في العمق : يوم الشباب فـي ظل معطيات متسارعة وملفات متراكمة
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
تحتفل سلطنة عُمان في السادس والعشرين من أكتوبر بيوم الشَّباب العُماني وسط إنجازات كبيرة تحققت للشَّباب العُماني، ومع الإيمان بحجم الفرص الَّتي تحقَّقت للشَّباب العُماني في مَسيرة النهضة العُمانيَّة وعلى مدى ثلاثة وخمسين عامًا، إيمانًا بأنَّ النهوض بالشَّباب إنَّما هو استنهاض للروح الإيجابيَّة التفاعليَّة، والانتقال بالشَّباب من مرحلة الاستجداء والانتظار إلى مرحلة البحث والإنتاج، ومن المساحة الاستهلاكيَّة الَّتي باتَتْ تثقل فكره وتُشتِّت ذهنه وتعرقل صفوَ حياته؛ إلى الثقة في قدراته وإمكاناته والالتزام بدعمه وتمكينه لِيصنعَ من هذه الفرص علامة فارقة تتجلَّى نتائجها في مواقف الشَّباب ومنافسته ومبادراته وتجريبه في مواقف الإنجاز، ولِيُعيدَ من خلالها إنتاج ذاته، وترقية ممارساته والتفكير خارج الصندوق لضمان مستويات عُليا من التوازن في قراءة المشهد الشَّبابي في سلطنة عُمان، المُقوِّمات والفرص، والتحدِّيات والتهديدات، والمبادرات والنماذج الَّتي يصنعها الشَّباب في عالَمه.
إنَّ التأكيد على أهمِّية إعادة إنتاج واقع الشَّباب ودَوْره في عالَم متسارع وأحداث ومستجدَّات مُتجدِّدة، باتَ يُلقي على منظومة الجهاز الإداري للدَولة مسؤوليَّة البحث في عُمق الحدث الشَّبابي وعَبْرَ إيجاد حلول ومعالجات جادَّة وواضحة تعبِّر عن الشَّباب وتصنع فيه روح التغيير وكفاءة الأداء، ومعنى ذلك أن تتَّجهَ مسارات العمل في إطار أولويَّات رؤية عُمان 2040 نَحْوَ تقديم نموذج وطني متكامل في إدارة الشَّباب ورعاية برامجه وتعظيم حضوره في كُلِّ محطَّات التطوُّر ومنصَّات العطاء وعرصات المنافسة؛ كونه يُمثِّل رقمًا صعبًا في المُكوِّن الاستراتيجي البَشَري في سلطنة عُمان، حيث تشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2020، إلى أنَّ نسبة الشَّباب (18- 29) سنة من إجمالي العُمانيِّين بلغت (20.1%)، وأنَّ ما نسبته (24%) من إجمالي العاملين العُمانيِّين في سلطنة عُمان هم شباب، كما بلغت نسبة أصحاب الأعمال الشَّباب (18- 29( سنة من إجمالي أصحاب الأعمال العُمانيِّين في السَّلطنة (17.7%)، فإنَّ إسقاط هذه الهواجس والتحدِّيات والطموحات والأولويَّات في واقعنا العُماني، يضعنا أمام جملة من الملفات الَّتي ارتبطت بواقع الشَّباب وأسْهَمَت في تكوين صورة ذهنيَّة أخرى قَدْ يؤدِّي استمرارها إلى نتائج عكسيَّة على قناعات الشَّباب وهُوِيَّته وانتمائه، ذلك أنَّ تحقيق التحوُّل الشَّامل في مَسيرة التنمية الوطنيَّة الَّتي يقُودُها الشَّباب اليوم بحاجة إلى أن تعِيدَ النظر في قراءة هذا المسار من خلال جملة من الموجِّهات، وإدارة الملفات الَّتي باتَتْ تُمثِّل عوائق ومطبَّات نَحْوَ تحقيق دَوْر فاعل ومسار ممكن في حياة الشَّباب.
ويُمثِّل ملف التوظيف والتشغيل والتسريح اليوم أهمَّ هواجس الشَّباب الَّتي باتَتْ تقلِّل من كفاءة الدَّوْر وتُعيد في الواجهة ضبابيَّة الصورة في العمل الموَجَّه نَحْوَ الشَّباب، ذلك أنَّ أرقام أعداد الباحثين عن عمل ما زالت رغم تنوُّع الجهود الَّتي تقوم بها الجهات المعنيَّة تشهد ارتفاعًا في مؤشِّراتها، ففي إحصائيَّات جاءت على لسان وزير العمل بأنَّ عدد الشَّباب العُماني الباحث عن عمل وصل إلى أكثر من (110) آلاف مواطن، وهذه الأعداد قابلة للزيادة في ظلِّ فجوة التباينات الحاصلة في هذا المسار، وعدم وضوح آليَّات الاحتساب لأعداد الباحثين عن عمل، أو الاقتصار على المفعِّلين مِنْهم في سجلِّ الباحثين عن عمل بوزارة العمل، ما يؤكِّد وجود حلقة مفرغة في هذا الجانب يجِبُ معالجتها وإعادة تصحيح مسارها وضبطها، إذ إنَّ هذه التباينات تطرح علامات استفهام حَوْلَ مسار التكامليَّة في القِطاعات والمؤسَّسات في هذا الموضوع، وآليَّات الرصد الَّتي ينتهجها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في ظلِّ التباين بَيْنَ إحصائيَّات المركز والوزارة، ومسار التحديث الدَّوْري المباشر والمستمرِّ الَّذي ـ كما أشرنا في أحَد مقالاتنا ـ باتَ مطلبًا وطنيًّا في ظلِّ رسم ملامح مضيئة لمنظومة الحماية الاجتماعيَّة الَّتي تعتمد على كفاءة البيانات ومصداقيَّتها طريقها لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة، كما أنَّ اعتماد مسار المعدَّلات في تناول أعداد الباحثين عن عمل باتَ يطرح تساؤلات كثيرة وتداعيات ذلك على الصورة الاجتماعيَّة والعامَّة الَّتي يجِبُ أن تقرأَ فيها هذا الملف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ أعداد المُسرَّحين من أعمالهم من العُمانيِّين في القِطاع الخاصِّ؛ باتَ يطرح اليوم تساؤلات كثيرة في ظلِّ ما تبع هذا التسريح من تداعيات أمنيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وإنسانيَّة، انتقل فيها الموظف في القِطاع الخاصِّ إلى باحثٍ عن عمل غير قادر على تسديد التزاماته البنكيَّة والحياتيَّة، وإدارة أُسرته وظروفه لِيقبعَ في السجون دُونَ أن يكُونَ له ذنب في ما حصل له، ورغم استمرار هذا التسريح إلَّا أنَّ واقع البيانات الَّتي تتحدث عن الشَّباب تتجاهل كثيرًا هذا الملف، الأمْرُ الَّذي باتَ يُعطي انطباعًا آخر حَوْلَ المدى الزمني لمعالجة هذه القضيَّة الوطنيَّة الَّتي تعدَّت المسار الفردي إلى الجماعي في ظلِّ عمليَّات التسريح الجماعي المنظَّمة الَّتي تمارسها شركات القِطاع الخاصِّ.
ولعلَّ ما يزيد من تراكميَّة هذا الموضوع على المدى البعيد، ما اتَّخذته وزارة العمل من مسار التوظيف بعقود مؤقتة، إذ باتَ يُمثِّل تحدِّيًا آخر يضيف إلى الترهُّل الحاصل في هذا الملف قَدْ يظهر مستقبلًا في ارتفاع أعداد المواطنين الشَّباب المتوقَّع تسريحهم من القِطاع الحكومي، ناهيك عن أنَّ بعض التوظيف الحالي بعقود مؤقتة، قَدْ لا يُعبِّر عن احتياج مؤسَّسي بقدر ما هو مساحة وقتيَّة للاحتواء، فإن َّالمتوقع أن يفرضَ هذا الملف النَّاتج عن العقود المؤقتة تحدِّيات قادمة وأزمات اقتصاديَّة قَدْ تؤثِّر على الجهود الوطنيَّة الموَجَّهة نَحْوَ إعادة هيكلة هذا الملف وتصحيحه، ناهيك عن أنَّ مشكلة إلزام الشركات في أداء مسؤوليَّاتها الاجتماعيَّة في نسبة تشغيل العُمانيِّين في المؤسَّسة أو في تنفيذ ممَّا صدر عن وزارة العمل من توجُّهات بشأن منع بعض المِهن والوظائف من أن يمارسَها غير العُمانيِّين، إلَّا أنَّ ما يحصل من تدنِّي مسار الرقابة والمتابعة للشركات وتحليل الأساليب الَّتي تتبعها بعض مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ في هذا الشَّأن أعاد إلى الواجهة ارتفاع أعداد الأيدي الوافدة واتِّساع انتشارها في سُوق العمل العُماني والقِطاع الخاصِّ.
إنَّ تزايد أعداد الباحثين عن عمل في الأُسرة الواحدة من حمَلة المؤهلات الجامعيَّة أضاف على أولياء الأمور والمعيل للأُسرة تراكمات وظروف ماليَّة صعبة نظرًا لارتفاع متطلبات الاحتياج اليومي لهؤلاء الأبناء، وتوفير ما يعينهم ولو بشكلٍ مؤقت على إدارة ظروفهم بتوفير مَركبة لهُمْ في توصيل الطلبات مثلًا أو قيادة سيارة الأجرة (التاكسي) وغيرها في ظلِّ التعقيدات والإجراءات الَّتي باتَتْ تفرض مسارًا آخر في قدرة الشَّباب على التعامل معها، هذا الأمْرُ لا ينتهي عِند هذا الحدِّ، فإنَّ التداعيات الأمنيَّة والاقتصاديَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة الَّتي باتَ يواجهها الشَّباب اليوم كفيلة بقتل روح الإبداع والابتكار لدَيْه حيث تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2021 بلغت (12812) بارتفاع بلغ (13%) عن عدد الجرائم المسجَّلة في عام 2020 والَّتي بلغت (11.312). ومن حيث تصنيف الجرائم، فإنَّ الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابًا في عام 2021 بـ(4121) بنسبة 32.2% بما يزيد على عددها في عام 2020 م حيث بلغ عددها (3.422) جريمة وبنسبة (30%) لِتُشكِّلَ الجرائم الواقعة على الأموال المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان في السنوات الأخيرة؛ وأنَّ 98% من هذه الجرائم الواقعة على الأموال تتركز في السرقة والشروع فيها، والاحتيال، وإساءة الأمانة، والإضرار بالأموال الخاصَّة، مع وجود جرائم أخرى تتفاوت في حجم ممارستها وتقع تحت هذا التصنيف، مِثل: الإضرار بالأموال العامَّة، والحريق قصدًا والشروع فيه، والقرصنة الإلكترونيَّة واستعمال بطاقة الغير دُونَ عِلمه، والتعدِّي على البطاقات الماليَّة، أو غيرها ممَّا يتحدَّث عَنْه الواقع كالغشِّ والابتزاز الإلكتروني والمحافظ الوهميَّة والنَّصب على المواطن في الحسابات البنكيَّة، وممارسات أخرى تتعلق بالقروض الشخصيَّة بَيْنَ الأفراد، والحلف والحنث باليمين والإنكار، والشيكات المرتجعة من غير رصيد، واستغلال المناصب الوظيفيَّة، واختلاس المال العامِّ، والابتذال الخُلقي والاستعراض الجسدي بهدف الحصول على المكاسب الربحيَّة السريعة عَبْرَ الدعاية والإعلانات التجاريَّة، والشهرة والظهور الجريء غير اللائق للمرأة في المنصَّات الاجتماعيَّة مقابل الحصول على المال على حساب الدِّين والشَّرف والعِرض والقِيَم، والحالات المتعلِّقة بالتسوُّل وغيرها من الظواهر الاقتصاديَّة السلبيَّة الَّتي باتَتْ تُمارَس بآليَّات وطُرق وأوصاف احترافيَّة ومن فئات مختلفة في المُجتمع، وتُمثِّل في مجملها ظواهر سلبيَّة وممارسات تتجافى مع الذَّوْق العامِّ والمشاعر المُجتمعيَّة، أمَّا من حيث التوزيع النسبي للجناة بحسب الجرائم في عام 2021، فقَدْ شكَّل العُمانيون نسبة (49%) من إجمالي الجناة، وأنَّ30% من الجناة العُمانيِّين ارتكبوا الجرائم الواقعة على الأموال، وفي المقابل شكَّل الأحداث ممَّن هُمْ دُونَ سنِّ الثامنة عشرة رقمًا صعبًا في السلوك الإجرامي بواقع (3.8%) من نسبة الجناة. كُلُّ ذلك وغيره باتَ يؤسِّس لمتغيِّرات وظروف مختلفة لها انعكاساتها على مسار الهُوِيَّة والمواطنة والقِيَم والولاء والانتماء والصورة السلبيَّة الَّتي باتَتْ تتفاعل مع فِكر الشَّباب وقناعاته حَوْلَ نَفْسِه ومستقبله ووطنه.
وعَلَيْه، فإنَّ الاحتفال بيوم الشَّباب العُماني السادس والعشرين من أكتوبر كما يحمل في مضامينه قراءة حجم التحوُّلات والفرص الإيجابيَّة الَّتي تحقَّقت للشَّباب العُماني في مَسيرة التنمية الوطنيَّة والَّتي تشهد اليوم مسارات متقدِّمة تعطي مساحات من الأمل والتفاؤل لمستقبل الشَّباب، فإنَّ التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ بإنشاء المدينة الرياضيَّة استحقاق سُلطاني للشَّباب سيُقدِّم فرصًا أكبر له في احتواء قدراته ومواهبه الرياضيَّة وفتح المجال له للريادة والنجوميَّة، وفي الوقت نَفْسِه يُمثِّل مراجعة لواقع الشَّباب واحتياجاته وتقييمًا للظروف والتداعيات الَّتي باتَتْ تؤثِّر على أدائه وشغفه وطموحه، فإنَّ المطلوب اليوم التزامًا وطنيًّا موحدًا في إدارة واقع الشَّباب وفتح آفاق العمل له والمحافظة على ديمومة إنتاجيَّته وتعظيم مبدأ الثقة فيه والتسويق له، وأن تصدقَ جهود المؤسَّسات في تبسيط الإجراءات وفتح الفرص للمشاركة الفاعلة المنتِجة للشَّباب في القِطاع الخاصِّ وتصحيح مسارات التوظيف ووقف عمليَّات التسريح الجمعي للشَّباب ومراجعة تداعيات العقود المؤقتة، وتوفير بنى تشريعيَّة وتنظيميَّة تقدِّم للشَّباب حوافز أخرى فيما يتعلق بالمشاريع المتوسِّطة والصغيرة والقروض البنكيَّة والأنشطة الاقتصاديَّة والعمل الحُر. إنَّ الاحتفال بيوم الشَّباب العُماني محطَّة حواريَّة صريحة وشفَّافة وناقدة على مختلف الأصعدة مع منظومة الجهاز الإداري للدَّولة وقياس ما حقَّقته، وما ترغب في تحقيقه لمستقبل الشَّباب، والتحدِّيات الاقتصاديَّة والتشغيليَّة والفكريَّة الَّتي باتَتْ تُلقي بظلالها على عالَم الشَّباب، بحيث يقرأ في أجندة الاحتفال محطَّات تصحيحيَّة للملفات الَّتي باتَتْ تشغل تفكيره، وتُعيق تقدُّمه، وتضع العراقيل أمام نجاحه.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الق طاع الخاص فی الق طاع هذا الملف من إجمالی فی الم فی عام مسار ا باب ال فی هذا
إقرأ أيضاً:
هكذا ينكر الإعلام المأساة السورية
إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية
لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية. ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟
في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه.
إنكار الجرائم جريمة في حد ذاتهفي كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها.
فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام.
إعلانإن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة.
الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة.
تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث.
هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية.
وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان.
فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم.
وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار.
إعلان التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصدهذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة.
هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش.
من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له.
ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور.
فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد.
كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟!الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة.
إعلانكيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام.
ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم.
من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية.
أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء.
لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة.
من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline