إسرائيل وصراع السرديات مع العرب
تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT
من يراقب مسار التطبيع العربي مع إسرائيل يكتشف أنه ليس مجرد خطوة سياسية تُتخذ في غرف مغلقة، بل حدثٌ يعيد تشكيل مفهوم السلطة ذاته. فالتطبيع في هذه اللحظة التاريخية لا يشبه أي تطبيع مضى؛ إنه لا يُقاس هذه المرة بميزان المصالح ولا بحسابات المؤسسات الأمنية، بل يُقاس بقدرته على تفكيك الرابط بين الحاكم والمجتمع.
ذلك أن التطبيع، في جوهره، ليس فعلا خارجيا بقدر ما هو اعترافٌ ضمني بانهيار الثقة بالذات. فالأنظمة التي تتجه نحو التطبيع تفعل ذلك وكأنها ترى نفسها عاجزة عن بناء شرعية داخلية قادرة على الصمود، فتبحث عنها في اعتراف خارجي، ولو كان هذا الاعتراف صادرا عن قوة احتلال. وهذا السلوك ليس مجرد انحراف سياسي، بل هو انكشاف عميق في بنية الوعي السياسي لدى هذه الأنظمة، كأنها اختارت أن تستبدل شعبها بحليف لا يرى فيها سوى أداة.
والحقيقة أن ما سرّبته وسائل الإعلام الإسرائيلية حول المحادثات مع سوريا يمنحنا نافذة دقيقة لهذا الخلل العميق. فإسرائيل التي ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في سوريا لا تتصرف وفق موازين تفاوضية، بل وفق فلسفة وجودية كاملة، الأرض ليست موضوعا للنقاش، بل مسلّمة تاريخية؛ والاحتلال ليس حالة عابرة بل هوية وجودية للكيان الإسرائيلي؛ أما "السلام" فهو مجرد إطار تحصل من خلاله إسرائيل على اعتراف عربي بواقع صنعتْه بالقوة. وحين تشترط إسرائيل "تطبيعا كاملا" مقابل أن تسمح بفتح نقاش حول مستقبل الأرض المحتلة، فإنها لا تفاوض بقدر ما تُملي سرديتها على الآخر، وكأنها تقول لنا نحن العرب، إن أردتم أن نعيد النظر في جرحٍ فتحناه نحن، فعليكم أولا أن تمنحونا شرعية هذا الجرح.
هنا يظهر البعد الفلسفي الحقيقي، فإسرائيل لا تريد سلاما، بل تريد تحويل الاحتلال إلى حقيقة ميتافيزيقية غير قابلة للتفكيك. والمفارقة أن بعض الأنظمة العربية تتعامل مع هذا المنطق وكأنه عرض سياسي قابل للأخذ والرد، بينما شعوبها ترى فيه امتدادا لنفس البنية العنيفة التي خبرتها في فلسطين ولبنان وسوريا، والتي لا يمكن أن تُقابل إلا بالرفض والمقاومة.
إن التجربة أثبتت أن الشعوب ليست وحدها مَن يرفض التطبيع، بل إن الرفض بات جزءا من المعنى السياسي للوجود العربي ذاته. فما بعد السابع من أكتوبر لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان لحظة زلزلة للوعي العالمي. لقد جردت الحرب على غزة كل الأقنعة، فكشفت أن إسرائيل لا تبحث عن سلام، ولا تتقن إلا سياسة الغزو، ولا تفهم إلا القوة. وفي هذه اللحظة تحديدا، خرجت ملايين الأصوات حول العالم، لا لأنها عربية أو مسلمة، بل لأنها أدركت أن ما يجري في غزة ليس صراعا على الحدود، بل مواجهة بين مفهومين للإنسان، إنسان يُعامل كقيمة، وإنسان يُعامل كهدف عسكري.
هذا التحول العالمي جعل التطبيع يبدو، حتى من منظور فلسفة القوة، فعلا غير عقلاني. فالحكومات التي تُطبّع في ظل هذا الوعي الجديد لا تعلن فقط انشقاقها عن شعوبها، بل تعلن انحيازها إلى سردية خاسرة، لأن إسرائيل نفسها رغم قوتها العسكرية باتت في مواجهة عزلة أخلاقية ونقد عالمي يتسع يوما بعد يوم. وبالتالي فإن التطبيع ليس "براغماتية"، كما يروّج بعضهم، بل مقامرة سياسية مفتوحة على انهيارات داخلية لا يمكن التكهن بمساراتها.
وإذا كان التطبيع في الماضي يُقدَّم كخيار "سلام"، فإنه اليوم يُقرأ بوصفه انحيازا للقوة العمياء ضد الضمير الإنساني. فالشعوب التي شاهدت غزة تُدكّ بالصواريخ، ورأت الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض، لم تعد ترى في التطبيع فعلا سياسيا، بل فعلا أخلاقيا فاسدا. والأنظمة التي تتجاهل هذا التحول إنما تفعل ذلك من منطلق قراءة قاصرة إذ تظن أن الزمن كفيل بامتصاص الغضب الشعبي، لكنها لا تدرك أن الزمن اليوم لم يعد يعمل ضد الشعوب، بل معها. فوسائل التواصل، ووسائط الإعلام الجديدة، والقدرة على إنتاج الرواية من الداخل، جميعها جعلت من الشعوب فاعلا سياسيا لا يمكن الالتفاف عليه.
إن التطبيع لا يسقط الأنظمة لأنه فعل "خيانة" كما تقول الشعارات، بل لأنه يفكّك الشرعية من الداخل. فالشرعية ليست نصا دستوريا ولا خطابا رسميا؛ إنها شعور جمعي بأن السلطة تتحرك ضمن حدود أخلاقية مقبولة. وعندما تتجاوز السلطة هذه الحدود، خاصة في قضية حساسة كالقضية الفلسطينية، فإنها تنسحب من المجال الذي يمنحها قوة البقاء، وحين تُقدم على التطبيع رغم كل ما يجري، فإنها كمن يُعلن طوعا أنها لم تعُد تمثل شعبها.
ولعل العبارة التي تتردد اليوم، "الشعوب ليست كما كانت قبل غزة"، ليست توصيفا عاطفيا بل حقيقة بنيوية. فالوعي الشعبي العربي والعالمي لم يعد منغلقا داخل الدولة القطرية، بل أصبح وعيا كونيا يرى في فلسطين مرآة له. ومن هنا، فإن أي تقارب مع إسرائيل يُقرأ جماهيريا على أنه تحالف مع الظلم، وانفصال عن الهوية، وإهانة للقيم التي صارت جزءا من ضمير الناس.
أما إسرائيل، فهي لا تزال أسيرة منطق القوة ذاته، تحتل، وتفرض، وتبتز، وتطالب الآخرين بأن يقدّموا لها ما لم تستطع أن تحققه في الحرب. وهذا المنطق، كما أثبت التاريخ، لا يمكن أن ينتج سلاما. فالسلام الذي تبنيه القوة ليس سلاما، بل هدنة مؤقتة تنتظر لحظة الانفجار، ومن يعتقد أن التطبيع سيجلب الاستقرار، إنما ينسى أن الاستقرار لا يُبنى على تحالفات، بل على انسجام داخلي بين الشعوب وسلطاتها.
إن الحقيقة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي أن التطبيع في هذه اللحظة ليس خطوة نحو المستقبل، بل نحو هاوية سياسية. فالأنظمة التي تفقد ثقة شعوبها ليست بحاجة إلى أعداء خارجيين كي تسقط؛ يكفيها أن تتخذ قرارا واحدا من هذا النوع، كي تُفقد نفسها الجذور التي تستند إليها. وهذا هو الدرس الذي يفهمه "الإنسان العاقل" فعلا، فالعقل السياسي ليس في معرفة كيفية بناء العلاقات، بل في معرفة متى تكون العلاقة خيانة لجوهر الوجود السياسي نفسه.
وعليه، فإن التطبيع ليس مجرد خيار خاطئ، بل خطيئة استراتيجية، ومن يظن أنه يستطيع السير في هذا الطريق من دون أن يدفع الثمن، فليعد قراءة الجغرافيا والتاريخ والمجتمع. فإسرائيل لا تفهم إلا القوة، والشعوب لا تُخدع إلا مرّة واحدة، والأنظمة التي تراهن على الزمن ستكتشف أن الزمن كما جرى دائما كان أقرب إلى الشعوب منه إلى الحكّام.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التطبيع إسرائيل سوريا السلام فلسطين سوريا إسرائيل فلسطين تطبيع سلام قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا یمکن التی ت
إقرأ أيضاً:
تحوّلات ما بعد الحرب الباردة: العالم الإسلامي بين إعادة التشكيل وصراع الهوية بزمن متعدد الأقطاب
حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت البشرية تقف فوق ركامٍ هائل. المصانع متوقفة، والمدن رماد، والملايين قد ابتلعتهم الفاجعة. وكان السؤال الأكبر آنذاك: كيف نعيد تشغيل العالم؟ وبحكم الدور المركزي الذي لعبته الولايات المتحدة في الانتصار، تولّت قيادة النظام الدولي الجديد. فاجتمعت 44 دولة في "بريتون وودز" وأسست صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتحوّل الدولار إلى نبض الاقتصاد العالمي، وهو الإيقاع الذي لا يزال يحكمنا حتى اليوم.
وفي المقابل، رسّخ الاتحاد السوفييتي نفوذه في أوروبا الشرقية بحثا عن ضماناتٍ لأمنه بعد الحرب: بولندا، ألمانيا الشرقية، هنغاريا.. كلها خضعت لموسكو. هكذا انقسم العالم إلى قطبين، وبدأت الحرب الباردة بلا قنابل، بل بالأفكار والعقائد: الشيوعية في مواجهة الديمقراطية الليبرالية.
والمفارقة أن القرارات التي صاغت العالم آنذاك لا تزال تتحكم به اليوم، لكن النظام الذي بُني بعد الحرب يتصدّع بسرعة. فالولايات المتحدة تفقد أدوات الطاعة القديمة؛ فالعقوبات، والاتفاقيات العسكرية، والضغط السياسي؛ لم تعد تنتج الخضوع ذاته. الصين حوّلت التعرفة الجمركية إلى ورقة قوة، والهند دفعت ثمن تحالفاتها، وروسيا أعادت ترتيب موقعها العالمي، بينما تتصرف بقية الدول بمنطق الموازنة الهادئة بدل الامتثال. لسنا أمام عالم معادٍ لأمريكا، بل أمام عالمٍ بعد أمريكا؛ عالمٍ متعدد الأقطاب، كل دولة فيه تعيد تعريف مصالحها بما يتجاوز مركزية واشنطن.
وفي قلب هذا التحول، تبرز المأساة الأكبر: العالم الإسلامي، الذي لم يكن طرفا في الحرب العالمية، دفع أثمان الحرب الباردة كاملة. السودان المنهك بالصراعات، باكستان المثخنة بجرح الإرهاب، فلسطين التي تُستنزف في كل يوم، سوريا المحطمة، اليمن الممزق.. كلها وجوه مختلفة لخللٍ واحد. كانت هذه المنطقة، وما تزال، مختبرا جيوسياسيا تُختبر فيه خرائط القوة على حساب الشعوب.
وإذا نظرنا إلى القدس، وجدناها المثال الأوضح لهذا الاضطراب، فهي المدينة الأكثر تنازعا على وجه الأرض، ومركز القداسة لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث. ألفياتٌ من التداخل بين الروح والسياسة جعلت من كل حجر فيها ذاكرة، ومن كل زقاقٍ قصة، غير أن أخطر ما يهددها اليوم تلك الحركات التي تريد تحويلها من فضاءٍ مقدس إلى مشروعٍ سياسي. منطق "إقامة الهيكل الثالث و"هدم المسجد الأقصى ليس رؤية دينية، بل نزعة لإعادة كتابة التاريخ لخدمة مشروعٍ توسّعي. ولهذا يرفض اليهود المتدينون أنفسهم ربط عقيدتهم بالصهيونية؛ لأنهم يدركون أنها تستخدم الدين غطاء لاحتلالٍ سياسي خالص.
تاريخيا، من يعيد كتابة التاريخ يفعل ذلك لغاية، والإعلام الذي يروّج سردية واحدة يفعل ذلك لتمويلٍ واحدٍ وغايةٍ واحدة، وعندما تتحول الأرض المقدسة إلى عقارٍ سياسي، يصبح الصراع صراع هويةٍ لا صراع حدود. وهذا الهوس بالهوية يتجلى اليوم بصورةٍ أوضح من أي وقت مضى في الخطاب الصهيوني.
وفي ظل هذا كله، جاءت إبادة غزة لتوقظ الضمير الإسلامي كله، إنها ليست مأساة فلسطينية فحسب؛ إنها اختبار لكرامة الأمة جمعاء. غير أن الرد هذه المرة لم يكن صخبا، بل وعيا جديدا؛ من الخليج إلى باكستان، ومن تركيا إلى أفريقيا، جيلٌ جديد يتشكل، جيلٌ يسأل، ويواجه، ويكتب روايته بيده بدلا من أن تُفرض عليه.
وباڪستان جزء من هذا المشهد؛ ليست مركزه ولا هامشه، بل جرحٌ من جراح الأمة. أربعون عاما من الإرهاب، ثمانون ألف شهيد، عبء الحرب الأفغانية، وظلم الرواية العالمية؛ كلها فصولٌ من جرحٍ واحد يتردد صداه في غزة والسودان واليمن وسوريا. الألم واحد، وإن اختلفت الخرائط.
اليوم، المعركة ليست معركة دبابات، بل معركة رواية، ومن يملك الرواية يملك الشرعية. والعالم الإسلامي، لأول مرة منذ عقود، يمتلك فرصة إعادة تعريف ذاته: لا بصوت الغضب، بل بصوت الحكمة. فالشهادة في غزة، أو في باكستان، أو في السودان.. هي في حقيقتها شهادة الأمة كلها. وقد قال رسول الله ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد"، وها هو الجسد اليوم يصرخ من أطرافه كلها. هذه اليقظة صامتة، لكن صمتها سيغيّر العالم.
[email protected]