المسكوت عنه مكمن الغضب عن اللائحة التنظيمية لعمل عمال المنازل

ردود فعل كثيرة تابعناها بعد صدور اللائحة التنظيمية لعمل عمال المنازل قبل أيام، تساؤلات كثيرة حول الوضوح والعدالة والإنسانية، التي هي مبعث اقتراح ووضع ونشر كثير من القوانين المنظمة لعلاقة الأفراد بالمؤسسات وعلاقتهم ببعضهم البعض، فضلا عن استجابة الحكومات والمؤسسات للتقارير الدولية حول قضايا إنسانية عامة كالتمييز ضد المختلف، والاتجار بالبشر وغيرها، لكن هذه المقالة تراود اليوم اقترابًا من المسكوت عنه في شأن عمال المنازل، وربما ضمّنتُ هذه المقالة بعضًا من قصة «جين» التي استرجعتها ذاكرتي مع متابعتي لردود الأفعال الغاضبة من جديد القرارات.

«جين» شابة طموحة تنتمي لعائلة فقيرة، تخرجت من كلية الزراعة ببلادها محملّة سلة أحلامها كثيرًا من المُنى، دفعتها بعض الإعلانات للتسجيل في مكتب استغل وضعها المادي السيىء وطموحها الوقاد واعدًا بوظيفة إدارية في الخليج حيث ستغنى ويغنى أهلها، وعود وهمية مقابل الكثير من الالتزامات المادية التي وقّعت عليها «جين» لتسافر للحلم الموعود وتجد نفسها فجأة في مكتب لاستقدام عاملات المنازل، كانت الصدمة أكبر من استيعابها ولم يمنحها الوقت أي فرصة للتفكير؛ إذ وجدت نفسها عالقة في التزامات بعيدة وقعت عليها والتزامات قريبة لمكتب الاستقدام في الخليج الثري، رفضت العمل في البداية ليتم تذكيرها بالتزاماتها في الضفتين بكل قسوة دون أي مراعاة لاعتبار إنساني أو اجتماعي، اضطرت لقبول العمل مرغمة كارهة كما اضطرت أسرة متواضعة للتعاقد مع المكتب المحلي لتعمل «جين» في خدمتهم، عائلة ممتدة كطبيعة أهل الخليج، متضمنة امرأة كبيرة في السن لا تعرف الكثير عن ظروف «جين» كما لا تعرف «جين» شيئًا عن ظروف العائلة ووضع المرأة الكبيرة الصحي، تعرف هي رغبة في إنهاء التزاماتها المالية لتعود إلى بلادها وتنجو من تهديد المكتب في بلادها، وتهديد مكتب آخر في الغربة، وإن كانت محظوظة نجحت في توفير بعض المال ليعينها على الحياة، وتريدها العجوز مساعدة في أعمال المنزل بعد استنزافها ما لا يقل عن(1500 ريال) لمكتب الاستقدام، فضلا عن رسوم التصريح والفحص الطبي التي يتحملها صاحب العمل، تُرى! مع كل هذه التداعيات، وكل هذا الاستنزاف المادي (للعامل وصاحب العمل) هل يمكن التفكير في علاقة تواصلية رائعة بين الطرفين؟! إلا إن كان صاحب العمل مترفًا لا يعني له مبلغ الاستقدام شيئًا، يمكنه حينها ببساطة التفكير في استقدام عاملة كل بضعة أشهر، إذا ما افترضنا أن لا ضمان تقدمه مكاتب استقدام العمال بعد انقضاء مدة الاختبار التي لن تتجاوز بضعة أيام مع القانون الجديد!

ومع تداعيات قصة «جين والمرأة العجوز» هل لمس المبضع موضع الألم؟ ثمة مسكوت عنه لا بد من مناقشته، مراقبته وحوكمته، لا بد من تغييره، لا سيما أنه مبرر ارتباط سياق عمالة المنزل بالاتجار بالبشر، إذ يغذي الطرفين بالغضب تجاه الآخر ليتخفى هو خلف ستار مكتبي أنيق، لكن أحدًا لا يقترب منه ولا يدينه ولا يحلل تفاصيله، دعونا نتساءل معًا بصوت مسموع للجميع: ألا يمكن للسفارات (التي تنشط لإضافة بنود جديدة للضغط على رب العمل، وعلى العامل) مراقبة مكاتب «استغلال البشر» في بلدانهم ومنع استغلالهم للفقراء المعدومين؟ ألا يمكن للمؤسسات المنظمة لعمل عمال المنازل زيارة مكاتب الاستقدام، وضبط وتحليل السلوكيات وظروف العمل في تلك المكاتب؟ ألا يمكن التساؤل عن سبب استحقاقهم لمبالغ مهولة لا تعادل جهدهم الحقيقي في استقدام العمال؟ ما هي خدمات المكتب ليستحق ما قد يزيد(أحيانًا)عن 2000 ريال عماني، مع تحميل صاحب العمل رسوم الترخيص والفحص الطبي والتأمين الصحي؟ ومن عجب أننا لا نجد ذكرًا لمكتب الاستقدام في اللائحة التنظيمية إلا في جملة واحدة عبر المادة (38) هي «يجوز لمكتب الاستقدام الذي قام باستقدام العامل إخطار الوزارة نيابة عن العامل إذا ثبت لديه إخلال صاحب العمل بأي حق من حقوقه الناشئة بموجب أحكام هذه اللائحة أو عقد العمل، وذلك وفقا للإجراءات التي تتخذها الوزارة « دون أي حديث عن تفتيش مكاتب الاستقدام أو سؤال العمال داخل تلك المكاتب عن ظروف استقدامهم، أو حتى تحميل تلك المكاتب المرخصة مسؤولية تعادل استنزافهم جيوب الأسر والعمال معًا مقابل عقد ليس لهم فيه ناقة ولا جمل إلا استغلال الطرفين بأوضح أشكاله.

ألا يمكن تقنين عمل مكاتب استقدام العمال لتعمل بشكل مدني حضاري يحفظ للإنسان ماله وكرامته (العامل وصاحب العمل معا) بعيدا عن عرض الصور ومقاطع المفاضلة، ومساومة صاحب العمل لاستنزاف جيبه؟ ألا يمكن تحديد رسوم الاستقدام سواء كانت متضمنة تذكرة السفر أو لا، وأن يكون المبلغ المستحق للمكتب من صاحب العمل مقابل الإجراءات الإدارية في التنسيق والتواصل وحسب؟ أما أن يسمح بكل أشكال الاستغلال ثم يلقى بعبء التخلص من التقارير الدولية على صاحب العمل فذلك ما يُولِّد الاحتقان والغضب تجاه العمال الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ضحايا أُخَر لمكتبيْ اتجارٍ يتقنّعان بزي الاستقدام والتشغيل.

ختاما: لو أن هذه اللائحة التنظيمية جاءت متضمنة كل تفاصيلها دون وجود وسيط هو مكاتب الاستقدام والتشغيل لما تذمّر الناس من جَوْر ضغط، لكن ما يحدث هنا هو الضغط على طرفي المعادلة، دون التصريح بسبب المشكلة الحقيقي ودون حتى مقاربة خطوطه التي يبدو أنها رسمت حمراء لا يمكن الاقتراب منها، مما سيبقي المشكلة كما هي عليه مع محاولات للتقنّع والتملّص من كل الأطراف مع حاجة العامل الماسة للعمل، وحاجة صاحب العمل المُلِحّة للعامل، وأخشى أننا لن نصل إلى توافق مالم نواجه المشكلة بشجاعة ونعمل معًا على اجتثاث أسبابها صونًا للإنسانية، وحفاظا على علاقة تواصلية مثلى في مجتمع تأصلّ فيه تقبل الآخر وإنصافه قبل تنظير المنظمات والتقارير الخارجية.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان