المسرح في لتوانيا: عندما اشتعل المسرح بنيران الألق
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
في اليوم التالي للمهرجان في مدينة كلايبيدا في لتوانيا توالت العروض والمناقشات والحوارات، وقد خيمت على المهرجان أجواء ألفة ومودة بشكل عام عدا استثناءات محدودة تلتهب فيها العواطف عندما يأتي ذكر الحرب في أوكرانيا.
العرض الثاني الذي نود الحديث عنه في هذا المهرجان كان تحت عنوان "شظية"، والعنوان هنا دلالي يحمل أكثر من رسالة، فالشظية بمعنى البؤرة، نقطة الانطلاق الصغيرة التي منها سيعم الدمار والخراب، والشظية هنا هو الحدث المفصلي الذي اختاره المخرج من مسرحية طويلة هي الشقيقات الثلاث لـ"أنتون تشيخوف"، ليبني على هذا الحدث مسرحية متكاملة، وبالأصح ليشيد على تلك اللحظة ملحمة مسرحية مفعمة.
أن مسرحية "الشقيقات الثلاث" أضحت اليوم واحدة من أيقونات المسرح العالمي، وإن كانت قد كتبت أساسا لمسرح موسكو في 1990م، وقد مثلت لأول مرة عام 1991م، وأول من قام بإخراجها أستاذ الفن المسرحي الشهير قسطنطين استانلافسكي والمخرج فالديمير نميروفيش – دانشينكو.
أسرة بروسوروف هي محور المسرحية لاسيما بناته الثلاث اللواتي نشأن في موسكو لا يستطعن التآلف مع حياة المدن النائية، خصوصا بعد وفاة والدهن، حيث يواجهن حالة من التشتت والضياع، ولا يبقى أمامهن غير التشبث بأمل العودة إلى موسكو، حيث الذكريات الطفولة والماضي الجميل.
"أولغا" هي الشقيقة الكبرى مدربة رياضة في البداية ثم تصبح مشرفة في ذات المدرسة، وفي الجزء الثالث من المسرحية تكون قد بلغت من العمر ما يجعلها فاقدة الأمل في الزواج، "ماشا" شقيقته الوسطى التي تعاني من تشتت عواطفها ما بين زوجها كوليجان وعشيقها مساعد العقيد فرشنين، وعندما يرحل فرشنين في مهمة عمل خارج البلدة، بإيعاز من زوجها، تستقر مع زوجها، إيرنا الشقيقة الصغرى أكثرهن تشبثا بحلم العودة إلى موسكو بحثا عن فتى الأحلام المنشود، وأكثرهن خيبة أمل عندما تجد الحلم يتلاشى تدريجا.
كان للشقيقات الثلاث شقيق غر يدعى أندريه وقع في حب امرأة قروية "ناتاشا" وتزوجها لاحقا، ولم يكتف بالزواج منها بل سلمها الخيط والمخيط في كل ما يتعلق بشؤون العائلة، ولما كانت ناتاشا امرأة متغطرسة قميئة في مظهرها ومخبرها فقد استغلت الوضع أسوأ استغلال ودخلت في صراع مستعر مع الشقيقات الثلاث حتى تمكنت من الهيمنة الكاملة على البيت مما عظم مأساتهن وشقاءهن، بل وحتى اندريه جنى نتيجة اختياره الفاشل فانغمس في لعب القمار والخسائر المادية الفادحة مما اضطره إلى رهن بيت العائلة ليُلبي نهم زوجته الذي لا حدود له ولا واعز.
هكذا أضحى بيت أسرة بروسوروف في الفصل الثالث من المسرحية، كانت النيران تشتعل في جوانح كل أفرادها اشتعالا خانقا ومكبوتا؛ حتى يأتي الحدث الصارخ عندما تشتعل النيران في المدينة، مشهد الحريق هو الشظية التي اختارها المخرج الروسي الشهير ديمتري كريموف ليطلقُ منها مسرحيته وليفجر كل المشاعر المتأججة في وجدان كل شخصيات المسرحية لاسيما أولغا الأخت الكبرى، النيران التهمت المدينة مما اضطر السكان إلى المغادرة على عجل وبعضهم التجأ إلى منزل أسرة بروسوروف، تلعب أولغا دورا محوريا في إيواء الناس ومساعدتهم رغم اعتراض ناتالي...
المخرج كريموف التقط لحظة الحريق تلك ووضعها تحت المجهر فصنع منها عرضا مسرحيا خلابا، ولا تأتي هذه المسرحية كعلاقة طارئة بين نصوص تشيخوف والمخرج كريموف، بل هي علاقة متأصلة نتج عنها أكثر من عمل مسرحي لاسيما مع نص مسرحية الشقيقات الثلاث.
شظايا الشقيقات الثلاث
تبدأ المسرحية بمشهد عبثي في عمارة بمصعد تقليدي، عبثية المشهد تتكرر عندما يقف المصعد في حالة الصعود، وتفتح أبوابه في ذات الوقت الذي تهبط فيه فتاة صغيرة من الطابق الأعلى إلى أسفل تطبطب كرتها، تتعثر الفتاة على السلم قبيل المصعد ثم تتماسك وتواصل طبطبة الكرة، وهي نازلة على السلم إلى الطابق الأسفل، يتكرر هذا المشهد في مطلع المسرحية عشرات المرات بكل تفاصيله الدقيقة بينما حركة سكان العمارة مستمرة في الدخول والخروج من وإلى شققهم وإلى المصعد الذي يتواجد به رجل عجوز ضئيل بالكاد يتحرك بدا أقرب إلى الرجل الآلي في حركته والرجل المحنط في هدوئه وسكينته.
لا شك أن في حركة الفتاة المتكررة الدؤوبة دلالة موحية للحياة الروتينية الجامدة غير المنتجة للشقيقات الثلاث لاحقا في المسرحية، فالتكرار يعني الملل الجمود العبثية واللا معنى، هو مشهد يحيلنا إلى أسطورة سيزيف الإغريقية القديمة إذ تجرأ سيزيف على الآلهة وجعل للبشر حياة أبدية فعاقبته الآلهة بأن يحمل صخرة من القاع إلى أعلى الجبل كلما وصل إلى القمة تسقط الصخرة وتتدحرج إلى القاع، فيعيد سيزيف الكرة مرة تلو مرة في تكرار أبدي لا متناه، فما قيمة حياة أبدية مثل هذه؟ بعض النقاد يرجعون منبت مسرح العبث إلى أسطورة سيزيف، ولكننا هنا نكتفي بدلالتها الموظفة في المسرحية، وتداعيات هذا التوظيف، ألا تحمل حياتنا المعاصرة نوعا من هذا الروتين المتكرر؟ سؤال أخاله لزم خاطر كل من شاهد هذا المشهد من المسرحية.
ثم يطالعنا مشهد الرواق العميق بأبعاده الثلاثية المتقنة وإطلالاته الجانبية وتفاصيله الدقيقة الذي يتقلص تدريجيا مع حركة الممثلة حتى يتمحور حول حجرتها في تكنيك غاية في الإبداع، لننتقل إلى مشهد آخر، حيث تقف الممثلة وحيدة في صالة فارهة تعلوها ثرية ضخمة.
هل مشهد الثرية مقتبس من شبح الأوبرا؟
مشهد الثرية يحيلنا تلقائيا إلى المسرحية الموسيقية الشهيرة في برودواي، شبح الأوبرا، التي عرضت لمدة تزيد عن 35 سنة متواصلة التي شاهدها أكثر من 19 مليون مشاهد من جميع أنحاء العالم، ما يهمنا هنا من مسرحية شبح الأوبرا المشهد الأخير عندما تسقط ثرية ضخمة من أعلى المسرح إلى القاع في حركة دراماتيكية أخاذة تذهل الجمهور وترعبه، هذا المشهد أصبح أيقونة المسرحية ومدعاة لجذب المشاهدين في أمريكا بل والعالم كله، فقد أضحى أيقونة مسرحية وأيقونة سياحية. في مسرحية شظية المخرج وظف مشهد الثرية لتكون الثرية شظايا من شظايا المسرحية المتناثرة ولتحمل دلالة الأصالة والمكانة المندثرة لأسرة بروسوروف المأسوف عليها.
مسرحية "شظية" عندما تكون السينوغرافيا البطل المتوج للعرض المشهد الأبرز في المسرحية والأكثر إثارة عاطفية وبصرية الذي احتل مساحة واسعة من العرض في ذروته هو مشهد الحريق، لا أتذكر أني شاهدت مثله أبدًا على كثر ما شاهدت من مشاهد الحريق في المسرحيات، قدم المشهد في منتهى الحرفية، للحظات بدا لنا أن المسرح كله يحترق، ثم تلاه مشهد الانفجار والحطام وتناثر الشظايا، مع المؤثرات الصوتية والإضاءة بدا المسرح كله يرتج ارتجاجا من أقصاه إلى أقصاه، وبدا الجمهور في خضم المشهد جزءًا أصيلا منه ومن أحداثه وطبيعته يعيشونه بكل جوارحهم وأحاسيسهم ناهيك عن الممثلين الذين تفاعلوا مع الحدث بتفاصيله الدقيقة.
هل يمكن أن نقول إن السينوغرافيا البصرية كانت هي بطلة العرض؟ نعم السينوغرافيا كانت أروع ما في المسرحية، الحقيقة، إن جاز القول، المسرحية كانت مدرسة لفن السينوغرافيا وكيفية تنفيذها وتوظيفها، لا سيما في مشهدي الحريق والحطام والشظايا المنتشرة في كل مكان، ولا عجب في ذلك فالمخرج في الأساس هو واحد من أشهر السينوغراف في روسيا قبل أن يكون مخرجا.
ربما يجدر بنا أن نقف عند ملاحظة مهمة تتمثل برغبة المخرج الملحة في استخدام كل الوسائل المسرحية المتاحة بالذات البصرية منها في تنفيذ عمله، وهو لا شك متقن لها كل الاتقان ولا غضاضة في ذلك من حيث المبدأ، لولا أني استثقلت تكرار المشاهد عبر التصوير السينمائي الذي حد بشكل أو آخر من وهج التشكيل والأداء المسرحي الحي والمباشر وتسبب في تطويل مدة العرض المسرحي، ولكن تبقى هذه وجهة نظر شخصية، فقد وجدت ثناء على تلك المقارنة بين العرض المسرحي والتصوير السينمائي لدى العديد من الزملاء الذين شاهدوا العرض.
ولا نبخس الممثلين حقهم في هذه المسرحية، فقد عملوا باقتدار على استهام طبيعة شخصيات تشيخوف المركبة والمعقدة، فكان الغالب في الأداء هو الرتم الداخلي العميق، والطاقة المكبوتة الموحية ومن ثم انفجار مدوي عاصف على المستوى الداخلي والخارجي، فالشظايا ليست صورة مشهديه سينوغرافية بقدر ما هي شخصيات ونفوس تتمزق على خشبة المسرح لتنثر شظاياها على الجمهور. "شظايا" هي مسرحية فرجة بالدرجة الأولى، تستعصي على الوصف وتستعصي على الناقد أو المتابع أن يفيها حقها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المسرحیة
إقرأ أيضاً:
بن حبتور: عدن يمنية الهوية وما يجري في المحافظات المحتلة مسرحية لتقاسم النفوذ السعودي الإماراتي
الثورة نت/ يحيى الرازحي
في قراءتين سياسيتين متكاملتين لمشهد المحافظات الجنوبية والشرقية، قدّم عضو المجلس السياسي الأعلى الدكتور عبد العزيز بن حبتور، عبر حلقتين متتاليتين بثتهما قناة عدن الفضائية، رؤية شاملة لما وصفه بـ«مشروع الاحتلال وتقاسم النفوذ» الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن، مؤكداً أن ما يجري على الأرض لم يعد خافياً على أحد.
وأكد بن حبتور أن مدينة عدن تمثل جزءاً أصيلاً من اليمن، بهويتها وتاريخها وثقافتها ومكانتها الاقتصادية والتجارية، مشيراً إلى أن إخضاعها بالقوة العسكرية عام 2015 شكّل نقطة تحول خطيرة في مسار الأحداث، وكشف أن المدينة تعرّضت في السابع والعشرين من رمضان 2015 لاحتلال مباشر نفذته قوات سعودية وإماراتية وخليجية، بمشاركة آلاف المقاتلين ومئات المدرعات والأسلحة المتنوعة.
وأوضح أنه تولى منصب محافظ عدن في مرحلة بالغة الحساسية، شهدت تدخلاً خارجياً واسعاً في الشأن الداخلي، مبيناً أنه تم اتخاذ قرار رسمي آنذاك بتحييد المدينة عن الصراع القائم بين أطراف سياسية متنازعة، حفاظاً على أمنها واستقرارها.
وفي سياق متصل، اوضح بن حبتور ان الفار عبد ربه منصور هادي، قدم استقالته قبل فراره الى عدن، الا أنه تراجع عنها لاحقاً تحت ضغوط لوبيات خارجية، كاشفاً عن لقائه بالسفير الأمريكي وطلبه التدخل لمنع دخول أنصار الله إلى عدن.
وعن واقع المحافظات الجنوبية والشرقية المحتلة، أكد بن حبتور أن ما يجري فيها ليس سوى «مسرحية مكشوفة» لتقاسم النفوذ بين السعودية والإمارات، تعكس مستوى عالياً من التنسيق وتبادل الأدوار بين الطرفين، في إطار مشروع يستهدف تمزيق اليمن ونهب ثرواته.
وأشار إلى أن تلك المحافظات تعيش فشلاً خدمياً وسياسياً وتنموياً شاملاً، في ظل سيطرة المرتزقة والعملاء، وتحويل الموارد والمنح المالية إلى حسابات قوى الفساد والعصابات المرتبطة بالرياض وأبو ظبي، بدلاً من توجيهها لخدمة المواطنين.
وأوضح أن عملاء الإمارات يسيطرون على الجزر والموانئ اليمنية، فيما تنشغل القوى التابعة للتحالف بالصراعات المفتعلة وجمع المال وتحقيق المصالح الشخصية، مؤكداً أن الخلافات المعلنة بين ما يسمى بحكومة “الشرعية” والمجلس الانتقالي ليست سوى ألاعيب سياسية تخدم أجندة الاحتلال.
ولفت بن حبتور إلى أن التطورات الأخيرة في حضرموت تأتي ضمن تكتيك سعودي إماراتي لإدارة الصراع بين أدواتهما، كاشفاً عن وجود غرف عمليات مشتركة في عدن تدير تحركات المرتزقة في مختلف المحافظات المحتلة.
وفي المقابل، شدد على أن أنصار الله وحلفاءهم، ورغم الحصار الجوي والبحري والاقتصادي، نجحوا في ضبط إدارة الدولة سياسياً وأمنياً ومعيشياً، الأمر الذي شكل إحراجاً كبيراً لدول تحالف العدوان أمام الرأي العام الدولي.
واختتم الدكتور بن حبتور بالتأكيد على أن السعودية والإمارات فشلتا في إضعاف مركز القرار الثوري والسياسي في صنعاء، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على العدوان، معتبراً أن الصراع معهما هو صراع وجود وسيادة، عسكري وسياسي وإعلامي وفكري، ولن يُحسم إلا برحيل الاحتلال وأدواته.