستوعب (شين فين) وكل المقاتلين في العملية السياسية قبل أن يوافق المقاتلون الإيرلنديون على إلقاء سلاحهم، وكذلك فعل المؤتمر البوسني الأفريقي لتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يحتاج العرب لإرادة سياسية أو نوبة صحيان وإلا وجدوا أنفسهم في قاع الهاوية. 

حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري 

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حـــوار افـتراضـي

لا يحظى مسؤول خارج الولايات المتحدة بالدلال الذي يحظى به بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية». أربع مرّات حلّ ضيفاً على دونالد ترامب منذ تولّيه الرئاسة قبل ما يقرب من تسعة أشهر. وفي كلّ مرّة لا يخرج نتنياهو خالي الوفاض، رغم ما يسبق بعض زياراته، من شائعات تتحدّث عن توتّر بينهما.

كان ترامب قد وعد خلال حملته الانتخابية، بأنه سيتمكن من الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين فور دخوله البيت الأبيض، وقدم الوعد ذاته بالنسبة للحرب في أوكرانيا، مدعياً أنه لو كان الرئيس قبل ذلك، لما وقعت تلك الحروب.

لا يهتمّ ترامب كثيراً بمّن يتهمونه بسرعة التراجع عن مواقفه، أو أنه يقول الشيء ونقيضه، بل ربما يحيل المفسّرون القريبون منه على أن ذلك دلالة على إستراتيجية واعية يتبعها لتحقيق أهدافه في نيل «جائزة نوبل»، وجعل أميركا عظيمة أو الأعظم مرّة أخرى.

قد يقول البعض، إن نتنياهو السّاحر نجح دائماً في التلاعب في الإدارات الأميركية السابقة، وإنه كان يجرّ خلفه الرؤساء السابقين إلى حيث يريد، فهل ينطبق الأمر على ترامب؟

إذا كان الرؤساء السابقون عموماً يخضعون أو يتأثرون كحدّ أدنى بالضغوط القوية التي يمارسها اللوبي الصهيوني في أميركا للفوز بولاية رئاسية ثانية، فالأمر مختلف مع ترامب.

ترامب لا يحتاج، ولا يخضع لأي ضغوط من أي طرف، لأنه اليوم إمبراطور متوّج، يتحكّم في كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والبعض يصفه بأنه دكتاتور ديمقراطي.

إن كان ترامب لا يعير اهتماماً لأي ضغوط داخلية أو خارجية، فإنه يرسم سياساته ومواقفه انطلاقاً من قناعة عميقة، خصوصاً إزاء رؤيته للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

من يتفحّص مواصفات ترامب ونتنياهو، قد يصل إلى نتيجة أنهما توأمان. نرجسيان إلى أبعد الحدود، وكلاهما يعتقد أنه مكلّف من الربّ، وكلاهما يجيد الرقص على الحبال، وكلاهما، أيضاً، يعتبر الكذب فضيلة وربما هبة إلهية.

خلال الزيارة الأخيرة لنتنياهو إلى الأمم المتحدة، خرج من قاعة الجمعية العامة، غاضباً، ومكفهّراً، بسبب مقاطعة معظم الوفود لخطابه، ولكنه سرعان ما استعاد توازنه نسبياً بعد لقاءاته التحضيرية، مع مساعدي ترامب قبل لقائه.

قبل لقائه ترامب، كان الأخير قد عقد اجتماعاً مع مسؤولين من ثماني دول عربية وإسلامية وازنة، اتفق معهم خلاله على خطته لإنهاء الحرب الإبادية في غزّة، والإفراج عن الرهائن. ترامب أشاد باللقاء، واعتبره إنجازاً عظيماً للسلام في الشرق الأوسط. وحين رحّبت الوفود العربية والإسلامية بنتائج اللقاء، ساد استنتاج طبيعي بأن ما تم الاتفاق عليه مع ترامب لا بدّ أن يكون إيجابياً ومنصفاً وواعداً. تأكّد هذا الاستنتاج، بعد أن التقى ترامب بنتنياهو، الذي خرج عن خطة لا تتطابق مع ما تم الاتفاق عليه مع وفد الثمانية العرب والمسلمين.

باكستان على نحو مباشر عبّرت عما يمكن اعتباره خديعة، ثم تلاه وزير الخارجية المصري، ورئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري، اللذان ألمحا إلى أن الخطة بنسختها الأخيرة، تحتاج إلى نقاش وتوضيحات وتعديلات، ما يعني بوضوح أنها تضمنت بنوداً تخالف ما تمّ الاتفاق عليه.

أفترض أن ترامب لم يضغط على نتنياهو كما توقع البعض، وإنما خاض معه في حوار لطيف، اقتنع بموجبه نتنياهو بالاعتذار علناً وبوضوح لقطر بسبب العدوان الذي وقع عليها، مع وعد بأن ذلك لن يتكرّر.
فتح ترامب الخطة أمام نتنياهو لإدخال ما يراه من تعديلات
مقابل ذلك، فتح ترامب الخطة أمام نتنياهو لإدخال ما يراه من تعديلات، وهكذا يستطيع نتنياهو أن يدّعي أمام مجتمعه وائتلافه الفاشي أن الخطة من إنتاج إسرائيلي أساساً.

أفترض، أيضاً، أن ترامب عرض على نتنياهو الأفكار التالية حتى يقبل الاعتذار من قطر، والتعاطي بإيجابية مع الخطة التي تتضمن بنوداً لا تتفق مع ما يريده نتنياهو:

عزيزي نتنياهو، أتفهم أهدافكم، وسأدعم بكل قوة تحقيقها، أنتم تريدون تحقيق انتصار حاسم، والهيمنة على الشرق الأوسط، وجعل إسرائيل عظيمة ومتسيّدة، وأنا أريد لكم ذلك، ولهذا سنواصل الدعم وسنعمل على فكّ عزلة دولتكم.

ولكن عزيزي نتنياهو، أنا، أيضاً، أعمل لأن تكون أميركا عظيمة وأن تواصل تسيّدها النظام العالمي، وأن الشرق الأوسط مسألة على قدر عال من الأهمية بالنسبة لنا لتحقيق هذا الهدف.

وأنا، أيضاً، أرغب بشدة في أن أحصل على «جائزة نوبل للسلام»، وما حققته في هذا المجال ليس كافياً، ولذلك أحتاج مساعدتك لإنجاح الخطة في الشرق الأوسط المضطرب، والخطير.

لم أنجح في تحقيق السلام في أوكرانيا، بسبب وجود زعيم عنيد اسمه فلاديمير بوتين، ولذلك لا بدّ من تحقيق السلام في الشرق الأوسط، الأمر الذي يؤهّلني لنيل الجائزة التي رشّحتني لنيلها.

عزيزي نتنياهو، إسرائيل أهم بالنسبة لأميركا من أوروبا، القارة العجوز التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وتعتمد علينا لحماية أمنها على حساب أموال دافعي الضرائب، وهو أمر غير مقبول.
الشرق الأوسط، منطقة أموال وثروات هائلة، عدا أن مصالحنا في صراعنا مع الصين وحلفائها، تقتضي السيطرة عليها، وملء خزائننا من أموالها.

أنتم، أيضاً، مستفيدون من تحقيق السلام في الشرق الأوسط بشروطنا المشتركة، ونحن ندعمكم لأنكم من تلعبون دوراً مهماً جداً في تحقيق ذلك السلام، بما تملكون من قوة وجرأة، وما نملك من علاقات وإمكانيات في التأثير على دول المنطقة.

لقد منحناكم الوقت اللازم وزيادة، ولم نتوقف عن تقديم كل ما تحتاجونه من سلاح وأموال ودعم سياسي ودبلوماسي، ولكنكم لم تنجحوا حتى الآن في إخضاع الجميع.

عليكم أن تحسبوا خطواتكم بدقة، وأن تعلِمُونا قبل أي فعل، فلقد أدّى القصف على قطر لوقوع انحرافات في تحالفات بعض الدول في غير صالحنا وفي غير صالحكم، لذلك، أرجوكم أن تضبطوا أعصابكم، وأن تتعاملوا بإيجابية مع الخطة، فإن نجحنا في تحقيق الفصل الأول منها وهو الإفراج عن الرهائن، فإن ما تبقّى من بنود واستحقاقات تستطيعون التعامل معها بما ترونه مناسباً لمصالحكم ورؤيتكم.

وأخيراً أليس هذا ما صرّح به نتنياهو بعد أن وافقت «حماس» على الخطة؟

الأيام الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • تايمز: هذه خطة إسرائيل البديلة لغزة إذا فشلت خطة ترامب
  • قطر: من المبكر التفاؤل بشأن مفاوضات خطة ترامب.. وكان على إسرائيل وقف النار
  • المفاوضات حول خطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة مستمرة
  • أبرز الشخصيات التي اغتالتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر وحتى الحظه
  • أبرز الشخصيات التي اغتالتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر
  • الشيطان يكمن في التفاصيل.. ما أبرز البنود التي قد تعرقل مفاوضات شرم الشيخ بين حماس وإسرائيل؟
  • حـــوار افـتراضـي
  • غريتا ثونبرغ.. السويدية التي تثير هستيريا إسرائيل
  • مكالمة متوترة بين ترامب ونتنياهو بعد رد حماس على الخطة الامريكية