أكتوبر، فشل الثورات، والنرجسية المدنية
تاريخ النشر: 2nd, November 2025 GMT
أكتوبر، فشل الثورات، والنرجسية المدنية:
ما زال جلنا يحتفل ب”ثورة” أكتوبر ١٩٦٤ بكامل المحبة. وهذا مفهوم من ناحية العاطفة والاعتزاز الوطني. وينطبق الأمر علي “ثورتي” أبريل ١٩٨٥ وديسمبر-أبريل ٢٠١٩. ولكن هل بالعاطفة وحدها تحيا الشعوب؟
لا أدعي إطلاع واسع علي أدبيات السياسة السودانية ولكني لا أعتقد بوجود تقييم علمي صارم يتناول سؤال لماذا قادت جميع الثورات إلي أوضاع أسوأ مما تمردت ضده فيما يختص بشأن الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية والتماسك الوطني.
تفشل كل ثورة ثم نكتفي بالتغني بمفاتنها وكأن الثورة غاية في حد ذاتها لا وسيلة لمجتمع أفضل. حتي أحتفل بعضنا بثورة أكتوبر ١٩٦٤ ومجمجوا أو سكتوا تماما عن الغزو الأجنبي والمجازر التي تحدث في عام ٢٠٢٥ أو حين تحدثوا قالوا عن “طرفي نزاع” يساوي بين الغزاة الأجانب ومن يدافعون عن وطنهم من مدنيين وعسكر وعلمانيين وإسلاميين.
غياب التقييم النقدي الصارم لأسباب فشل الهبات ضد الحكم العسكري ساهم في إعادة نفس سيناريوهات الفشل المدني بكلفة أكثر فداحة كل مرة.
القول بفشل “الثورات” في تحسين أوضاع الوطن ليس بالضرورة دعوة لهجر الثورة والقبول بالدكتاتوريات الفاسدة ولكنه دعوة للأمانة العلمية والوطنية وعدم بيع أوهام مكلفة لشعب مثخن بالجراح. وهذا بهدف أن تخلق الثورات أوضاعا أفضل.
علي سبيل المثال بدات ثورة أبريل ٢٠١٩ بالشعار الخطأ “تسقط بس” إذ آمن الجميع تقريبا بان كل المطلوب هو إسقاط نظام البشير وسوف تتحسن الظروف بمجرد ذهابه. ولم يكن “تسقط بس” محض شعار فقد كان أيدلوجيا كاملة غسلت الأدمغة حتي وقر في عقل الجميع أن الخلاص ممكن بعد أن سقطت بس بتطبيق نفس برنامج البشير الإقتصادي، والتحالف مع نفس جنجويده وتبني نفس منهج سلامه بالمحاصصة وتقسيم الكعكة مع كل من حمل بندقية مع إضافة درجة غير مسبوقة من انبطاح للخارج .
ثم اعلن قادة الإنتقال إن هذه ثورة حرية لا يهمها الخبز. ثم حدس ما حدس وأنهار الاقتصاد وضاق العيش عما كان عليه أيام البشير واستأسدت الميليشيات وانفرطت وحدة الشارع السياسي حتي إنتهينا بحرب ضروس أحد أسبابها سوء إدارة الفترة الإنتقالية. فهل نعي أن إسقاط الدكتاتور إنما هي وسيلة لمجتمع أفضل وليست بغاية صبيانية ينشلها لصوص الثورات؟
أهم دروس فشل الثورات هو سقوط اسطورة التسطيح المريع التي تقول بان الحكم العسكري هو سبب تخلف السودان لان هذا القول يناقضه أن سجل المدنيين في الحكم لا يقل سوءا عن سجل الحكم العسكري وقد يزيد عليه بالمياعة وعدم الانضباط وغياب وحدة القرار والتوجه. الأزمة السودانية مركبة وأسبابها تطال الجميع من قوي مدنية ونخب عسكرية ولكن اختزالها في حكم العسكر تزوير للتاريخ وسواقة بالخلا في إتجاه خطر.
لم يثبت المدنيين حتي الآن أي أفضلية علي العسكر في الإدارة ولا في الوطنية ولا في أي من مجال المقدرات. وهذا ليس في مديح العسكر وإنما دعوة للقوي المدنية أن تتحسس عوجة رقبة جملها. العسكر كالمدنيين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم أحسنوا وأساءوا كجميع مؤسسات الدولة ومواطنيها ولكن أعداء الوطن والغزاة استثمروا في زرع الفتنة بين الجيش والمواطنين حتي ينكشف الوطن لقمة سائغة للغزاة وأعوانهم من الكرزايات.
ونجح غسيل المخ نجاحا باهرا حتي وقفت الطبقة المتعلمة موقف الحياد في حرب بين الجيش الوطني والغزاة وميليشيات الرعب. وهذا سبق تاريخي يستحق الدخول في موسوعة غينيس إذ لا أعلم عن طبقة سياسية أو متعلمة تعاملت مع غزو يهدف لتفكيك وطنها بكل هذه السلبية والتواطؤ العملي والسكوتي.
الدرس الآخر أن الشارع السوداني قادر على إسقاط أشرس الدكتاتوريات ببسالة وعبقرية الشباب ولكن الشارع عجز عن أن ينتج قيادة منه وبه وله ولذا حصد ثمار الثورات أحزاب وتكنوقراط لا يهمهم وطن وينحصر هدفهم في الأسمى في وراثة الدكتاتوريات تحت شعار الديمقراطية بافتراض أن على الشعب أن يحتفل بان نفس السياسات السابقة يطبقها الآن كادر مدني يتعالى علي عسكر إذ أن في ارتفاع الأسعار على يد الحكم المدني خير وبركة.
سقطت بس ولكن ساءت الأمور في الفترة الإنتقالية ثم طمبجتها الحرب.
غياب التنظيم هو سبب نجاح الثورات في إسقاط الدكتاتوريات وفشلها في التحول الأيجابي لاحقا. هذه نقطة مركزية ومشكلة مزمنة. وحتي يومنا هذا كل الأحزاب والكتاب لا يكفون عن إصدار خرط طريق ورؤي رائعة لانقاذ الوطن ولكن لا أحد يهتم بسؤال ما هي القوى الاجتماعية والحزبية التي ستستلم زمام السلطة لتقود تنفيذ الرؤية حتي لا تعود نفس الجماعات التي أفشلت الثورات السابقة .
ولا يوجد تناول عميق أو جاد عن كيفية تنظيم الجماعة التي ستقود التحول ولا عن طبيعتها. وهذا يفتح الطريق لتسقط بس مرة أخري ولتعود نفس الوجوه الشائهة والخائنة لدفة القيادة ولتكرر ثورتنا ميراث الفشل. التنظيم هو السؤال الغائب.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
نفسية الإنسان في مواجهة المرض
معاناة الإنسان مع المرض لا تأتي من منفذ واحد، وإنما تنبع من عيون مختلفة، وتأتي في هيئة آلام متفاوتة الحِدّة، ويكون الإعلان عن الحالة المرضية بالشكوى والبحث عن الحلول، على اعتبار أن المرض في أغلب حالاته عضويّ.
تكوُّن المرض واشتداده على الإنسان في أغلب الأوقات لا يأتي بين يومٍ وليلة، بل يتدرّج إلى مراحل متقدّمة، وهذا هو النمط السائد في الكثير من الأمراض المعقّدة والصعب علاجها، عندما تتمكّن من الإنسان وتضعف قدرته الداخلية على مقاومة المرض وكبح انتشاره وتمدّده إلى أعضاء أخرى.
بعض الأمراض تتشكّل خفيةً على مدى شهور، وقد تزيد إلى سنوات، والجسم -كما هو متعارف عليه- يُصدر إشارات وتنبيهات بوجود خللٍ أو حالة غير طبيعية، غير أن البعض يتجاهلها ويعتبرها أمرا عاديا لا يحتاج إلى مراجعة الطبيب المختص، معتقدا أن ما يشكو منه سرعان ما يتلاشى في بحر النسيان.
في المجتمع الحديث، أصبحت الأمراض تنتشر بسرعةٍ كبيرة، وهذا ما نراه واضحا على كثير من الأشخاص سواء في أعمالنا أو محيط حياتنا، وأغلب تلك الأمراض تأتي من السلوك المعيشي للأفراد، بمعنى أن البعض يدرك خطورة تناوله المفرط لبعض المنتجات الغذائية والأضرار التي تُحدثها في الجسم، إلا أنه يُقبل عليها بشراهة دون النظر إلى الجانب الآخر الذي يمكن أن تُسببه له في المستقبل.
كما تعاني بعض المجتمعات من ضعف في الثقافة الغذائية، وهذا يفسّر ظهور البدانة والسمنة المفرطة لدى الصغار والكبار، ومن ثمّ ظهور الأمراض المرتبطة بالوزن الزائد مثل آلام المفاصل والأمراض المزمنة وغيرها.
وعلى الجانب الآخر، يمكن أن تكون الأمراض الوراثية والأمراض المزمنة أكثر وضوحا في الحياة العامة، ويرجع الأطباء والمختصون هذه الوفرة من الأمراض -التي باتت تصيب أشخاصًا في أعمارٍ صغيرة- إلى انتشار العادات السيئة، سواء الغذائية أو قلة الحركة وممارسة الرياضة، أو الضغوط النفسية والعصبية وتأثيرها المباشر على صحة القلب وغيره من الأعضاء.
خلال السنوات القليلة الماضية وجدنا أن ثمة تجاوبًا مجتمعيًا مع الحملات الصحية وحلقات العمل التي توضح خطورة الأمراض على البشرية، ولذا أصبح لدينا اهتمام كبير بالجوانب الصحية، وإن كانت هناك بعض التجاوزات في هذا الجانب، إلا أن أغلب الناس أصبحوا يتقبلون فكرة التعايش مع المرض -رغم علمهم بخطورته ومضاعفاته- والسبب في ذلك هو توفّر جرعات تثقيفية تحث على المحافظة على بقاء أجسادنا خالية من المرض وبعيدة عن المعاناة.
شريحة عريضة من الأفراد أصبحت لديها قناعة تامة بأهمية العمل على الوقاية من الأمراض أولا، وفي حال الإصابة العمل على هزيمة المرض من خلال التكيّف معه، والقدرة على التعاطي مع الوضع الصحي حتى لو امتدّ هذا الأمر لسنوات العمر بأكملها، والسر في ذلك استعانتهم بخبرات الآخرين في بقاء المعنويات لديهم مرتفعة، والعامل النفسي قويًّا لا يتأثر بسهولة بمجرد الشعور بالألم.
إننا لا نخفي سرًّا إذا قلنا بصوتٍ مرتفع إن العامل النفسي أصبح ضرورةً قصوى في صمود المريض في معركة البقاء، ومواجهة المرض ببسالة، وإدارة الحياة بشكلٍ يضمن عدم حدوث انتكاسات عكسية.
ولذا يُعد هذا الأسلوب من أهم طرق العلاج الحديثة، حتى قبل صرف العقاقير اللازمة للعلاج من المرض.
لماذا يُصاب بعض المرضى بانتكاساتٍ صحية مفاجئة؟
الجواب: هو عدم قدرتهم على توجيه عقولهم نحو الحلول، بل تركيزهم على الجوانب الأخرى؛ فيُهمل البعض ممارسة الرياضة، ويمتنع عن تناول الوجبات الصحية، ويحجم عن أخذ أدويته بانتظام، وتصبح حالته النفسية ليست في أحسن حالاتها، لذلك لا يستطيع المريض مقاومة المرض، فيقع فريسة سهلة لا يستطيع الخروج من دائرة الخطر التي حاصر نفسه فيها!
وهذا الأمر ينقلنا إلى الواقع؛ هل سألتَ نفسك ذات مرة: لماذا تنهار بعض الحالات المرضية بسرعة رغم أنها ليست بتلك الأوضاع الخطيرة؟
الجواب: هو انهيار العامل النفسي لديها، وتملّك الخوف الشديد من المرض.
لن نُسمّي أمراضا بعينها أودت بحياة كثيرٍ من الناس بسبب إخفاقهم في المقاومة، لكن ما يعنينا هو أن العامل النفسي له دور فعّال في مقاومة المرض وربما التغلب عليه نهائيًا.
وهناك حالات كثيرة استطاعت أن تتعايش مع المرض تارة، وتُقضي عليه تارة أخرى.
إذن، نحن كبشر يجب علينا أن نرفع من معنوياتنا إن كنا مرضى، وأن ندعم الآخرين من المرضى معنويًا حتى يتمكنوا من الصمود أمام المرض لفترةٍ طويلة أو الشفاء منه نهائيًا.