نحو فهرس موحد للمخطوطات العمانية .. يرى النور قريبًا
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
15 سبتمبر 2025م وصلتني دعوة كريمة من محمد بن عبيد المسكري مدير دائرة المخطوطات بوزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ لحضور الحلقة النقاشية «نحو فهرس موحّد للمخطوطات العمانية» التي عقدت بالنادي الثقافي في مسقط بتاريخ: 16 أكتوبر 2025م، فأجبت بأنَّي سأحضر؛ لرغبتي في الاستفادة من الموضوع المغري علمياً والملهم عملياً.
فكرة «فهرس موحّد للمخطوطات العمانية» ذكرتني بـ«الفهرس العربي الموحّد» الذي أنشأته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في عاصمة المملكة العربية السعودية الرياض بتاريخ: 13 مايو 2001م؛ لخدمة المكتبات والثقافة العربية والإسلامية، وفي مقدمتها الكتاب العربي ومنظومته المعرفية والفنية في إطار توحيد تصنيفه رقمياً، وإتاحة الفرصة لوجوده في المكتبات الأعضاء بالفهرس الذي وجد قبولاً كبيراً (حيث بلغ عدد أعضائه 200 جهة تقريباً يتبعها آلاف المكتبات في جميع الدول العربية)؛ بحسب موقع الفهرس الإلكتروني.
معرفتي بالفهرس العربي الموحّد مبكرة تعود إلى عام 2009م حين انتسبت مكتبة الندوة العامة «مركز الندوة الثقافي» ببَهلا إلى الفهرس. ومنذ ذلك العام ـ لأهميته ـ أصبحت مشاركتنا سنوية؛ فهو يعقد كل مرة في عاصمة أو مدينة عربية، وقد خصصنا للمشاركة ملفاً عملياً وبنداً مالياً ضمن المشاريع الثابتة بمركز الندوة. وقد شاركت ذات مرة بنفسي مع زميلي في مجلس مؤسسي المركز خصف بن محمد الخروصي في أعمال الفهرس يومي 25-26 سبتمبر 2012م التي أقيمت بالعاصمة الأردنية عمّان.
لا أتحدث هنا عن الفهرس العربي؛ حيث يمكن الرجوع إلى موقعه على الإنترنت؛ لمعرفته ومعرفة الأدوار التي يقوم بها، وإنَّما أؤكد على ضرورة الحضور المؤسسي لمكتباتنا ومراكزنا الثقافية في المؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ومنها الفهرس العربي الموحّد، للاستفادة منها في تعريف العالم بمنجزنا الحضاري ومنتجنا الثقافي وإبداعنا العلمي والأدبي، وللاستفادة كذلك من خبرات هذه المؤسسات، والنسج على منوالها.
كنت حريصاً على حضور الحلقة النقاشية؛ لقناعتي بأنَّها ستضيف إليّ الجديد، سواءً فيما يتعلق بالمخطوطات العمانية عموماً، أم بفكرة مشروع الفهرس الموحّد للمخطوطات. لكن أبت سيارتي -التي بلغت الهرم كصاحبها- إلا أنْ أقضي سحابة نهار ذلك اليوم بين ضجيج مآرب السيارات ولغة عمّالها المُكسَّرة بدلاً من متعة الحوار المكتنز بالخبرة والمعرفة في حلقة النقاش حول المخطوطات وفهرسها الموحّد.
وباطلاعي على أعمال الحلقة النقاشية؛ فقد تضمنت الأوراق البحثية الآتية: «حصر بيانات المخطوطات العمانية.. الواقع والتحديات» تقديم فهد بن علي السعدي، و«صياغة رؤوس موضوعات المخطوطات العمانية» تقديم محمد بن خميس البوسعيدي، و«توحيد حقول الفهرسة الوصفية للمخطوطات العمانية» تقديم محمد بن عامر العيسري، و«بناء الملفات الاستنادية لفهارس المخطوطات العمانية» تقديم سلطان بن مبارك الشيباني، و«أتمتة فهارس المخطوطات العمانية» تقديم صالح بن سليمان الزهيمي، والحلقة من إدارة خلفان بن زهران الحجي. وأهميتها لا تقتصر على المحاور المطروحة، وإنَّما تشمل كذلك الاستفادة من مقدمي الأوراق الذين يعتبرون آباء المخطوطات العمانية المعاصرين؛ سواءً باشتغالهم بها جمعاً وتصنيفاً وصيانةً، أم بالتأليف عنها وتحقيق بعضها، أم بأتمتة مواضيعها ورقمنة عناصرها؛ لتواكب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. ولا ننسَ أنَّ بعض هؤلاء الخبراء بالمخطوطات أنشأوا مشكورين مؤسسة «ذاكرة عمان»؛ للعناية بها، وبالتراث العماني المكتوب عموماً، فكانت بحق ذاكرة يبتغيها كل عماني عرف قدر ثقافة وطنه.
إنَّ التوجه الذي اختطته سلطنة عمان في الحفاظ على التراث العماني -لاسيما المخطوطات- على المستويين الحكومي والأهلي خطوة مهمة. فالمخطوطات «ثروة ناضبة»؛ بسبب فقد وتلف بعضها، وعلى أقل تقدير «ثروة غير متجددة» في حال المحافظة عليها. لقد انقضى زمن صناعة المخطوط بمعنى إنشائه وكونه ماعوناً لحفظ العلوم والمعارف والوقائع والوثائق. لكن بقي زمن العناية به، وهذا هو أوان نشاطه وازدهاره، وأي تقصير فيه يؤدي إلى خسارة لا تعوض، خسارته بذاته؛ لأنَّه قيمة حضارية وعلمية شكلت حقباً طويلة من الوعي الإنساني، وخسارة المواد العلمية والمعرفية التي يحويها؛ فهي لا زالت تمد البشرية بمعرفة علومها التأسيسية، والاطلاع على أحداثها الغابرة، وفهم طبيعة وجودها. وصفوة القول أن المخطوطات هي ذاكرة الإنسانية بكل تجلياتها وخباياها.
إنَّ الإخوة الباحثين الذين قدموا أوراقهم البحثية هم الجيل الثاني للعناية بالمخطوط في الدولة الحديثة. جيل لا يقل أهميةً وعلماً وخبرةً عن الجيل الأول الذي جمع الكثير من المخطوطات العمانية، وأنشأ لها المكتبات، وشرع في تحقيقها. بل إنَّ هذا الجيل ألمّ بعلوم وخبرات سابقيه، وأضاف إليها أدواته المعاصرة ومناهجه الحديثة وسعة أفقه؛ فهو لم يكتف بالبحث عن المخطوطات داخل الوطن، وإنَّما ساح في الأرض بحثاً عن المخطوط العماني، وتعريفاً به.
إنَّ هذه الحلقة النقاشية -التي أرجو أنْ تنشر أعمالها من قِبَل المؤسسات القائمة عليها- خطوة رائدة، وبادرة تحمد عليها وزارة الثقافة والرياضة والشباب، ومواصلة لخط العناية بالمخطوطات العمانية الذي انتهجته الحكومة منذ أكثر من نصف قرن. إنَّ على العمانيين أنْ يدعموا مشروع الفهرس الموحّد للمخطوطات العمانية، ويمدوا يد العون لمن يسعى إليه، ويوفروا سبل قيامه؛ خدمة للعلم والتاريخ، وللوطن والإنسان، وللزمن الآتي.
في العصر الرقمي لا يُكتفى في العناية بالتراث بحفظ المخطوطات، بل يجب أنْ يتحول التراث كله إلى «مادة ذكية» تواكب الذكاء الاصطناعي؛ لأنَّه هو ما يصوغ الحياة مستقبلاً. وهذا يعني أنَّ غياب تراثنا الثقافي عن الشهود الحضاري القادم هو انقراض وجودنا ذاته. فالمستقبل لا يفسح المجال إلا لمن لديه القدرة على البقاء في عالم تحكمه التكنولوجيا عالية الجودة وفائقة السرعة. بيد أنَّ هذه التقنية العتيدة تحتاج ما يرفدها بما أسميه بـ«الغذاء القيمي»؛ لكي يعيش الإنسان سوياً، والذي نملك منه حظاً وافراً؛ لكون معارفنا منبثقة من الإسلام الدين الخاتم. هذا ما يحتم على مؤسساتنا أنْ تدخل بقوة في عالم لا وجود فيه إلا للعلم؛ مصداقاً لقول الله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) « الأعراف:145».
إنَّ التوصيات التي اقترحتها حلقة النقاش جديرة بأنْ تصبح برنامج عمل؛ كل أحد يعمل على تنفيذه من الموقع الذي يشغله، وهي باختصار:
1. بناء مشروع فهرس وطني موحّد للمخطوطات في سلطنة عمان بإشراف وزارة الثقافة والرياضة والشباب.
2. تشكيل لجنة مركزية ممثلة من أعضاء المكتبات ومؤسسات المعلومات والجهات المعنية بالمخطوطات في السلطنة مهمتها إنشاء الفهرس الوطني الموحّد للمخطوطات، وإتاحته في شبكة الإنترنت.
3. إجراء دراسة استطلاعية للإحاطة بواقع مكتبات المخطوطات في عمان تستهدف حصر المكتبات وتحديد أماكنها، وتسجيل بيانات وصفية أولية عن أعداد المخطوطات وحالة الحفظ والصيانة، وحالة الفهرسة، وتوفير قاعدة بيانات للانطلاق في مشروع الفهرس الموحّد.
4. تعزيز التعاون بين المؤسسات البحثية والمكتبات، واعتماد استراتيجيات رقمية متطورة، والاستفادة من إمكانات الذكاء الصناعي، لحفظ التراث الوطني، وإتاحته للأجيال بطرق ذات كفاءة ودقة.
5. توفير الكفاءات المدربة على فهرسة المخطوطات، وتنفيذ الدورات التدريبية للقائمين على العمل.
6. الاستفادة من تجارب الدول في إعداد وتنفيذ مشاريع الفهارس الوطنية الموحّدة.
7. تحديث قانون حماية المخطوطات بما يلبي التطورات في مجال المخطوطات، وبما يخدم مشروع الفهرس.
8. إصدار دليل تراجم الأعلام العمانيين إلكترونياً.
9. إنشاء صندوق وقفي لصيانة وحفظ وفهرسة المخطوطات يعمل على استدامة صيانة التراث العماني المخطوط.
10. إنشاء مشروع السجل الوطني للمخطوطات العمانية؛ وفقاً لقانون حماية المخطوطات.
ختاماً؛ إنَّ الأعمال العظيمة يقوم بها أناس أكفاء أوفياء، ليخلِّدوا للأخلاف علوم الإسلاف، وعمان -مصنع الثقافة ومخزن الحضارة- تستحق أنْ يكون لها فهرس موحّد لمخطوطاتها الذي نسأل الله أنْ يرى النور قريباً، وبالله التوفيق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المخطوطات العمانیة الحلقة النقاشیة الموح د
إقرأ أيضاً:
"الجامعة الوطنية" تستعرض إرث الدولة البوسعيدية ومسيرة النهضة العمانية
مسقط- الرؤية
نظّمت الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، الأربعاء، ندوة وطنية رفيعة المستوى بعنوان "الدولة البوسعيدية وأسس السلام في عُمان: من إرث التاريخ إلى نهضة الحاضر"، بحضور معالي السيد سعود بن هلال البوسعيدي، محافظ مسقط، وذلك ضمن احتفال الجامعة بيومها السنوي، وبالتزامن مع مرور 281 عاما على تأسيس الدولة البوسعيدية التي شكّلت حجر الأساس في بناء الدولة العُمانية الحديثة وترسيخ نهج السلام والاستقرار.
وأكد معالي السيد سعود بن هلال البوسعيدي أنّ استحضار إرث الدولة البوسعيدية يمثل جسراً معرفياً يربط الماضي بالحاضر، ويعزّز وعي الأجيال بتاريخ وطنهم ودوره الحضاري والإنساني، مشيرا إلى أن مسيرة السلام التي أرساها الأئمة والسلاطين البوسعيديون استمرت عبر النهضة المباركة بقيادة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وتُستكمل اليوم في ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله.
وشهدت الندوة مشاركة واسعة من الأكاديميين والمتخصصين من داخل السلطنة وخارجها، حيث تناولت ستة محاور رئيسية شملت: الجذور التاريخية للدولة البوسعيدية وبناء المؤسسات السياسية، قيم التعايش والتسامح والحياد الإيجابي في السياسة العُمانية، ملامح النهضة المباركة بقيادة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، النهضة المتجددة في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق واستمرارية الإصلاح، الدور العُماني في معالجة القضايا الإقليمية والدولية والوساطات الدبلوماسية، مكانة ودور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية خلال العصر البوسعيدي.
وقدّم رياض بن عبدالله البوسعيدي الكلمة الرئيسية، مستعرضاً الإرث السياسي والفكري للدولة البوسعيدية، ودورها في ترسيخ قيم الحكمة والتسامح، وتعزيز حضور عُمان الحضاري في محيطها الإقليمي والدولي.
وأكد سعادة الدكتور علي بن سعود البيماني، رئيس الجامعة، أنّ تنظيم هذه الندوة يأتي ضمن التزام الجامعة بدورها العلمي والمعرفي، وإسهامها في تسليط الضوء على المحطات التاريخية التي أسست لنهج السلام العُماني، وبما ينسجم مع مستهدفات رؤية عُمان 2040 في تعزيز الهوية الوطنية وتنمية الوعي المجتمعي.
وحظيت الجلسات العلمية بتفاعل كبير من الحضور، وشكّلت منصة للحوار البنّاء وتبادل الخبرات بين الباحثين والمختصين، بما يعزز الفهم العميق لمسيرة الدولة العُمانية وإسهاماتها التاريخية في تعزيز الأمن والاستقرار والسلام.