الكتابة الاستقصائية.. حين تمتزج الصحافة بالبحث العلمي
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
يُثير غياب تعريف جامع للصحافة الاستقصائية جدلا واسعا حول ما يميزها عن الصحافة التقليدية، فبينما يرى باحثون أنها مجرد امتداد للصحافة العادية، يرى آخرون أنها أقرب إلى البحث العلمي، بحكم التزامها بضوابط دقيقة، واعتمادها أدوات للتحقق من المعلومات وكشف أثر الموضوع وأبعاده.
من هذا المنطلق، نشر مركز الجزيرة للدراسات دراسة إعلامية بعنوان "البحث العلمي في العمل الاستقصائي.
يتعين التمييز بين العمل الصحفي التقليدي والعمل الصحفي الاستقصائي؛ إذ لا تخضع صحافة الاستقصاء، كالصحافة العادية، لمعيار السرعة في البث والنشر، ولا لـ"جاذبية" السبق الصحفي وحصرية تقديم الخبر والمعلومة، بل تُعتبر عملا صحفيا يقوم على جهد بشري مكثف، يطمح ويجهد لتقديم المعلومات الموثقة، والتي يصبح التأكد من حقيقتها ودقتها ومصداقيتها أهم من المعلومة نفسها.
لذا، تَبرُز أهمية صحافة الاستقصاء، ليس لكونها تكشف فقط، عن الحقائق الغائبة أو المستترة أو المحجوبة، بل صحافة ترتقي إلى مستوى الحرفة، وتعتمد على معايير الصحافة المتأنية التي يقيس فيها الصحفيون تغطيتهم بالأشهر والسنوات وليس بالأيام.
فالمعايير المعتمَدة لاختيار أي موضوع استقصائي لابد أن يسبقها تأكد من جانب الصحفي حول إمكانيته في الوصول إلى المصادر المعنية بموضوعه، وأن يكون لديه القدرة على الحصول على الأدلة التي توثق الضرر الناتج عن المشكلة التي هو بصدد معالجتها من أجل مواجهتها.
إعلانكما استخدمت الكاتبة مقابلات مع صحفيين أكاديميين وممارسين لاكتشاف تصوراتهم وخبراتهم حول العلاقة بين الاستقصاء والبحث العلمي، ورأيهم فيما يخص واقع تدريس الصحافة الاستقصائية في الجامعات والمعاهد العربية والمواد والمقررات التي تُخصِّصها لهذه الغاية.
هذا فضلا عن رأيهم في أوجه الشبه بين التحقيق الصحفي الاستقصائي والبحث العلمي، وما إذا كانت هناك مواضيع استقصائية تحتاج، أكثر من غيرها، إلى أسلوب ومنهجية البحث العلمي.
الاختلافات بين الصحافة التقليدية والاستقصائيةبطبيعة الحال، تتشابه معايير الصحافة الاستقصائية مع المعايير العامة للصحافة، لكنها تختلف عنها من حيث مقتضيات طبيعة عملها الذي يقوم على قواعد أشد تعقيدا بشأن انتقاء الموضوع ومدى أهميته بالنسبة للجمهور، وكذلك من حيث قدرة الصحفي على الإلمام بكل التفاصيل الخاصة بهذا الموضوع.
وفي حين يكتفي الصحفي الميداني بنقل الأخبار والوقائع والبيانات والتصريحات والمواقف ونشرها ضمن قوالب صحفية معينة، فإن الصحفي الاستقصائي يتأنّى، ويغوص في محيطات القضايا، ويُحلِّل جذورها، ويبتكر زاوية ورؤية لموضوعاته بهدف نبش معلومات غير مرئية، يُحرِّك من خلالها الساكن ويكشف الجديد الذي يخلق أثرا إيجابيا من شأنه تغيير حياة الناس، وقد يقود أحيانا إلى تقديم الجناة إلى المساءلة.
ويعتبر صحفيون آخرون أن الاستقصائيات هي امتدادات للتجربة الصحفية التقليدية، فالأخيرة تركز على الإجابة على الأسئلة الخمسة (ماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ لماذا؟) ، بينما تسعى الصحافة الاستقصائية إلى الإجابة عن سؤال (كيف؟) بغاية الكشف عن الأسباب الكامنة وراء تمظهر الواقع بهذه الحالة وتغييره وإيجاد الحلول.
وقارنت الدراسة بين الصحافتين على أكثر من صعيد:
أولها طريقة البحث والتغطية:حيث تواكب الصحافة التقليدية الأحداث اليومية وتكتفي بالحد الأدنى من المعلومات التي تُنشر بسرعة، مع الاعتماد على تصريحات المصادر دون توثيق معمق، بينما الاستقصائية تنخرط في موضوعات معقدة وطويلة الأمد، تُعالج ملفا متكاملا لا مجرد حدث عابر، وتقوم على جمع وتحليل كمّ واسع من البيانات، والتحقق منها بدقة، مع استمرار البحث حتى استكمال القصة ودعمها بالأدلة، ما يجعلها أوسع وأطول وأكثر شمولية.
الفرق الثاني يوضح الفروقات في العلاقة مع المصادر:في التقليدية، يعتمد الصحفي على المصادر الرسمية والمباشرة بشكل رئيسي، وغالبا ما تكون المعلومات محدودة وموجهة، مع حجب بعض التفاصيل عن الجمهور.
أما الاستقصائية، فتسعى لكشف المعلومات الخفية والتحقق منها بدقة، وتعتمد على مصادر متنوعة، بما فيها غير الرسمية، مع التركيز على جمع الأدلة وتحليلها لضمان مصداقية ونزاهة التقرير.
أما الفرق الثالث والأخير فهو في طبيعة المنتج الصحفي:فالتقليدي يقدّم انعكاسا مباشرا للواقع ويكتفي بعرض الحقائق كما هي ضمن قوالب جاهزة كالهرم المقلوب، بلا انخراط شخصي من الصحفي ولا إصدار أحكام أو تبني مواقف، كما يعتمد على بناء درامي يضفي قوة وتأثيرا على القصة.
أما التحقيق الاستقصائي فيرفض الاكتفاء بالواقع الظاهر، ويسعى لاختراقه وكشف أبعاده الخفية من خلال تتبع الضحايا والمتسببين، وربط الحقائق وتحميل الأطراف مسؤولياتها، وصولا إلى تقديم حكم أو مقترح لتصحيح الخلل، كما أنه يتخذ أشكالا تحريرية أكثر تنوعا وسردا متسلسلا بهدف الإقناع.
أشارت الدراسة أن الصحافة الاستقصائية تتقاطع مع البحث العلمي في العديد من الجوانب المنهجية رغم اختلاف غاياتهما النهائية. فكما يُعَد البحث العلمي مشروعا شخصيا للباحث، ينطلق بدافع شغف أو رغبة في اكتشاف جديد، ينطلق الصحفي الاستقصائي غالبا من دافع ذاتي أيضا ورغبة في كشف الحقائق وإصلاح الخلل، ما جعلها تُعرف أحيانا بـ"صحافة المشروع الذاتي".
إعلانكلاهما يتعامل مع المشكلات بوصفها موضوعات صالحة للاستقصاء أو البحث، ويخضع عملهما لعملية دقيقة تشمل جمع الأدلة والمعلومات وتحليلها، والتشكيك بالمصادر والتحقق منها، مع اهتمام كبير بالتفاصيل.
كما يشترك المجالان في وضوح القضية المطروحة وقابليتها للتقييم، وفي الانطلاق من فرضيات يتم اختبارها بالأدلة قبل الدفاع عنها أو دحضها، إلى جانب الحاجة لتحديد المصطلحات والمفاهيم بدقة خلال مراحل العمل.
لكن مع هذا التشابه، هناك اختلافات جوهرية، فالصحافة الاستقصائية تفرض النزول الميداني وملاحقة المصادر المباشرة، في حين قد يكتفي البحث بالمكتبات أو الوثائق. كما أن الصحفي قد يتستّر أحيانا على أدواته ومصادره لحماية عمله، بينما يعطي الباحث أولوية كاملة لتوضيح أدواته وأساليبه لقياس المصداقية.
والغاية تختلف أيضا: إذ يسعى الاستقصاء لكشف حقائق تمس الرأي العام والسلطات، بينما ينشد البحث العلمي تعميق الفهم وتطوير المعرفة الأكاديمية.
أما على مستوى الأسلوب، فإن الصحافة الاستقصائية تقدم مادتها بلغة مكثفة وقصة مترابطة موجهة لجمهور واسع ضمن قيود النشر والزمن، بينما يستخدم البحث لغة منهجية مطولة موجهة لمجتمع أكاديمي محدود. كما يظل البحث محكوما بإطار نظري وإشكاليات واضحة، بينما قد يغيّر الصحفي فرضياته تبعا لما يكشفه التحقيق.
ويُتاح للباحث عادة وقت كافٍ للتخطيط والتجريب، فيما يواجه الصحفي ضغوطا متواصلة مرتبطة بعامل الوقت، والتشويش، أو غياب الأدلة والشهود.
وفي النهاية، يعتمد الصحفي بدرجة كبيرة على اتصالاته الشخصية ومهاراته في الحوار والاستماع والتوثيق، مع ضرورة مراعاة الأبعاد القانونية والأخلاقية.
ورغم وضوح الفروق الجوهرية بين الاستقصاء الصحفي والبحث الأكاديمي، إلا أن الحدود بينهما قد تتداخل أحيانا، خصوصا مع دخول باحثين إلى الوسط الإعلامي.
ومع أن الاستقصاء ينطلق من تقاليد كتابة التقارير الإخبارية، إلا أنه يختلف في عدة نقاط تتعلق بعمق البحث، وبالعلاقة مع المصادر حيث لا يقبل الصحفي بمعلومة غير محققة، وبالنتائج التي تسعى لإثبات أن حدثا ما وقع وكان يجب ألا يقع أو العكس.
وغالبا ما تُبنى أفكار التحقيقات على الملاحظة، الحدس، المصادر، التسريبات أو تقارير المؤسسات، بينما يحدد الصحفي أولويتها وأهميتها.
وقد أكد صحفيون وأكاديميون أن القضايا المعقدة، خصوصا بعد الربيع العربي، دفعت الاستقصاء إلى تبني أدوات منهجية أدق شبيهة بالبحث العلمي، ولا سيما في التحقيقات ذات الخطورة العالية أو تلك التي تستند إلى بيانات طبية وبيئية ومالية.
وهكذا، تظل الصحافة الاستقصائية عملا مهنيا متينا يوظف طرق بحث وتحقيق صارمة، ويركز على جودة المعلومات وعدالتها ومساءلة المسؤولين، ما يجعلها قريبة من الصحافة المتخصصة التي تتطلب تكوينا معرفيا وخلفية علمية لدى الصحفي.
وتطرقت الكاتبة وفاء أبو شقرا في الدراسة إلى الأدوات البحثية في الكتابة الاستقصائية، حيث أوضحت أن الصحفي الاستقصائي عند طرحه الفرضية، يحتاج إلى التفكير المنهجي عبر توليد عدد من الأسئلة البحثية، ومن ثم تحديد وحشد مصادر وأدوات تُتيح له الوصول إلى إجابات على هذه الأسئلة.
ولخصت هذه الأدوات في:
التوثيق: يعني السعي للحصول على الوثائق، خاصة المحجوبة أو السرية. الملاحظة: والتي تتضمن مراقبة سلوك عينة التحقيق عن بُعد وتسجيل النتائج لاستخلاص المعلومات. المقابلة: وهي حوار مع العينة للحصول على إجابات مفتوحة أو مقيدة أو مختلطة تساعد في الوصول للنتائج المطلوبة. الاستبيان: طريقة سريعة وفعالة للحصول على معلومات كمية من عينة واسعة حول سلوكهم وآرائهم. مجموعات التركيز: تجمع مجموعة صغيرة لمناقشة أسئلة محددة بشكل مراقب للحصول على ملاحظات أكثر دقة من المقابلات الفردية. الاختبارات: تُستخدم في التحقيقات العلمية لطرح أسئلة محددة على المستجوبين للوصول إلى المعلومات المطلوبة. إعلانأما المصادر فتشمل:
مصادر رئيسية مثل المشاركين الفعليين في الأحداث والمستندات الرسمية، ومصادر ثانوية تتنوع بين الشفوية والمكتوبة والمرئية والمسموعة مثل الشهود والوثائق والصور والفيديوهات. كما توجد مصادر ذات خبرة أو مصلحة مباشرة توفر معلومات دقيقة وجانبا إنسانيا للموضوع، ومصادر مجهلة تحمي هويتها لكنها تقدم معلومات سرية مهمة، بالإضافة إلى مصادر مفتوحة متاحة للعامة عبر الإعلام ومواقع التواصل والدراسات المنشورة.وخلصت الدراسة لذكر أهمية تعليم الصحافة الاستقصائية في العالم العربي، فهي تدرَّس في 79 جامعة عربية، إضافة إلى الدورات التدريبية، بهدف تزويد الصحفيين بالأدوات والمنهجيات اللازمة لممارسة الاستقصاء الصحفي بمهارة ومسؤولية، رغم التحديات المرتبطة بمسائل حساسة أو قيود ميدانية.
وأكدت على أن الصحافة الاستقصائية تتجاوز مجرد نقل الأخبار لتكشف ما يُراد إخفاؤه، معتمدة على أدوات البحث العلمي ومنهجية دقيقة في جمع المعلومات والتحقق منها. فهي تتطلب من الصحفي وضع خطة واضحة، وتحديد المصادر المؤكدة والمحتملة، واختيار منهج التحليل المناسب، مع مراعاة الجدول الزمني والميزانية.
وأن التحقيق الاستقصائي، رغم تشابهه مع البحث العلمي، يظل منتوجا صحفيا يلتزم بمقتضيات المهنة، ويتميز بالقدرة على ابتكار أساليب عمل جديدة، ما يعزز مصداقية العمل الإعلامي وجودته، ويدعم دور الصحافة في خدمة المجتمع وكشف الحقائق.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: شفافية غوث حريات دراسات دراسات الصحافة الاستقصائیة البحث العلمی للحصول على التی ت
إقرأ أيضاً:
“درايف شفت”!.
” #درايف_شفت “!.
#خاص_سواليف
مقال الأحد 2-11-2025
#أحمد_حسن_الزعبي
مقالات ذات صلةنتيجة “صفنة” طويلة جاءت بعد #كوب_ثقيل من #شاي_الغزالين “حلّ ” ،تخلّلها مراجعة صريحة مع النفس ، وتأمل سنواتٍ من “الهرج” ..تسيّدت عليّ نفسي اللوّامة ووبّختني بصوتها العجوز: لماذا دخلت هذا “الكار” كلّه؟..ماذا استفدت من #الصحافة؟ ماذا فعلت في الصحافة ؟ ماذا غيّرت في الصحافة؟ وماذا فعلت بك الصحافة؟…ما فائدة كل ما كتبت؟..وما تكتب وما ستكتب؟..أنت مجرّد صوت كملايين #الأصوات في هذا #الكون التي لا تحدث تغييراً ..كصوت ” #جاروشة_القمح ” أو صوت ” #التركتر ” أو كصوت #الريح أو صوت عجل العربة في يد #عامل_الباطون..
هل يتصّل بك أحد ويقول لك : “يا خوي يا احمد اذا في حواليك مقال بسعر طري؟”..أو يتصّل عليك شاب يريد ” 4 مقالات سوبر مع بطاطا”..أو يتهافت عليك بعض التجّار يريدون حوالي 40 أو 50 #مقال مقاس “240” كلمة بسعر الجملة ، و”30″ مقال مقاس 330 كلمة بسعر حرق .. وقد ما عندك “هات”..
انها مصلحة لا يطلبها أحد ،ولا يقبل عليها أحد..ولا يفتقدها أحد..
ألوم نفسي بعد ربع قرن من المهنة ..لو أنني مشيت وراء رغبتي الأولى واقتنيت ” #تنك_مي “…أسقى المزارع ، وازوّد “ورش العمار”..وأمضي بالصحراء لأملأ قِرب الرعيان وأسقى حلالهم…وأوصل #الماء للمضطرين أيام الخميس وعند غياب مياه السلطة..
ربما لو أنني فعلت ما كنت أتمناه قبل ربع قرن لكان لدي أربع “تنكات مي”..كل ولد تنك..لأمّنت مستقبلهم ومستقبلي بدلا من “جقّ الحكي”..
Ahmed.h.alzoubi@hotmail.com