لجريدة عمان:
2025-11-28@10:24:51 GMT

تقريبًا منمنحكي بشي تاني

تاريخ النشر: 25th, November 2025 GMT

بهذه العبارة -التي أصوغها بتصرّف- أجاب زياد الرحباني حين سأله المذيع: إذا زرتَ السيدة فيروز، ألا تسألك: "يا أمي ليه ما تزوجت؟". هذا سؤال يقود إلى فكرة أن العائلة "تنقرض" إذا ما في سُلالة.

ثم أضاف بنبرة تجمع السخرية والمرارة: "بدك تقنع أمي تتزوج ودغري تجيب ولد".

هذا الجواب الذي يبدو بسيطًا يفتح بابًا واسعًا للتساؤل عن صورة فيروز الأم، في مقابل صورتها الأيقونية التي نعرفها جميعًا.

ويأتي هذا السؤال في شهر نوفمبر الذي تتزاحم فيه مناسبات الفرح والحزن معًا: استمرار حرب الإبادة في غزة، وتصاعد التوتر في لبنان، وحادثة وفاة عائلة عُمانية في حريق مؤلم، وفي المقابل تحلّ ذكرى ميلاد السيدة فيروز المسجَّل في الوثائق بتاريخ 21 نوفمبر 1935، رغم الجدل الدائم حول دقة هذا التاريخ.

لكن مهما قيل عن أصولها -لبنانية أم فلسطينية- يبقى الثابت هو صوتها الذي وصفه مصطفى محمود بأنه "صوت جميل ومثقّف"، ووصفه عبدالوهاب البياتي بـ"الصوت الملائكي"، ونزار قباني بـ"فيروز ليست مطربة... فيروز وطن"، ومحمود درويش بـ"صوتها صلاة"، أما زياد فوصفه بأنه "آلة دقيقة... ما بتغلط". وكان أجمل ما قرأته هذا الصباح عن صوتها وذكرى عيد ميلادها ما كتبه المسرحي عبيدو باشا على صفحته في الفيسبوك: "لن تحترق أعوام فيروز؛ لأنّ صوتها صوت بلا فصاحة..."، كأنّ صوتها خارج العمر والزمن.

ويرتبط صوت فيروز بالصباحات الأولى التي يفتح فيها الناس نوافذهم على يوم جديد. في أحد لقاءاتها النادرة في السبعينيات سُئلت: "لمن تسمعين؟" فأجابت بخجلها المعروف إجابة بسيطة تحمل رمزية ومجازا عاليا: "أسمع صوتي من الشبابيك." لم تكن تشير إلى صورة متعالية، بل إلى حقيقة تتجدد يوميًا: أن أغانيها تأتيها من نوافذ البيوت، ومن مذياعات السيارات، وفي المقاهي الشعبية والراقية.

نحن الذين نذهب إليها، صوتها جزء من حياتنا اليومية، يتنقّل معنا في شوارعنا، ويصنع ذاكرتنا المشتركة التي تمتد من طفولتنا إلى مراهقتنا.

ومن هنا ارتبط صوتها بفلسطين، عبر أغاني: زهرة المدائن، سنرجع يومًا، القدس العتيقة... فصار كثيرون يشعرون أنها فلسطينية بالانتماء، مهما كانت جذورها الحقيقية.

من سؤال الصوت إلى سؤال الأمومة ينتقل التفكير ببطء إلى صورة فيروز الخفيّة: هل يمكن أن تكون أمًّا صارمة في علاقتها مع زياد، تتمنى له الزواج والإنجاب؟ لقد عرفنا فيروز الفنانة الملتزمة على المسرح: امرأة شامخة، أنيقة، يظهر حضورها كطقس جمالي مستقل.

وتُظهر المقاطع المسرّبة بعد وفاة زياد في 2025م التزامها بالبروفات، واعتدادها بذاتها، وابتسامتها الآسرة.

هذه الصورة المثالية التي أحببناها واحترمناها تجعلنا نتساءل -بحذر المحبّ- هل تُخفي شيئًا من الصرامة الأمومية التي لا تنفصل عن الخوف على الابن الذي كانت علاقته بها الأكثر تعقيدًا وخصوصية؟

"شو بدي بالبلاد؟

الله يخلي الولاد".

إن رغبة الأم في أن ترى أحفادها رغبة إنسانية عميقة، ومشروعة في سياق عاطفتها الطبيعية، لكنها -في مجتمعاتنا خصوصًا- تختلط بطبقات من التفكير الموروث. كثيرون ينظرون إلى زواج الأبناء وإنجابهم بوصفهما امتدادًا للتاريخ العائلي، لا امتدادًا للحياة نفسها.

وكأن الفرحة لا تكتمل بولادة فرد جديد، بل بتحقّق شكل من أشكال الاستمرار الذي تمنحه الأعراف قداسة خاصة، تمدّ جذورها في أسرار البيوت وصراع العائلات على إرث رمزي أكثر منه حقيقيًا. وهذا كله قد لا يعني كثيرًا للأبناء المعاصرين الذين يعيشون في شروط مختلفة، ولا يُشغلون بالتمدد العائلي في صورته التقليدية.

في ضوء هذا الإرث يمكن فهم إجابة زياد الرحباني: "تقريبًا منمنحكي بشي تاني". فهذه الجملة تكشف -من طرف خفي- أن موضوع الزواج والإنجاب ظلّ حاضرًا في علاقته بوالدته، باعتباره الهاجس الذي يختصر خوف الأم من انقطاع السلالة، ومن الفناء الرمزي للعائلة. ولا يتعارض هذا الهاجس بطبيعته مع المشروع الثقافي الكبير الذي حملته فيروز والرحابنة؛ بل يكشف الوجه الإنساني الخالص خلف الصورة الأيقونية.

من هنا ينفتح الباب على سؤال أكبر: هل نملك حرية حقيقية في خيارات حياتنا؟ عبارة زياد "منمنحكي بشي تاني" توحي بأن موضوع الزواج والإنجاب يعود ليتكرر كنوع من القدَر الاجتماعي الذي يسبق كل نقاش.

وهذا ما يذكّرني بمرتكزات الفيلسوف برتراند راسل الذي يرى أن الإنسان يولد محكومًا بثوابت لا يملك تغييرها: المولد، الاسم، الجنس، الوراثة، الحقبة التاريخية، الثقافة، والموت. الحرية -في رأيه- ليست كسرًا لهذه الثوابت، بل طريقة الاستجابة لها.

لذلك تبدو صرامة الأمهات، مهما غُلّفت بالحب، كنوع من القيد الحريري الذي يذكّر الأبناء بأن الحرية المطلقة وهمٌ جميل.

بعد هذا التأمل الفلسفي، تعود ذاكرتي إلى سنوات دراستي في الأردن. لم يكن هناك مكان يخلو من صوت فيروز: من المقاهي إلى شرفات البيوت، ومن الحافلات إلى الشوارع الباردة في الصباح. كنتُ أشتري الكاسيتات الأصلية لحفلاتها، أحملها معي إلى صلالة، وأستمع إليها في السيارة، أو في بيت العائلة.

وعندما يسمع أهلي أغنيات مثل "حبيتك تنسيت النوم"، و"أنا وشادي تربّينا سوا"، و"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي"، و"حبوا بعضن... تركوا بعضن"، و"شايف البحر شو كبير"، كانوا يكتشفون فيروز التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، ويُعدون اكتشافها عنصرًا جديدا أضيف إلى البيت، ويقولون إنها "لا تغني كلمات صعبة... هي تحوّل الكلام البسيط إلى موسيقى". تلك البساطة هي جوهر سحر الرحابنة.

لم تُخفِ كتابات الصحافة ومواقع التواصل الافتراضي وجود فترات فتور وتباعد بين فيروز وزياد. وقد كتب عبيدو باشا في نصّ حفّزني على كتابة مقالتي: "أوحشها الخصام مع عاصي ومنصور، لكنه لم ينحدر إلى أعماقها؛ لأنها بقيت كغصن من أغصان الأخوين، إلى أن جاء زياد محطّتها المحمومة نحو القيادة الجديدة... لا شك أنها تفتقد شهيد البساطة، إلا أنها لن تخذله، ما دام صوتها جزءًا من عناقه حتى في غيابه. ما دام صوتها هُوية لا طريقا فقط".

وصف "شهيد البساطة" يلخّص حجم الصدمة برحيل زياد، ويكشف أهمية وجوده داخل عائلة صغيرة مكونة من أفراد يحيون معًا في بيت يتبادلون الضحك في أثناء تناول الوجبات، ويتبادلون النكت والخواطر والمقالب والموسيقى في بساطة ويُسر.

وفي مساء بارد كنت أستمع إلى "رجعت الشتوية" وأفكر: كيف يمكن لصوت قادم من جبال لبنان أن يصنع حكاية في ظفار؟ وكيف تجمعنا فيروز في بيت واحد رغم تباعد الجغرافيا؟ كلماتها -وإن كانت عن عاشقين- تحتفي بالبيت والطقس والبرد والمطر ونداءات العصافير وطقوس العائلة وقصص الهوى، فوق أدراج البيت وعلى الأبواب، وهكذا، سنظل نحكي عن أشياء كثيرة عالقة في الوجدان، مع صوتها الذي صار وطنًا صغيرًا يسكننا جميعًا.

وفي ذكرى ميلادها نقول لفيروز: للعمر كله حب وجلال. ونستعيد ما قاله الشاعر وديع ديب:

"صوتُها كالوحيِ في غمرِ النشيدِ

كانهمار الضوءِ من نجمٍ بعيدِ

كارتعاشِ الطيبِ في جامِ الورودِ

شنّفي -فيروزُ- أسماعَ الوجودِ

وانفَحي الأرواحَ بالشدوِ الغريدِ

أنتِ من لبنانَ قيثارُ الخلودِ".

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

د. محمد عبد المطلب.. رفيق الشعر الذي غادرنا

بوجوم غير المتوقِع، ودموع المصدوم، تلقيت خبر رحيله، ولأنه كان وسيظل الأستاذ الذي طالما نهلت ونهل من علمه أساتذتي، فإن حروف اللغة أعجزتني، وبانت عن سطوري، فكيف يكون رثاء ناقد بحجم عالِم، وأستاذ بقدر إنسان.. ترى كيف لي أن أكتب اليوم خبر رحيلك يا عالمي ومعلمي، ومصدر فخري.. 


فإليك، بل إلى روحك التي ستبقى ظلا يغمرنا، ويرعانا، إلى أستاذي الجليل الدكتور محمد عبدالمطلب، أستاذ النقد بكلية الآداب جامعة عين شمس، موئل دراستي.. الذي فارقنا جسدا بعد معاناة شهور مع المرض، لتختار روحه النقية مكانا أكثر هدوءا من عالمنا الصاخب، وتغادرنا صباح اليوم الأربعاء.. عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عاما.. إليه وإلى محبيه، السطور التالية..
يتفرد د.محمد عبدالمطلب بحبه الجم لطائر الشعر، إلى ذلك الحد الذي جعله يفرد معظم كتبه لنقده، وهو بذلك يعد الناقد الوحيد تقريبا الذى تخصص فى نقد الشعر عبر كل أجياله من خلال 33 كتابا.
له آراؤه الخاصة التي قد يراها البعض لا تتسق مع المعتاد، إلا أنه لم يكن يأبه التعبير عنها ببساطة العالم ببواطن الشعر، السالك لدروبه، رفيق شعرائه على اختلاف أجيالهم ومشاربهم، يؤمن بالشعر العمودي ولا ينكر الحديث منه، بل يعترف بشرعية وجوده ويقف عليه بالدراسة والتحليل..
فمنهجه هو ربط القديم بالجديد، متبنيا مبدأ من لا قديم له لا جديد له. هكذا يعترف في أحد حواراته أن ذوقه الشخصى مع «إمرؤ القيس والمتنبى وأبى تمام وشوقى وحافظ» ولكنه يستوعب كل التجارب ويرحب بها، ويرى أن نزار قبانى ظاهرة شعرية وكذلك محمود درويش.. فكان كتابه عن قصيدة النثر «النص المشكل»، والذي قصد فيه دراسة هذه الظاهرة منذ البداية، وهل لها مرجعية تراثية أم لا، وأطلق عليها نصا مشكلا، لكونها تجمع بين الشعر والنثر. فربط القديم بالجديد، وكان مذهبه كما قال ابن قتيبه «لا جديد لمن لا قديم له».
صدم البعض من كونه يعتبر «حجازى» أشعر من «صلاح عبدالصبور»، إلا أن تفسير رأيه هذا يؤكد أنه يعد كليهما صنوين عظيمين، فقد رأى أن حجازى صاحب الصيغة الشعرية، وصلاح عبدالصبور صاحب الفكرة الشعرية.... ترى وهل يمكن أن تنفصل الفكرة عن الصورة التي هي وسيلتها الأهم للظهور؟ 
ومحمد عبدالمطلب، هو ذلك النوع المنصف من النقاد، الذي لا يميل كل الميل، لمدرسة شعرية بعينها فلا يرى سواها، ولا يهجو مدرسة أخرى فلا يرى لها سبيلا، بل كان منهجه النقدى يرتكز على عدم إصدار أحكام القيمة التى تضع الناقد موضع القاضى ورجل الشرطة الذى يحاسب الناس على البراءة أو الاتهام... هكذا يقول في حوار سابق له "ومهمتى أن أساعد القارئ على إصدار هذا الحكم، فأنا أشير للساعة وأقول إنها مكونة من كذا قطعة، وتعمل بإتقان شديد، فتقول أنت: «الله، إنها جميلة»، فأنت الذى أعجبت وقلت «الله» وليس أنا، ومهمتى كناقد أن أتيح للمتلقى إصدار أحكام القيمة ولست أنا حتى لا أصادر حق القارىء، فإذا قلت عن فلان إنه شاعر جيد، وأنت تحترمنى كناقد قديم وكبير فستأخذ كلامى مسلما به، وأنا لا أريد ذلك". 
شمل الأجيال الشعرية كلها، قديمها وحديثها بالنقد، فلم يتوقف عند جماعة أو زمن معين دون الآخر، بل تبدأ كتاباته منذ زمن «إمرؤ القيس» حتى يومنا هذا. 
وكانت للصحافة النصيب الكبير من مقالاته النقدية، فكتب في الأهرام وغيرها، إلا أنه توقف في سنواته الأخيرة، لظروف صحية، حالت دون قدرته على ملاحقة الصحافة اليومية.
وهو رغم حبه للشعر، إلا أنه لم يمتلك الموهبة الشعرية "حسب تصريح سابق له"،  هو ما دفعه للتعمق في دراسة الشعر وإصدار كتاب متعددة في هذا المجال، عن أهمية البلاغة واللغويات في النقد الأدبي.


بروفايل


هو محمد عبد المطلب مصطفى، أستاذ النقد والبلاغة بكلية الآداب - جامعة عين شمس، وُلد في مدينة المنصورة عام 1937م، له أكثر من ثلاثة وثلاثين مؤلفًا فى النقد والبلاغة، حصل على كثير من الجوائز المصريّة والعربية والفرنسيّة، منها جائزة الملك فيصل في اللغة العربية والأدب تقديراً لإنجازاته في مجال التحليل التطبيقي للنصوص الشعرية، كما حصل 
على جائزة الدولة التقديرية عام 2018، وقبلها جوائز «البابطين واتحاد الكتاب وجامعة عين شمس».

المؤهلات الدراسية

 ليسانس دار العلوم 1964  جامعة القاهرة، ماجستير في النقد والبلاغة . كلية دار العلوم . 1973، دكتوراه في النقد والبلاغة . آداب عين شمس 1978   
التدرج الوظيفي : مدرس بقسم اللغة العربية وآدابها . آداب عين شمس 1979، أستاذ مساعد 1986
 أستاذ النقد والبلاغة 1990، رئيس قسم اللغة العربية 2000. 


الأعمال المنشورة

  اتجاهات النقد والبلاغة في القرنين السابع والثامن الهجريين، دراسات في النقد القديم، جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، أسلوبية البلاغة، البلاغة والأسلوبية، قراءة ثانية في شعر امرئ القيس. 
العلامة والعلامية، قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني، عز الدين إسماعيل ناقدا، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، تقابلات الحداثة في شعر السبعينيات، قراءات أسلوبية في الشعر الحديث، مناورات الشعرية . هكذا تكلم النص، البلاغة العربية . قراءة أخرى، النص المشكل، بلاغة السرد، كتاب الشعر، ذاكرة النقد الأدبي، الشاعر والتجربة،  بلاغة السرد النسوي، شوقي وحافظ في مرآة النقد،  جمع وتدقيق ديوان شوقي (الشوقيات)، سلطة الشعر، شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، الأعلام الذهبية، القراءة الثقافية، اللغة والهوية، قراءات في اللغة والأدب والثقافة. 


الجوائز


 جائزة البحوث الممتازة . جامعة عين شمس 1986
جائزة مؤسسة البابطين في النقد الأدبي 1991، جائزة مؤسسة يماني في نقد الشعر 1994، وسام فارس من الحكومة الفرنسية 1997، الجائزة التقديرية في الفنون والآداب، جامعة عين شمس 2006، جائزة رجاء النقاش (اتحاد الكتاب) 2009. 
رحم الله أستاذنا محمد عبد المطلب، فهو القائل: إن الشعر سيظل موجودا ما بقي الإنسان.. ونحن هنا نقول إن إبداعه النقدي سيظل موجودا ما بقيت ضمائرنا.

مقالات مشابهة

  • ما الذي حدث في بورصة شيكاغو التجارية؟
  • سرطان الجلد والوشم.. ما الذي تقوله الدراسات؟
  • أمين الرافعي.. الرجل الذي هزم الاحتلال بالقلم وحده
  • أمن الدولة أوقفت الديك في بعلبك... ما الذي ضُبِطَ بحوزته؟
  • ترامب: الحيوان الذي أطلق النار على عنصري الحرس الوطني سيدفع ثمنا باهظا جدا أيا يكن
  • د. محمد عبد المطلب.. رفيق الشعر الذي غادرنا
  • في ذكرى رحيل الشحرورة.. رحلة مجد من الجبل إلى العالمية
  • الضوء الذي لا يموت
  • أحمد سعد في "طلقني" ب"طيبة تاني لأ" .. ما القصة؟