موقع 24:
2025-05-15@03:41:24 GMT

النزف الصامت والعقبة أمام الحل في السودان

تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT

النزف الصامت والعقبة أمام الحل في السودان

خمسة أشهر ولم تحسم الحرب، أو يحسم السودانيون خلافاتهم، بينما يعاني البلد نزفاً صامتاً غير النزيف العسكري.

شلل في الاقتصاد. نزوح رؤوس الأموال أو ما تبقى منها. انهيار الخدمات الصحية وتعطل أكثر من 70 في المائة من المستشفيات عن العمل. تعطل النظام التعليمي بكل ما يعنيه ذلك على مستقبل الطلاب. ووفقاً لوزير التعليم محمود سر الختم الحوري، فإن 40 في المائة من المؤسسات التعليمية في الخرطوم تعرضت لدمار شبه كامل وحتى البقية الباقية لم تسلم من أضرار الحرب ونُهبت محتوياتها.


يعاني الناس شحاً في السلع الغذائية، والموجود منها تضاعفت أسعاره 3 مرات أو أكثر. وتزداد معاناتهم مع شح السيولة المتوفرة لديهم بعد توقف رواتب العاملين في الدولة لأكثر من 4 أشهر، نتيجة الشلل في الوزارات المركزية في الخرطوم، والأضرار الهائلة التي أصابت الجهاز المصرفي جراء النهب والتدمير مثلما أصابت مؤسسات القطاع الخاص.
أضف إلى ذلك أن نحو ثلثي السكان في المناطق المتأثرة بالحرب كانوا يعتمدون على الأعمال اليومية مصدر دخل، وهذه تعطلت أيضاً بشكل كبير بسبب المعارك وصعوبة الحركة والتنقل. لذلك جدّدت منظمات إغاثية دولية هذا الأسبوع تحذيراتها من أن نصف سكان السودان سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية بسبب الحرب وما أدت إليه من فقر وانهيار في الخدمات والمؤسسات ونقص في الموارد.
هذا النزف إذا استمر سيترك البلد أشلاء لمن يرثها أو يحلم بأن يرثها. فمناظر الصفوف الطويلة للمتدافعين للحصول على جوازات سفر بعد استئناف العمل في استخراجها قبل أيام بعد أن ظلت متوقفة منذ اندلاع القتال، كانت مؤشراً على رغبة مزيد من السودانيين في الهجرة بسبب الأوضاع المتردية. كثيرون لم يفكروا في هجر السودان ذات يوم، باتوا الآن يبحثون جدياً في مغادرته، تاركين وراءهم كل أحلامهم وممتلكاتهم وهم يعلمون أنهم ربما لن يتمكنوا أبداً من تعويضها.
وتتوقع منظمات شؤون اللاجئين والهجرة والإغاثة الدولية أن يصل عدد اللاجئين الفارين من الحرب إلى دول الجوار إلى نحو مليون و800 ألف بنهاية العام الحالي، إضافة إلى أكثر من 7 ملايين من النازحين والمهجرين في الداخل منهم 3 ملايين و800 ألف شخص نزحوا منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم.
في أحاديث الناس ومنتدياتهم تلمس اليوم إحباطاً متزايداً من تردي الأوضاع، وعدم وضوح الرؤية حول متى وكيف تنتهي الحرب. فالانقسام بين السودانيين، والاستقطاب الشديد الحاصل يسهمان في استمرار الحرب وإطالة أمدها بلا أفق لحل أو نهاية وشيكة، وهنا لبّ المشكلة في تقديري.
الخلافات والصراعات بين الأطراف المختلفة مثلما تسببت في عرقلة الفترة الانتقالية ووأد أحلام ثورة الشباب، فإنها قادت إلى تهيئة الظروف لهذه الحرب، وتسهم الآن في إطالة أمدها. لو كان الفرقاء السودانيون سعوا إلى توافق لكانوا قد تجنبوا الحرب، لكنهم انغمسوا في صراع إقصائي عدمي بين قوى الحرية والتغيير (قحت) أو أطراف فيها من جهة، والإسلاميين (الكيزان) وفلول نظام عمر البشير الساقط من الجهة الأخرى، وهو الصراع الذي لا يزال طاغياً على المشهد حتى اللحظة، وينعكس على الحرب بشكل مباشر، بل ويؤثر على نظرة العالم لها.
التصنيفات عقّدت الصورة حتى في الاصطفاف الحاصل في الحرب، بين التيار الداعم للجيش، وبين التيار الداعي لوقفها. فخلافاً للصورة المشوهة الرائجة، ليس كل من يناصر ويدعم الجيش هو من جناح الكيزان والفلول، وليس كل من يدعو للحل التفاوضي هو بالضرورة من المنتمين لقوى الحرية والتغيير (قحت).
هذا الاستقطاب الحاد في المشهد السوداني جعل الأطراف التي تريد المساعدة في حل الأزمة، تتريث في مساعيها. صحيح أن هناك دعوات ومسارات ومبادرات مختلفة تدعو لإنهاء الحرب، أهمها في تقدير الكثيرين هو منبر جدة لأنه يحظى بإجماع وتوافق الأطراف المختلفة، لكن باتت هناك قناعة بأنه لا أمل في تحقيق حلول ما لم يكن هناك توافق بين السودانيين أنفسهم، وهذا ما تسمعه يتردد كثيراً في عواصم مختلفة مهتمة بالأزمة السودانية وتداعياتها على البلد والمنطقة.
التوافق المطلوب في هذه المرحلة يتطلب تنحية الخلافات والسمو فوقها من أجل استعادة الدولة من حافة الضياع، وإنقاذ الوطن المهدد لا في وحدته وسيادته فحسب بل في وجوده بالصورة التي عرفناها عنه. ولكي لا نبقى نلف وندور في فراغ، فإن هذا التوافق لن يتحقق ما لم نتخلَّ عن الحلول المنقوصة، ونتجاوز الخلاف العدمي بين «كيزان» و«قحت». الطرفان لا يمثلان كل السودان، لكن صراعهما المحتدم أكبر مهدداته في هذه اللحظة.
الوضع الراهن يستدعي حواراً لا يُقصى منه أي طرف، وأن يترك الإقصاء للشعب السوداني عبر صناديق الانتخابات متى ما وصلنا إلى تلك النقطة. إذا تجاوزنا هذه العقبة مهما بدت صعبة في نظر الكثيرين، نكون قد نزعنا فتيل تأجيج الحرب كمرحلة أولى، يعقبها التوافق على كيفية استئناف الفترة الانتقالية، ومن ثم تنبري القوى المختلفة للاتفاق على كيف يحكم السودان، وكيف ننهي أزماته المزمنة.
ما لم نتجاوز هذه العقبة سيبقى البلد عالقاً لفترة لا أحد يعلم مداها في نفق هذه الحرب، وسيستمر النزف الصامت حتى يقضي على أي أمل في استعادة السودان استقراره الذي عصفت به كثيراً الصراعات الإقصائية.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: زلزال المغرب التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني أحداث السودان

إقرأ أيضاً:

الحرب التي أجهزت على السلام كله

لا بد أن يكون أحدكم قد جاوز الأربعين كثيرًا لتكون لديه ذكرى مباشرة لما جرى في تسعينيات القرن الماضي إذ ظن الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم توصلوا إلى طريقة ينهون بها قرن الصراع فيما بينهم، كان طائف الأمل الذي طاف بهم عابرا، وأبعد ما يكون عن العمومية، لكنه كان حقيقيًا. لقد طواه النسيان الآن، وبات أقرب إلى أن يعد خدعة، ووهمًا مخاتلًا. والآن، وقد مر أكثر من عام ونصف العام على الحرب الأكثر دموية فيما يزيد على قرن من الصراع بين العرب واليهود، يصعب أكثر من ذي قبل أن نشاهد الصور المريعة الواردة من غزة، ويصعب ذلك حتى على من يكسبون لقمة عيشهم من هذا، ومن يؤثرون لو كانوا حاضرين شخصيًا لولا أن إسرائيل أغلقت المنطقة وحظرت دخول الصحفيين الأجانب ضمن كثيرين حظرت دخولهم.

وفي الطريق طوفان أعتى من الرعب، إذ تستعد إسرائيل الآن لهجمة يتعهد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن تكون «دخولا كثيفا إلى غزة». ونعلم نحن العاملين في مهنة الأخبار أن عالمنا المضطرب يمدنا بكثير من الأحداث الأليمة فلا يبقى لبعضنا من سبيل إلى التكيف معها إلا بالإمساك عن النظر.في بعض الأحيان يتراءى لي بصيص ذكرى مهتزة لزمن رأينا فيه شيئا من الأمل، يثيره اسم أو وجه على طريق في غزة ينتهي بحواجز خرسانية ونقاط تفتيش أغلقتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في وجه شتى أشكال الإغاثة.

قال توم فليشر - وهو الدبلوماسي البريطاني السابق وكبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن الإسرائيليين «صادقون صدقا مثيرا» إذ يقولون إن الغاية من تجديدهم الحصار هو الضغط على حماس، ولا بد كما أكد فليتشر من إطلاق سراح بقية الرهائن، ولكن «محاصرة الإغاثة قتل» وانتهاك من إسرائيل للقانون الدولي تنزل به «عقابا جماعيا وقاسيا».

يستحيل في ظل ما أصبحت عليه الأمور أن نرى سبيلا يسوق به الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم، أو يساقون من خلاله، إلى حيث يمكن أن يحاولوا الوصول إلى السلام من جديد. وها هو جيل آخر تسحقه الحرب. في عام 1993، حين كان لدينا أمل، تحققت لحظة الذروة في بداية العملية، لأن النهاية كانت فشلا ودما مراقا، إذ استحال الصيف خريفا في واشنطن، وتصافح الأعداء القدامى في وضح النهار داخل حديقة البيت الأبيض. وتيسر ذلك إثر مفاوضات سرية بدأت عند انصرام ذلك العام في أوسلو، فجرت في أول الأمر بين أبي علاء من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لرئيسها ياسر عرفات، وأستاذين جامعيين إسرائيليين كانا يرفعان تقاريرهما إلى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في بلدهما.

كان لزامًا أن تكون لقاءات أوسلو سرية، إذ أراد كلا الطرفين اجتناب المخاطرة السياسية إلى أن يتحقق ما يستحق الإعلان. كان البرلمان الإسرائيلي قد أزال للتو قانونا يحظر على المواطنين الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الحكومة كانت لا تزال على المستوى الرسمي تعارض أي مفاوضات مباشرة مع منظمة يقودها عرفات الذي كانت تعده إسرائيل إرهابيًا لا أمل في إصلاحه. وقد شهد النرويجيون الذين جمعوا بين مفاوضي أوسلو في منزل ريفي منعزل بمدى صعوبة الوصول بهم إلى اتفاق.

إذ قالت الدبلوماسية النرويجية مونا جول: إن «عملهم معًا على مدار الساعة كان مشحونا بالعواطف للغاية، فقد تسمع في جنح الليل صيحة قائل -لا أمل. لا يمكنني البقاء هنا بعد الآن-». ولو أن الأمر بلغ ذلك القدر من المشقة على أولئك الملتزمين بالتفاوض لإنتاج اتفاقية محدودة -هي محض إطار لمزيد من المحادثات التي قد تفضي إلى اتفاقية سلام- فتخيلوا أي مدى يبلغه ارتفاع الجبل الآن.

لذلك كان لافتًا للغاية، ومباغتًا للغاية، أن نرى في الثالث عشر من سبتمبر سنة 1993 وجه الرئيس الأمريكي الطازج بيل كلينتون إذ يفتح ذراعيه وكأنه ابن أخ طيب بينما يصافح ياسر عرفات رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. كانت عيوب الاتفاقية بادية للعيان منذ البداية. فقد كان الإسرائيليون -المؤمنون بأن الأراضي المحتلة منحة من الرب لليهود- يعارضون مفهوم مبادلة الأرض في مقابل السلام.

كما استقال الشاعر الفلسطيني محمود درويش من منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجًا وكتب قصيدة وصف فيها مراسم البيت الأبيض بـ«الشريط السينمائي الملوَّن». وانتهى إلى أن المقاومة لا بد أن تستمر. ولكن العالم شهد أعداء أشد لددا يحاولون كسر لعنة صراع دام لأجيال. فكان الوقع تاريخيا عند مشاهدة ياسر عرفات واقفا بجانب رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، وهم ثلاثة رجال طالما بقوا في قلب الصراع لأمد بعيد.

كان رابين -رئيس الوزراء الصلب عام 1993- هو القائد العام في نصر حرب الأيام الستة في يونيو 1967 على مصر والأردن وسوريا. إذ استولت إسرائيل على الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان، محيلة الصراع إلى ما هو عليه الآن. في عام 1948، قاد رابين -وهو في العشرينيات من عمره- وحدة نخبوية في حرب استقلال إسرائيل ورأى فيه الإسرائيليون بطلًا. ويتذكر الفلسطينيون دور رابين في الترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف مدني عربي من بلدتي الرملة واللد. ويطلق الفلسطينيون على الأحداث السابقة على إعلان إسرائيل الاستقلال والتالية لها اسم «النكبة».

إذ فرَّ أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من الزحف الإسرائيلي أو تعرضوا للطرد بالقوة ولم يتمكنوا، كلهم تقريبا، من العودة.وبالنسبة للفلسطينيين كان ياسر عرفات تجسيدًا لنضالهم، فهو الرجل الذي بلغ به الحرص على مقاتلة إسرائيل حد أن أطلق عليه رفاقه الأكثر تحليا بالحذر لقب «المجنون» حينما بدأ الهجمات على الحدود مع لبنان في أوائل ستينيات القرن العشرين، متجاهلًا العقبات التي بدت كأداء.

وكانت لحظته قد حانت إثر إصابة الزعماء العرب بالذهول والانبطاح والمذلة بعد انتصار إسرائيل في عام 1967. في ظل الهزيمة، نهض عرفات للقتال، فكان يتنقل متنكرًا لجمع السلاح من ميادين المعارك وينظم مئات الهجمات. ولما ردت إسرائيل في عام 1968 بهجمة كبيرة على مخيم الكرامة في الأردن، وهو معقل عرفات وفصيل فتح التابع له، كان الفلسطينيون في الانتظار. فلقي ما لا يقل عن ثمانية وعشرين إسرائيليا، وستين أردنيا، ومائة فلسطيني، مصرعهم في يوم واحد.

وأعلن عرفات النصر وتأسست أسطورته. وإذا بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بنظارته الشمسية، ولحيته النابتة، وكوفيته ذات اللونين الأسود والأبيض، يتصدر غلاف مجلة تايم.اكتمل الثلاثي ببيريز وزير خارجية إسرائيل. وكان -شأن رابين- في قلب أحداث بلده منذ العشرينيات. في عام 1948، كان بيريز الشاب هو الذراع الأيمن لرئيس وزراء إسرائيل اليميني الأول ديفيد بن جوريون. لم يلتحق قط بالجيش ولم يحظَ من الإسرائيليين بمثل الثقة التي حظي بها رابين، منافسه السياسي العتيد، ولكن صفقات الأسلحة التي أبرمها أسهمت كثيرا في تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية كبيرة في المنطقة قاد هو سعيها السري الناجح إلى امتلاك أسلحة نووية.

كان أولئك الرجال الثلاثة، لأسباب مختلفة، مستعدين للتفكير في إنهاء الصراع الذي شكّل حياتهم وهيّمن عليها. في عام 1993 كان لا بد من جهد وشجاعة لاعتناق التفكير الجديد اللازم لمحاولة إنهاء حرب لم يكن أي من الجانبين بقادر على الانتصار فيها. وآنذاك والآن، كان ولا يزال التشبث بطقوس الكراهية والموت المألوفة هو الأمر الأيسر، حتى وقد غرق الصراع في أعماق جديدة من اليأس بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. في غزة، يقتطع الفلسطينيون في بعض الأحيان أوقاتا من نضالهم اليومي من أجل البقاء لكي يتظاهروا ضد حماس.

وفي إسرائيل يدين بعض منتقدي نتنياهو -الذي تجاوز في سنة 2019 بن جوريون بوصفه أطول رؤساء وزراء إسرائيل في الخدمة- ويرونه نذير حرب دائمة، وبأنه يحارب لا لأجل إنقاذ بقية الرهائن أو لأجل أمن شعبه وإنما من أجل نجاته هو وتقوية سلطته الشخصية، وتأخير محاسبته على دوره في الإخفاقات الأمنية التي أتاحت لحماس الهجوم بذلك الأثر المميت في السابع من أكتوبر سنة 2023.

جاءت الوثيقة الموقعة في واشنطن في ذلك اليوم من عام 1993 من رابين ومفاوض منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس -وهو الرئيس الفلسطيني الآن- حاملة عنوانا سقيما هو «إعلان مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت»، وإن اشتهر ذلك الحشو اللفظي الدبلوماسي باسم أفضل هو اتفاقيات أوسلو. وكان العالم قد شهد تغيرًا إضافيًا، إذ حضر وزير الخارجية الروسي أندرو كوزيريف بصفة شاهد.

ظن ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين -وليس جميعهم على أي حال- عندما رأوا ما يجري أن كل شيء يتغير. وفي عام 1933 كانت الغالبية في كلا الجانبين مهيأة لأن تمنح المفاوضات فرصة، وتنحي الشك وفقدان الثقة جانبا. وكان السبب الأكبر للتفاؤل هو أن طرفي الحديث اعترفا بوجود أحدهما الآخر وبأن لكل منهما حقوقًا وطنية. فسلّم الفلسطينيون بأن تحصل إسرائيل على 78% من الأرض القائمة في ما بين النهر والبحر، أي المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها عشية حرب 1967. وسلّمت إسرائيل بمبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني على 22% مما يتبقى. وقد كتب آفي شلايم - مؤرخ الصراع الرائد في جامعة أكسفورد، وأحد أشد منتقدي نتنياهو وحكومته الآن، وأحدث كتبه يحمل عنوان «إبادة جماعية في غزة» - في مطلع عام 1994 أنها «كانت من أشد لحظات تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين احتداما.

ففي خطوة واحدة مذهلة، أعاد الزعيمان رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها».

أتيح لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الرجوع إلى أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة، فاقتصر ذلك في أول الأمر على غزة وأريحا، أي الواحة العتيقة المغبرة في وادي الأردن. وكانت الخطة تتمثل في البدء بإبرام اتفاقيات على قضايا حساسة صغيرة، على أمل أن يتم بطريقة ما تكوين الزخم اللازم لحل القضايا الكبيرة. إذ عمد الجميع إلى تأجيل تلك القضايا في أوسلو لأن أيا منها كان كفيلا بإفساد الصفقة، وكانت له القدرة على وأد عملية السلام في مهدها.

وكان ملف قضايا «الوضع النهائي» المؤجل ذا إشعاع سياسي، إذ احتوى مسألة تقسيم القدس بهدف إنشاء عاصمة بطريقة ما لكلا الشعبين، ومستقبل المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتحدِّي ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومسألة ما إذا كان سيتسنى للاجئي حربي 1948 و1967 الفلسطينيين الرجوع يومًا إلى الوطن.

بعد قرابة ثمانية عشر شهرا من المراسم في حديقة البيت الأبيض، انتقلت إلى القدس لأصبح مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط. كنت قد قضيت أغلب السنوات الأربع السابقة أعمل في تغطية الحروب الناجمة عن سقوط يوغسلافيا. وأصيبت صديقة لي من سراييفو -وكانت صحفية نجمة تعمل للتليفزيون الإسباني- بالذهول حينما أخبرتها أنني ذاهب إلى القدس. وقالت إن الحكاية هناك قد انتهت، وأنهم يقيمون السلام.

وبالطبع جانبها الصواب، شأن جميع من تزايدت آمالهم لوهلة. فالسلام بات سرابا. ولعله لم يكن ممكنا قط. أدان مثقفون فلسطينيون كبار عرفات لبيعه الشعب بالاتفاق على صفقة سمحت لإسرائيل بتوسيع المستوطنات لليهود على الأراضي المحتلة التي أرادوها لإقامة الدولة. فوصف إدوار سعيد -أستاذ العلوم السياسية والكاتب الفلسطيني الأمريكي- ذلك بالاستسلام. وفي مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» اشتد في نقده لـ«عرض الأزياء المبتذل الذي أقيم في مراسم البيت الأبيض، ومهانة ياسر عرفات إذ يوجه الشكر للجميع على تأجيل أغلب حقوق الشعب، ووقار أداء بيل كلينتون السخيف، وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يقود ملكين تابعين لسلطانه في مراسم تصالح وإذعان. وفي نهاية المطاف طغت على بلاغة سعيد العظيمة جماعتان مسلحتان فلسطينيتان تأسستا في ثمانينيات القرن العشرين، هما جماعتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ذكَّرتا الإسرائيليين بألا يؤمنوا بالسلام إذ أرسلتا التفجيريين الانتحاريين لقتل مدنيين إسرائيليين في المقاهي والحافلات.أراد المتشددون في كلا الجانبين تحطيم عملية أوسلو. ففي فبراير 1994 استعمل باروخ جولدشتاين المتطرف اليهودي أمريكي المولد بندقية هجومية لقتل تسعة وعشرين فلسطينيا كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهو موقع يقدسه الإسرائيليون أيضًا ويسمونه «كهف البطاركة»، فهو مكان يؤمن اليهود والمسلمون والمسيحيون أن فيه قبر النبي إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم سارة ورفقة وليا. ظل جولدشتاين يطلق الرصاص إلى أن تغلب عليه بعض الناجين وظلوا يضربونه حتى الموت. وقد حذر اليمين الإسرائيلي، ونجمه الصاعد بنيامين نتنياهو، من أن التنازل عن الأراضي يعرض حياة كل إسرائيلي للخطر. ساعد نتنياهو في إثارة حشود غاضبة من القوميين اليهود الذين لعنوا رابين ووصفوه بالخائن والقاتل. وفي مظاهرة بميدان صهيون في القدس في الخامس من أكتوبر سنة 1995 كان من ضمن اللافتات لافتة ساخرة من رابين ترسمه في زي قوات الأمن النازية [SS]. وبعد شهر من ذلك، مات رابين برصاص متطرف يهودي في تل أبيب. وخلال أول التحقيقات معه في اغتيال رابين، طلب القاتل شرابًا ليشرب نخب إنقاذه إسرائيل من خائن تنكر لترتيبات الرب للشعب اليهودي.عند مقتل رابين كانت المفاوضات بالفعل متأخرة كثيرة عن جدولها. لكن عرفات ورابين، العدوين اللدودين، كانا قد توصلا إلى احترام جاء على غير توقع، وعلى مضض. وجهت ليا، أرملة رابين، الدعوة إلى عرفات لزيارة منزل عائلة رابين في تل أبيب لتقديم واجب العزاء. ورفضت مقابلة نتنياهو. وبعد ستة أشهر، فاز نتنياهو على شيمون بيريز بأغلبية ضئيلة وأصبح رئيسًا للوزراء للمرة الأولى.

وأرد تمامًا أن تكون محاولة صنع السلام منذورة بالفشل، بوجود رابين أو غيابه، وهو الزعيم الإسرائيلي القادر أكثر من غيره على طمأنة مواطني شعبه. فقد حدث قبيل اغتياله أن أعلن حيدر عبد الشافي -وهو طبيب يحظى باحترام كبير في غزة ومؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية استاء من التنازلات والفساد المحيطين بعرفات- أن أوسلو فشلت، وكتب أنه «من الواضح الآن أن إسرائيل عازمة على المحافظة على وجودها، وسيطرتها على الأراضي، والمستوطنات. وفي واقع الأمر، أن ما لم ينتبه إليه أحد هو أن إسرائيل لم تتخلَ قط عن حقها في الأراضي المحتلة كاملة، بما يتناغم مع البرنامج الصهيوني».

قبل عام من الاغتيال، حصل عرفات وبيريز ورابين مشتركين على جائزة نوبل للسلام. وبعد الاغتيال كثّفت حماس حملة تفجيراتها الانتحارية. وفي غضون أيام في فبراير 1996 هوجمت الحافلة رقم 18 مرتين في القدس على مقربة من مكتب هيئة الإذاعة البريطانية في طريق يافا مما أسفر عن مصرع خمسة وأربعين شخصا. وكان العقل المدبر هو محمد ضيف من جماعة حماس الذي ظل عدوًا مميتًا لإسرائيل حتى مصرعه في غارة جوية على غزة في الصيف الماضي.

بعد هجمتي الحافلة سنة 1996، بعث عرفات -بضغط من بيل كلينتون- رجاله لتعقب حماس والجهاد الإسلامي. وفي موقع مقابر الكومنولث البريطانية الوادعة في غزة أجريت حوارا مع رجل خلت أطراف أصابعه من الأظافر بعد أن انتزعها رجال عرفات إثر اعتقاله للاشتباه بانتمائه لحماس. وبعد ثلاثين عاما، غزة الآن أطلال وأكثر من خمسين ألف فلسطيني لقوا مصرعهم. ويقول نتنياهو إنه وحده القادر على تأمين الإسرائيليين، ولذلك فإنه لن يسمح أبدًا للفلسطينيين بإقامة دولة يمكن أن يستعملوها قاعدة للهجوم على اليهود.

لا وجود في جميع أجيال الصراع بين اليهود والعرب ما يقترب من هول السابع من أكتوبر والشهور التسعة عشر التالية له. وهذه المستويات الجديدة من عمق التجرد من الإنسانية، لدى كلا الجانبين، تلقى بظل داكن على المستقبل. لقد كان عدد كاف من الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي مهيئين للثقة في عرفات وعدد كاف من الإسرائيليين يثقون في رابين، فكان ذلك كافيًا لفرجة تسمح بموعد قد يفلح فيه السلام، إن توفر الحظ وتوفر لدى الجانبين تصميم أكبر على التخلي عن أعز الأحلام والمعتقدات. وها هي الفدوة وقد انسدت وباتت الآن دفينة أعماق الماضي.

أما الذي لا يزال حيًا وخطيرًا فهو الوهم بأن النصر الكامل ممكن لأي طرف. فلا بد أنه كان ماثلا، في السابع من أكتوبر، في أذهان الرجال الذين انطلقوا من غزة وقتلوا قرابة ألف ومائتي شخص أغلبهم مدنيون وأسروا مائتين ووحدا وخمسين. ووهم النصر قوي بالمثل في يمين إسرائيل القومي المتطرف الذي يديم زعماؤه بقاء نتنياهو في السلطة. ويؤجج دونالد ترامب أحلامه بخرافته الخطيرة حول تحويل غزة إلى دبي البحر المتوسط المملوكة لأمريكا والخالية من الفلسطينيين.

مات الأمل قبل أمد بعيد من السابع من أكتوبر سنة 2023. وفي السنين المفضية إلى ذلك اليوم، شأن كثر ممن شاهدوا الصراع عن كثب، كنت أشعر بانفجار عنف قادم في الأفق. لكنني تصورت أن تحدث في القدس أو الضفة الغربية، لا في غزة. بل إنني تساءلت في بعض الأحيان لو أن صدمة دم يراق هي التي سترغم الجانبين على العثور على طريق رجعة إلى التفاوض. فلما وقعت الواقعة، أحال القتل الانقسام إلى هوة ما لها قرار. وها هي الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين على أرض ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط تمضي إلى قرنها الثاني.

جيريمي بوين محرر الشؤون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومؤلف كتاب «صناعة الشرق الأوسط: تاريخ شخصي».

عن ذي نيوستيتسمان

مقالات مشابهة

  • هذه الحرب مختلفة عن كل الحروبات التي عرفها السودان والسودانيون
  • هذا ماورد في إحاطة المبعوث الأممي إلى اليمن أمام مجلس الأمن الدولي 
  • الحرب التي أجهزت على السلام كله
  • أسعار العملات الأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 14 مايو
  • الحل في إسطنبول؟ لإنهاء الحرب.. زيلينسكي يشترط لقاء مباشرا مع بوتين
  • ???? الجهة التي سيقع عليها الدور بعد السودان سوف تبدأ الحرب فيها بالمسيرات
  • الجنرال إسحق بريك: لن نهزم حماس والأسرى والجنود سيموتون.. هذا هو الحل الوحيد
  • زيارة ترامب وضرورة الحل الداخلي
  • ثُمَّ شَقَّتْ هَدأةَ الليلِ رُصَاصة !!
  • أسعار العملات الأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 12 مايو