الجزيرة:
2025-05-21@13:31:41 GMT

هكذا ينكر الإعلام المأساة السورية

تاريخ النشر: 21st, May 2025 GMT

هكذا ينكر الإعلام المأساة السورية

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية

لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية.

ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟

في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه.

إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته

في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها.

فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام.

إعلان

إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة.

الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة.

تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث.

هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية.

وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان.

فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم.

وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار.

إعلان التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد

هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة.

هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش.

من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له.

ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور.

فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد.

كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟!

الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة.

إعلان

كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام.

ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم.

من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية.

أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء.

لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة.

من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات النظام السابق أن یکون لم یکن

إقرأ أيضاً:

عربات جدعون.. مسمّى جديد لمجزرة مستمرة بحق غزة

منذ سبعة عشر شهرا، وغزة تُذبح على مرأى العالم، بلا توقف، بلا عدالة، وبلا خجل من دماء الأطفال تحت الركام. عدوان يتغذى على الصمت الدولي، ويمتد كأفعى سامة تبتلع كل ما هو حي. وفي هذا السياق الدموي، تلوّح إسرائيل من جديد بما تُسميه "عملية عربات جدعون"، كمرحلة إضافية في حرب الإبادة الجماعية التي لم تُبقِ في غزة سوى الأسى والأنقاض.

"عربات جدعون" ليس مجرد اسم لعملية عسكرية محتملة، بل هو عنوان لوحشية منهجية جديدة يُراد لها أن تكتمل على أنقاض من تبقّى. الاسم الذي يستحضره الاحتلال من التراث التوراتي، يعكس عقلية مهووسة بالقوة والسحق، ويعبّر عن خطة قيد التنفيذ وليست مجرد تهديد. تشير المعطيات إلى أن الاحتلال يستعد لإطلاق عملية ميدانية واسعة، تُجنّد لها قوات النخبة والوحدات المدرعة، بهدف اجتياح مناطق محددة في القطاع، لا سيما رفح وأجزاء من الوسط، بحجة "تصفية آخر معاقل المقاومة"، وفق زعمهم. لكن الواقع يقول شيئا آخر: لا معاقل هنا إلا البيوت المهدّمة، ولا أهداف إلا أجساد الجياع، ولا جبهات قتال إلا داخل المخيمات ومراكز الإيواء التي تحوّلت إلى مقابر جماعية.

"عربات جدعون" ليس مجرد اسم لعملية عسكرية محتملة، بل هو عنوان لوحشية منهجية جديدة يُراد لها أن تكتمل على أنقاض من تبقّى. الاسم الذي يستحضره الاحتلال من التراث التوراتي، يعكس عقلية مهووسة بالقوة والسحق، ويعبّر عن خطة قيد التنفيذ وليست مجرد تهديد
لم تعد الحرب على غزة مجرّد حملة عسكرية، بل مشروع تطهير عرقي ممنهج. سبعة عشر شهرا من القصف المتواصل، عشرات الآلاف الأطنان من المتفجرات، عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وأحياء بأكملها أُزيلت من الوجود. وما زال الاحتلال يصر على مواصلة هذا الجحيم، وكأن دم الفلسطيني ماء، وكأن غزة ليست أرضا تسكنها أرواح بشرية بل مجرد هدف تدريبي طويل الأمد لجيوش الاحتلال.

الخطير في "عربات جدعون" أنها تأتي بعد أن دمّر الاحتلال كل شيء تقريبا: المدارس، المستشفيات، البنية التحتية، الأسواق، وحتى مقابر الشهداء. فماذا تبقى ليُقصف؟ وماذا تبقى ليستهدف؟ الجواب واضح: ما تبقّى هو إرادة الناس، كرامتهم، جذورهم في الأرض، وهو ما يسعى الاحتلال لاجتثاثه بآلة عسكرية لا تعرف الرحمة ولا الحدود.

وإذا كان العدو يتفاخر بأن هذه العملية ستكون "حاسمة"، فإن الحقيقة أنها ستكون امتدادا لمجزرة بدأت منذ عقود، وبلغت ذروتها في الشهور الأخيرة. ما تريده إسرائيل من "عربات جدعون" ليس إنهاء المقاومة فقط، بل دفن الحلم الفلسطيني تحت الركام، وإقناع الأحياء أن الموت هو الخيار الوحيد في ظل الحصار والقصف والخذلان.

المجتمع الدولي يقف متفرجا، أعمى عن المجازر، أصمّ عن صرخات الضحايا، عاجزا عن إيقاف جرافة الحرب وهي تدهس أقدار شعب بأكمله. أما الأنظمة العربية، فبين متواطئة وصامتة، تكتفي بنشرات الأخبار، وكأن غزة لا تعنيهم، وكأن فلسطين ليست جرح الأمة المفتوح.

في المقابل، يقف شعبنا في غزة، كما في كل فلسطين، بصدره العاري، يواجه سادس أقوى جيش في العالم، دون كهرباء، دون ماء، دون دواء، لكن بإيمان لا ينكسر، وبإرادة تكتب التاريخ. المقاومة، رغم الحصار والمجازر، ما زالت تثبت أن هذا الشعب لا يموت، وأن ما يُبنى بالدم لا يهدمه ركام، ولا توقفه أساطيل القتل.

"عربات جدعون" ليست النهاية، ولن تكون، لأن غزة، التي تحوّلت إلى أيقونة صمود، لن تسقط أمام آلة الموت، ولأن الفلسطيني لا ينهزم، حتى وإن نزف حتى الرمق الأخير. هذه الأرض لنا، والدم الذي سال على ترابها لن يضيع. وإن كانت إسرائيل تقرأ التاريخ بالمجازر، فإننا نكتبه بالشهادة والصبر والمقاومة.

مقالات مشابهة

  • عربات جدعون.. مسمّى جديد لمجزرة مستمرة بحق غزة
  • أطباء بلا حدود: المساعدات القليلة التي سمحت “إسرائيل” بدخولها غزة مجرد ستار لتجنب اتهامها بالتجويع
  • رئيس الجامعة الأميركية في بيروت يُدرج بقائمة الشخصيات العالمية المؤثرة
  • مصدر: رحيل مرتقب لإحدى الشخصيات الإدارية في نادي النصر
  • إنجازٌ نادرٌ على المستوى العربي...رئيس الجامعة الأميركية في بيروت يُدرج بقائمة الشخصيات العالمية المؤثرة
  • الفريق الاشتراكي: الحكومة في حالة إنكار جماعي والواقع التعليمي مقلق وهناك تراجع الثقة في المدرسة العمومية
  • بين التزاماتها الدولية والوطنية.. هل تفعّل الجزائر عقوبة الإعدام؟
  • عين الإنسانية يدين جريمة جيش الاحتلال الصهيوني بحق الصحفيين في غزة
  • وقفة في ساحة كلية الطب البشري بجامعة حلب إحياءً لذكرى المظاهرة الكبرى التي شهدتها الجامعة ضد ممارسات النظام البائد وتقديراً لتضحيات الشهداء.