الجزيرة:
2025-10-15@20:45:14 GMT

هكذا ينكر الإعلام المأساة السورية

تاريخ النشر: 21st, May 2025 GMT

هكذا ينكر الإعلام المأساة السورية

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية

لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية.

ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟

في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه.

إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته

في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها.

فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام.

إعلان

إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة.

الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة.

تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث.

هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية.

وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان.

فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم.

وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار.

إعلان التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد

هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة.

هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش.

من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له.

ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور.

فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد.

كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟!

الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة.

إعلان

كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام.

ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم.

من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية.

أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء.

لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة.

من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات النظام السابق أن یکون لم یکن

إقرأ أيضاً:

المقاومة الفلسطينية بين المناورة والندية والقدر

في مسرح السياسة الدولية، هناك لحظات نادرة تنقلب فيها الطاولة بشكل دراماتيكي، حيث تتحول الخطوة التي صُممت لتكون "الضربة القاضية" إلى "طلقة مرتدة" تصيب صاحبها في مقتل. وما نشهده هذه الأيام، من دراما "صفقة ترامب" وفعاليات تبادل الأسرى، وصولا إلى قمة شرم الشيخ التي تمهد لاتفاق سلام إقليمي؛ ليس مجرد جولة مفاوضات، بل هو التجسيد الحي لثلاثية استراتيجية حكمت الصراع: براعة المناورة، وفرض الندية، وحتمية القدر.

مناورة حماس أفضل مخرج من غرفة الإعدام

عندما وجدت المقاومة نفسها في فخ "صفقة ترامب"، محاطة بنيران الحرب وكارثة إنسانية، كانت الخيارات البديلة أشبه بأبواب تقود إلى أشكال مختلفة من الفناء الاستراتيجي، فإما الرفض العنيد والذي كان سيمثل انتحارا مبدئيا يمنح نتنياهو تفويضا دوليا مفتوحا لسحق غزة تحت شعار "لا يوجد من نتحدث معه"، أو القبول المطلق، والذي كان يعد انتحارا استسلاميا يؤدي إلى "صفقة الخاسر الأكبر"؛ حيث التخلي عن كل أوراق القوة مقابل سراب من الوعود ومحو كل ما تم بناؤه في "حرب الوعي"، أو الصمت والتسويف، وهي استراتيجية سلبية كانت ستغرق فيها المقاومة ببطء قبل أن تنتهي إلى نفس مصير الرفض العنيد.

أمام هذه المسارات الثلاثة نحو الفناء، لم تكن "مناورة القبول التفكيكي" مجرد خيار جيد، بل كانت السبيل الوحيد للبقاء في ساحة الصراع. لقد كانت الحركة الوحيدة التي تتجنب "الموت السريري" للمعركة، وتنقلها إلى أرض جديدة تكون فيها انقسامات الخصم هي السلاح الأقوى.

لقد كان ردا بمثابة رافعة سياسية، حوّلت الضغط الدولي الهائل المسلط على المقاومة إلى قوة مركّزة ومضاعفة، وجهتها بدقة متناهية لتضرب نقطة الضعف القاتلة لدى الخصم: التناقض بين بقاء نتنياهو السياسي ونرجسية حليفه الأمريكي. السؤال الاستراتيجي لم يعد "هل ستقبل المقاومة بالصفقة؟"، بل أصبح: "كيف سينجو الكيان الصهيوني من الصفقة التي صممها بنفسه؟".

وهل النصر إلا ندّا على الطاولة؟

ولعل أحد أعمق الانتصارات التي حققتها هذه المناورة، والذي غالبا ما يغيب عن التحليلات، هو النصر في "حرب الاعتراف". فاليوم، على طاولة المفاوضات، لا تجلس "منظمة إرهابية" كما أراد لها خصومها، بل تجلس "المقاومة الفلسطينية" كطرف أصيل وند ومكافئ، في مواجهة خصم لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل المشروع الغربي بأكمله، من بريطانيا التي منحت الوعد، إلى أمريكا التي توفر الحماية.

إن رمزية المشهد تتجاوز أي مكسب مادي: فالقوى الإقليمية الكبرى (مصر، تركيا، قطر) هي من تدير الوساطة، والقوة العظمى (أمريكا) هي من ترعى الاتفاق، والدول الأوروبية والإسلامية الكبرى هي التي تبارك الاتفاق وتحضر توقيعه؛ هذا المشهد هو بحد ذاته اعتراف دولي بأن المقاومة، التي كان يُراد سحقها، قد نجحت في فرض نفسها كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها. لقد تحولت من "مشكلة أمنية" يجب احتواؤها، إلى "فاعل استراتيجي" يجب التفاوض معه. هذا التحول في "الوضع الوجودي" (Existential Status) للمقاومة هو نصر بحد ذاته، لأنه يغير منطق اللعبة بأكملها للمستقبل.

صدام العقائد

وهنا، بينما نقدر عبقرية المناورة وما حققته من ندية، يجب أن نصغي لصوت الحقيقة القاسية؛ الذي يذكرنا بأن هذه الرقعة محكومة بـ"قدر" أعمق، وهو حتمية الصدام العقائدي. فالتحالف الحاكم في الكيان الصهيوني اليوم ليس مجرد تحالف سياسي، بل هو تحالف أيديولوجي تقوده تيارات الصهيونية الدينية والمسيانية التي لا تفكر بمنطق "إدارة الصراع"، بل بمنطق "الحسم التاريخي". هذه التيارات لا ترى في غزة مشكلة أمنية، بل فرصة "إلهية" لإعادة الاستيطان وتوسيع "إسرائيل الكبرى". إنها لا تفهم لغة القانون الدولي، بل لغة القوة المطلقة والعقيدة الدينية.

وفي المقابل، من الخطأ أيضا قراءة دوافع المقاومة بمنطق استراتيجي مادي بحت، فالمقاومة الفلسطينية تستمد قدرتها الهائلة على الصمود والتضحية من عقيدة إسلامية راسخة تعتبر الدفاع عن الأرض والوجود جهادا وواجبا مقدسا. لكن هنا يكمن الفارق الجوهري بين العقيدتين: فبينما تُستخدم "العقيبة الصهيونية" كأداة لتبرير التوسع والاقتلاع، تُستخدم "العقيدة الإسلامية" كدرع للدفاع عن الوجود والبقاء. إذن، نحن لا نشهد مجرد صراع بين "سياسي براغماتي" و"مقاوم براغماتي"، بل نشهد صداما بين عقيدتين غير قابلتين للتسوية، مما يجعل أي اتفاق مجرد هدنة مؤقتة في نظر الطرفين.

استراتيجية تعطيل الاندفاع

إدراكا لهذا القدر الحتمي، لم تُصمم المناورة لحل الصراع، بل لتعطيل آثاره وتغيير شروطه. قبل المناورة، كان نتنياهو وترامب يندفعان بأقصى سرعة في قطار "الحسم العسكري" و"التهجير"، مدعومين بغطاء دولي شبه كامل. لم تكن المناورة تهدف إلى إيقاف هذا القطار بشكل دائم، وهو أمر مستحيل، بل كانت تهدف إلى إلقاء صخرة ضخمة على قضبانه. هذه الصخرة أجبرت القطار على التوقف المفاجئ، وأحدثت ارتباكا هائلا في قاطرته، وكشفت عن تصدعات في هيكله. حتى لو عاد القطار إلى الحركة بعد فترة، فإنه لن يعود بنفس السرعة أو بنفس القوة. لقد فقد جزءا من زخمه، وخسر بعضا من شرعيته، وأصبح سائقوه (نتنياهو وترامب) في حالة من الارتباك والصراع الداخلي. المناورة لم تغير "وجهة" القطار، لكنها غيرت "سرعته" و"حالته الميكانيكية" و"علاقة سائقيه ببعضهم البعض". لقد حولت "الاندفاع الأعمى" إلى "سير متعثر"، وهذا بحد ذاته مكسب استراتيجي ثمين.

كيف سترقص حماس فوق فوهة البركان؟

إن ما قامت به المقاومة هو أشبه بـ"رقصة محسوبة إلى حد ما فوق فوهة بركان نشط". هي ليست رقصة احتفالية، بل رقصة بقاء، حيث كل خطوة يجب أن تُحسب بدقة متناهية لتجنب السقوط في الحمم الملتهبة. فوهة البركان هي الواقع الاستراتيجي القاسي: خصم عقائدي، وقوة عظمى منحازة، وكارثة إنسانية تضغط على الأعصاب. والحمم التي تغلي في الأسفل هي "ثوابت العقيدة" الأيديولوجية للخصم التي لا تهدأ.

والرقص هو فن المناورة التكتيكية، القدرة على الحركة برشاقة في مساحة ضيقة ومحفوفة بالمخاطر. كل قفزة هي "قبول مبدئي" يمتص الضغط، وكل دورة هي "تحفّظ على التفاصيل" يضع الكرة في ملعب الخصم. الراقص هنا لا يهدف لإطفاء البركان، فهو يعلم أن هذا مستحيل؛ هدفه هو البقاء على الحافة، وشراء الوقت، واستخدام حرارة البركان نفسها لإرباك الخصوم. لقد أدهشت هذه الرقصة العالم بجمالها التكتيكي، لكن يجب ألا ننسى أن الراقص، مهما بلغت براعته، لا يزال فوق فوهة البركان؛ الخطر لم يزل، بل تم "إدارته" بذكاء.

الطريق من إدارة الهزيمة إلى صناعة النصر

وهنا نصل إلى جوهر المفارقة: إن الخيار الذي اتخذته المقاومة كان، بلا شك، هو الأمثل بين كل الخيارات المتاحة. لكن يجب ألا نخلط بين الفوز بـ"معركة" والفوز بـ"الحرب". فكما يذكرنا صوت الحقيقة القاسية، في هذه اللعبة الطويلة، قد تكون المناورات التكتيكية البارعة مجرد فصول مؤقتة في ملحمة كبرى، نهايتها محكومة بثوابت القوة والعقيدة، وهذا لا يقلل من الانتصار الاستراتيجي الذي حققته المقاومة في حرب الوعي ضد الكيان الصهيوني، والذي حطمت فيه سردياته الثلاثة (الوطن الآمن، والجيش الذي لا يقهر، وادعاء التفوق الأخلاقي للشعب المختار).

لقد كانت حركة مذهلة على رقعة الشطرنج، لكنها حركة تهدف إلى "إعادة تدوير الهزيمة المحتملة" وتحويلها إلى "شروط لصناعة النصر المستقبلي"، وتتمثل هذه الشروط عمليا في: كسب الوقت اللازم لإعادة بناء القدرات، وتعميق الشرخ بين الكيان الصهيوني وحلفائه، والاستثمار في التحول الحاصل في الرأي العام العالمي لتحويله إلى ضغط سياسي حقيقي، والأهم من ذلك، السماح لـ"حصاد الوعي" بأن ينضج في جيل جديد، وليس تحقيق النصر النهائي اليوم.

وفي نهاية المطاف، فإن عبقرية المناورة لا تكمن فقط في البقاء، بل في النجاح بتحقيق أهداف استراتيجية واضحة رغم الثمن الباهظ. فبينما ارتكب العدو خطأه القاتل بالخلط بين هدفه الاستراتيجي (القضاء على المقاومة) ومحركاته (التدمير الشامل)، نجحت المقاومة في استخدام محركاتها الدقيقة -من العملية الخاطفة إلى إدارة حرب الاستنزاف- لتحقيق أهدافها العليا: فقد حطمت هيبة الردع، وفرضت نفسها ندّا على طاولة المفاوضات، وأعادت القضية الفلسطينية كعامل لا يمكن تجاوزه في استقرار العالم. لقد أثبتت أن الفشل في التمييز بين الأهداف والمحركات ليس مجرد خطأ أكاديمي، بل هو وصفة مباشرة للفشل الاستراتيجي في ساحة المعركة.

وهذا الفهم متعدد الأبعاد والطبقات، هو وحده الذي يمنحنا رؤية كاملة للمشهد، حيث يجمع بين الإعجاب بعبقرية التكتيك والإقرار بندية المقاومة، والتحسب للتحديات التي ستوجهها، مع الوعي الكامل بقدر الله سبحانه وتعالى وأسباب النصر.

مقالات مشابهة

  • افتتاح مميز لشركة “المصادر الحديثة” بحضور نخبة من الشخصيات المرموقة
  • ‏قمة شرم الشيخ… من تجاهل المأساة إلى تبييض الجريمة
  • قمّة شرم الشيخ.. من تجاهُل المأساة إلى تبييض الجريمة!
  • المقاومة الفلسطينية بين المناورة والندية والقدر
  • ‏قمة شرم الشيخ… من تجاهل المأساة إلى تبييض الجريمة
  • الشيخ خالد الجندي: إنكار السنة جهل مركب.. والقرآن نفسه وصلنا عن طريق الرواية
  • رئيس وزراء فلسطين: وقف حرب غزة لا يكفي لإنهاء المأساة
  • اتحاد شباب المصريين بالخارج: الدبلوماسية المصرية قضت علي المأساة الإنسانية في غزة
  • “الإعلام الحكومي”: ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين في غزة إلى 255 بعد استشهاد الجعفراوي
  • مقررة أممية تستغرب إنكار مسؤولة ايطالية الجرائم “الإسرائيلية” في غزة