أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجَنْدر، والإمبراطورية، والرغبة في فيلم «لورَنس العرب» «1»
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
لقد كان ذلك التَّدشين الآسر للألباب في غاية الأبَّهة، والاختيال الطَّاووسي، والبذخ البروتوكوليِّ الإنجليزي المستميت في شكليَّاته الزُّخرفيَّة وبهرجيَّته اللامعة بأدق التَّفاصيل. وقد كان ذلك متساوقًا في اقترانٍ طبيعيٍّ بجلالٍ إمبراطوري مهيب كان لا يزال يصرُّ على اعتمار المجد المُرَصَّع بالحنين إلى بقاع شاسعة من الأرض، حيث أُبيدَ عدد هائل من البشر الذين يبدو أنهم كانوا هناك بمحض المصادفة السيَّئة فحسب (1).
حدث ذلك العرض الاستعراضي في تاريخ مشهود هو مساء يوم الأحد، التَّاسع من ديسمبر 1962. وقد كان الأمر مناسبة استثنائيَّة في تاريخ الإمبراطوريَّة، وكتابتها (inscription) التأريخيَّة عبر الأداة السينمائيَّة، واستحضار ماضيها، وحاضرها، وآماد مستقبلها
(3). وحقًّا، لقد كان للمناسبة السِّينمائيَّة الفخمة أن تكون ممهورة بتوقيعٍ سياسيٍّ كولونياليٍّ وإمبرياليٍّ صريح للغاية منذ البداية.
ما حدث، في بريطانيا (العظمى) وفي ما وراء ذلك، إذن، هو أنه جرى التَّعامل مع الأمر باعتباره حدثًا وطنيًّا ضخمًا ومضمَّخًا برائحة الإمبراطوريَّة، وأمجادها، وذاكرتها. وبالتالي فإن من رعى ذلك الحدث المحفور في ذاكرة التَّاج لم يكن أقل من الرَّمز الإمبراطوري الأول، الملكة إِلِزَبِث الثَّانية Elizabeth II شخصيًّا، وكان من ضمن الحاضرين زوجها الأمير فِلِب Prince Philip، دوقُ أدنبَره، إضافة إلى أكثر من ألفي ضيف من وجهاء القوم السِّياسيين، والعسكريِّين، والثَّقافيين، والاجتماعيِّين، وغيرهم من نُخَب. وقد حدث التَّدشين الملكي الصَّارخ للفيلم في مسرح أوديُن المهيب الذي لا تُقام فيه سوى المناسبات الجليلة، وذلك عقب «الإثارة الصحفيَّة التي لم يولِّدها قَطُّ في بريطانيا أي فيلم من قبل» (4). ما حدث في بداية المناسبة المهيبة كان تذكيرًا طقوسيًّا بالتَّقاليد والمناسبات الإمبراطوريَّة العتيدة، فقد «عَزَفَ حرس الخيول الملكيِّ لحنًا مُبَوَّقًا لحظة أن دخلت الملكة وحاشيتها إلى المسرح، وهتفت فرقة من الحرس الويلزيِّ بالنَّشيد الوطنيِّ... حاول المئات شراء تذاكر حتى وقت رفع ستارة الشَّاشة على الرغم من وجود لافتات عملاقة تقول إن التَّذاكر قد نفدت. آلاف غيرهم تسكَّعوا عند مدخل «مسرح» أوديُن خلال العرض، وذلك في انتظار مشاهدة الملكة وضيوفها وهم يغادرون بعد وقت طويل من منتصف الليل» (5).
-------------------------
(1): نشرت هذه الدراسة بالإنجليزيَّة في الأصل:
Abdullah Habib Almaaini, You Are an Interesting Man:” Gender, Empire, and Desire in David Lean’s Lawrence of Arabia” in Swinging Single: Representing Sexuality in the 1960s, ed., Hilary Radner and Moya Luckett (London: University of Minnesota Press, 1999), 77-102.
وأنشر هنا ترجمتي للمادة إلى العربيَّة مع قليل من التعديل والإضافة اللذين اجتهدت أنهما قد يكونان ذوَيْ نفع للقارئ العربي.
(2): في التَّقاليد البريطانيَّة المتبقيَّة منذ الحقبة الإمبراطوريَّة لا يمنح لقب «سير» (Sir) إلا لأشخاص استثنائيين، ويحدث ذلك مرتين في السَّنة بموجب مرسوم ملكي. وقد منح لين (25 مارس/آذار 1908--16 أبريل 1991) هذا اللقب في 30 أكتوبر 1984، وذلك تقديرًا لإسهاماته وخدماته في مجال الفنون. لمزيد من المعلومات حول ذلك في ما يخص لين، انظر:
Kevin Brownlow, David Lean (New York: Wyatt Books, 1996), 690.
(3): هذا ثَبْتٌ بالجهات والأشخاص المشاركين من ممثِّلين، وفنيِّين، وغيرهم من المشاركين في صناعة الفيلم. وهو ثبتٌ ليس كاملاً، بل تمثيلي لغرض الاختصار. ومصدر الثَّبت هو الفيلم نفسه والأدبيَّات الموثوقة عنه، سواء ما ظهر من الأسماء في «تترات» العمل أو لم يظهر. عُرض هذا الفيلم (35 ملم) بعدة نسخ متفاوتة المدَّة، وذلك لأسباب تجاريَّة وسياسيَّة، وقد شاهدْتُها جميعا. لغرض هذه الدراسة اعتمدت نسخة العام 1962 الأصليَّة وغير المحذوف منها شيء (222 دقيقة)، والتي أعيد تسويقها اعتبارا من العام 1989. صُوِّر الفيلم في مواقع في بريطانيا، والأردن، والمغرب، وإسبانيا. الإنتاج: Horizon Pictures. إصدار الإنتاج وتوزيع الفيلم: Columbia Pictures. المُنتِج:.Sam Spiegel المخرج: David Lean. السيناريو: Wilson Michael Robert Bolt. السينماتوغرافيا: Fred A. Young. المونتاج: Anne V. Coates. تصميم الإنتاج: John Box. الموسيقى الأصليَّة:.Maurice Jarr الإخراج الفنِّي: John Stoll and Anthony Masters. الدِّيكور: Dario Simoni. تصميم الأزياء: Phyllis Dalton. المكياج: Charles E. Parker. إدارة الإنتاج: John Palmer and R. L. M. Davidson, Tadeo Villalba. إدارة الموقع: Douglas Twiddy. (تي إي لورَنس) لورَنس العرب: Peter O’Toole. الأمير فيصل: Alec Guinness. الشَّريف علي: عمر الشّريف. ماجد: جميل راتب. عودة أبو (طائي) تايه: Anthony Quinn. الجنرال أللنبي: Jack Hawkins. السَّيد دريدن: Claud Rains. جاسم: I. S. Johar. فَرَج: Michel Ray. داود: John Dimech. الضَّابط التُّركي: Jose Ferrer. الطَّيار التُّركي: Tim Clutterbuck. الرَّقيب التُّركي: Fernando Sancho. جاكسُن بنتلي: Arthur Kennedy. السَّاقي في نادي الضُّباط في القاهرة: Cyril Shaps. المُمرِّضة: Barbara Cole. سائق الشَّاحنة: Roy Stevens. جندي الدَّرَّاجة الناريَّة: Steve Birtles. طَفَس: ضياء محي الدين. مايكل جورج هارتلي: Ian MacNaughton. مقرئ القرآن في خيمة الأمير فيصل: Henry Oscar. العريف جنكنز: Norman Rossington. اثنان من المُعَزِّين في كاتدرائيَّة سانت بول: Victor Croxford and Norman Fisher.
(4): Mandel Herbstman, Lawrence of Arabia Film Daily, December 17, 1962, 6.
(5): نفس المصدر السَّابق.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من الم
إقرأ أيضاً:
حُكّام العرب أضحوكة القرن، ونصر غزة سيأتي من اليمن
استوقفني ريلز في صفحة الملكة رانيا يوحي بما يحدث في غزة من مجاعة مميتة، فبدوره ينقل رسالة حزينة!
استعجبت من كمية عدم الحياء فيها بشكل لا يوصف، على وجه الخصوص، وعلى أمثالها بشكل عام، ولم أفهم ما الرسالة التي تريد إيصالها للعالم، وما الصوت المدفون وراءها؟
هل يُفيد ذلك بتأثرها؟ أم بتضامنها؟ أم توحي بحزنها الشديد وعجزها؟ أم ماذا تُشير إليه بالضبط؟!
يمانيون / كتابات/ رؤى الحمزي
عجبًا حقًا وصدقًا من النفاق والخبث والكذب الواضح كوضوح عين الشمس، لقد تجلى عجز جميع الأنظمة وافتقار الحكام لاتخاذ القرار، وأبسطه، وأثبتوا للعالم يومًا تلو الآخر أنهم رعاعٌ قطيعٌ يُساق، لا يملكون سيادة ولا قرارًا، ولا يملكون من الحكم إلا اسمه!
عاجزون عجزًا مخزيًا وفاضحًا، كيف لا، وهم كسائر الناس الذين لا يملكون حولًا ولا قوة! بل لولا الحكام الفَشَلة أمثالهم، لفعل الناس ما يُعجّل بالنصر، حيث يظهرون حزنهم وصوتهم كحكام في تغريدة أو بوست! يا للعار..
إنها أضحوكة القرن، حكام العرب عاجزون! لا، بل يُغرّدون، وهذه أقصى إمكانياتهم، وأروع مواقفهم البطولية المقدّمة للعالم، وأبرز انتصاراتهم في تاريخهم “المشرّف”!!!
أعتذر حقًا لكتابة ما أكتبه في حق حكّام العالم العربي “الأقوياء”، صانعي الانتصارات بفك الحصار عن غزة بحروب التغريدات المضحكة والمتعبة، المجاهدين فيها!
عارٌ ما قد نشهده في وقتنا، بسبب فضيحتهم التي ظهرت جليًا أمام العالم، وأفادت بأنهم مجرد أداة تُحرَّك كما يشاء اليهود، وأنهم حكام صورة لا معنى، وأن هناك بقعة شريفة من الأرض دُنّست من قِبَل الصهاينة، وتمادوا فيها، وعاثوا في الأرض فسادًا، ورغم أنها حرب صراعٍ أزليٍّ بين المسلمين واليهود، إلا أنهم ارتضوا بالسِّلم..
ونسوا التوجيهات الإلهية، فتمادى اليهود بدورهم أكثر وأكثر، وقتلوا، وحرقوا، وأبادوا بأبشع الطرق، وها هو الحال يصل بهم إلى أن تكون حرب تجويع، وعالمُنا العربي في صمتٍ مخزٍ، وحكامُنا في تواطؤٍ فاضح..
بينما هناك دولة يجهلها الأغلب، ظهرت وكأنها الحل الوحيد لمسألة معقدة، تنصر رغم الألم، وتصنع المستحيل رغم الافتقار، قيادةً وشعبًا، حكومةً وأرضًا.. تصرخ بصوت واحد، وتسعى لمد يد العون، إنها اليمن…
فرسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله – في يومٍ من الأيام، شعر بوَهَنٍ في جسده، وطلب من أم أبيها أن تُعطيه الكساء اليماني، ليُشير ويبعث رسالة قوية: أن اليمن مداوية للألم، تُعين وتُسند عند الوَهَن والضعف؛ كما تفعل الآن مع غزة.
والنصر سيأتي منها، وإن لم يأتِ، فستقف موقفًا مشرّفًا على أنها ساندت، وقاومت، وجاهدت، رغم العوائق والعقبات والمسافات الجغرافية، ورغم كل المصاعب.. ساندت، لا غرّدت!