إننا نجد في أحد مفاصل الفيلم الأمير فيصل وهو يشير إلى لورَنس بيده خِفيَةً كي يبقيه في الخيمة بعد مغادرة الآخرين ليتحقَّق من دوافعه ونواياه. نتذكَّر هنا أن دْرَيْدِن قد أتى بنفس الحركة الجسديَّة طالبا بها من لورَنس كبح جماح ردَّة فعله في وجه غضب الجنرال مُرِي. وتلك الحركة الجسديَّة المتماثلة تؤدي وظيفتها بوصفها مفتاحا يبيِّنُ أن الأمير العربيَّ في الصَّحراء العربيَّة قد حلَّ محل السَّياسي البريطانيِّ في مقر القيادة البريطانيَّة في القاهرة.

ولكن سيكون من الخطأ مع هذا الثُّنائيِّ أيضا عَزْو تصنيفات ثابتة وجامدة للجَنْدَر في حالتهما الاثنتين؛ فهنا، مرَّة أخرى يُقْرَنُ الأمير العربي بالمعرفة كما دْرَيْدِنْ. على سبيل المثال يقدِّم الأمير فيصل للورَنس درسا في التَّاريخ العربيِّ/الإسلاميِّ بهذا التَّمَثُّل التِّذكاري: «لكن أوَتعلم أيها السَّيد لورَنس أنه كان في مدينة قرطبة العربيَّة مِيلان من الإضاءة العامة للطُّرق في حين أن لندن كانت قرية»؟ أما علاقة لورَنس بالشَّريف علي فهي معقَّدة أكثر، ومرتبطة على نحوٍ حميم بعلاقة الأول بغلامين اثنين ينبغي التَّفكر بهما ضمن معطيات التَّمثيلات الأيروسيَّة والجَنْدَرِيَّة في الفيلم.

لقد حدث لقاء لورَنس بالغلامين العربيَّين داود وفَرَج في الصَّحراء أيضا، وهما تمثيلان مجازيَّان لمَوقَعة الجَنْدَر في فضاء الآخر عوضا عن فضاء الذَّات كما في حال الجنرال مُرِي ودْرَيْدِنْ في مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة. لقد أصبح داود وفرج خادمَيْ لورَنس المخلصَيْن («نستطيع أن نفعل «كل شيء» كما يقول أحدهما) وذلك حتى موتهما التّراجيدي الذي يُلام عليه لورَنس إلى حدٍّ بعيد؛ فهو قد قاد الأول إلى دوَّامة رمليَّة أغرقته، بينما أَعْدَم الثاني رميًا بالرَّصاص بعد إصابته إصابة بالغة نتيجة انفجار لغم كان يحضِّره لنسف قطار تُركيٍّ، وذلك ليجنِّبه تعذيب الأسْر والإذلال الذي قد يتضمن الاعتداء الجنسيَّ. أمَّا تعيين الأنوثة والذكُّورة لكلٍّ من داود وفرج فهو أمر أقل صعوبة بكثير مما عليه الأمر في حالة الجنرال مُرِي ودْرَيْدِنْ، وحالة الشَّريف علي والأمير فيصل؛ فعلى عكس الثُّنائيَّيْن الإنجليزي والعربي السَّابقين اللذين تتقاطع الهويَّات الجَنْدَرِيَّة فيهما، فإن الغلامين يطابقان بصورةٍ متقَنة تقسيمين واضحَيْ الحدود والمعالم للأدوار الأنثويَّة والذُّكوريَّة. وفيما يخصُّ الإيتيمولوجيا العربيَّة فإن الاسم «فَرَج» يُشْتَقُّ من «فَرْج»، العضو الجنسي الأنثوي، في المصدر.

ولذلك فإن فَرَج يرتدي دوما غطاء للرأس، وهذا يتخاطر مع صُور النِّساء العربيَّات ذوات الأخمرة القلائل الَّلائي يظهرن في الفيلم، بينما داود يظهر دوما وهو حاسر. وفَرَج خجول، ورقيق، وهشٌّ، وناعم الصَّوت، ويمشي دوما خلف داود الخشن الذي يمسك دوما بزمام القيادة والمبادرة. على سبيل المثال، عندما يمتطي لورَنس جَمَلَهُ غاذّا الخطى لإنقاذ جاسم من موتٍ محقَّق في صحراء النُّفود الَّلاهبة، فإن داود هو من يذهب لملاقاته في عودته المظفَّرة، بينما فَرَج القلِق والخائف يلبث منتظرا مع قربة الماء. والحقيقة أنَّ لورَنس نفسه ينيط بِفَرَج «أعمال النِّساء» التقليديَّة؛ فهو، على سبيل المثال، يأمره، ولا يأمر داود، بغسل ثيابه.

والأمر نفسه ينطبق على الشَّريف علي الذي، مثلا، يأمر فَرَج، وليس داود، بإحضار الطَّعام للورَنس. وهذه التَّمثيلات النَّمطيَّة إنَّما تتغذى بوضوح تام على المقولات الغربيَّة المُكَلْشَهَة حول وضع المرأة في الثَّقافة العربيَّة. تأمَّل، على سبيل المثال، في حقيقة أن النِّساء العربيَّات غائبات بالكامل تقريبا عن الفيلم (كما ألمحتُ سابقا)، وهذا مناقض بصورةٍ شنيعة لحقيقة أنَّ النِّساء حاضرات بقوَّة بوصفهن شريكات، وذلك تقريبا في كل الأنشطة الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة خاصَّة في المجتمعات العربيَّة البدويَّة.

والغياب العمليُّ للنِّساء العربيَّات هذا من الفيلم يعزِّز فكرة أنَّ وطن العرب إنَّما هو أرض لإناثٍ ذكور، أو ذكورٍ إناث، إن جاز القول، وعلى لورَنس أن يبحث فيهم/ فيهن عن تمرءٍ أيروسيٍّ لهويتَّه الإشكاليَّة ورغبته الملتَبسة. وفي هذا السِّياق يحلُّ الغلامان محل الإناث باعتبارهما ذاتَيْن وموضوعَيْن للرَّغبة في الآن عينه.يكوِّن الثُّنائيُّ الغُلاميُّ داود وفَرَج زوجا علاماته الذكوريَّة والأنثويَّة واضحة بجلاء، وفي هذا ما يُبرِزُ بصورة بيِّنة هويَّة لورَنس المنشطرة. وعلاوة على ذلك فإن ما هو على نفس القدر من الأهمية أن داود وفرج غبنان، وفي هذا ما يعكس مباشرة وبصورةٍ بيِّنة الحقيقة البيوغرافيَّة المعروفة عن الكولونيل تي إي لورَنس أنه ابن غير شرعيٍّ. غير أن الشَّريف علي، في الفيلم، سوف يُضفي الشَّرعيَّة على لورَنس في الصَّحراء العربيَّة، إذ إن الأوَّل يُعَيِّن موقع لورَنس ويوجِّهه بعدد من الطُّرق، فبصورةٍ ذات مغزى يأتي علي ليحلَّ محلَّ دليل لورَنس البدويِّ الذي يقتله الشَّريف نفسه بطريقة مأخوذة مباشرة من أفلام الغرب الأمريكي.

«أنا مختلِف»

تحدث لقيا لورَنس الأولى والشَّريف علي عندما كان الأوَّلُ لا يزال في طريقه لملاقاة الأمير فيصل في وادي الصَّفراء مصحوبا بدليله البدويِّ طَفَس الذي طوَّر معه لورَنس علاقة تعاطف وودٍّ مشترَكة. وفي الحقيقة فإنه مع تقدُّم الرِّحلة الصحراويَّة يصبح الاثنان أثيرَيْن لبعضهما البعض بطريقة التَّماهي، حيث يبدو لورَنس وقد اتَّخذ هويَّة جديدة في بيئة الضَّنك الجديدة، فهو، على سبيل المثال، لا يشرب الماء إلا حين يفعل دليله، فارضا بذلك على نفسه الصَّرامة والتقشُّف اللذين يفرضهما البدوي العربي على نفسه في سياق شظف العيش في الصَّحراء. بَيْدَ أنَّ الهويَّة الجديدة التي يجاهد لورَنس نفسه في السَّبيل إليها لا تحلُّ محلَّ هويَّة «طبيعيَّة» مُكتَسَبَة، بل بالأحرى إنها تعمل على تشظية مفهوم الهويَّة أكثر في الفيلم؛ ففي الإطار العسكريِّ البريطانيِّ في القاهرة يبدو لورَنس مقرونا بالأنثويَّة، وبالتَّباين فإن استعداده لقبول المشاق وتحمِّلها في فضاء الصَّحراء العربيَّة يدل على حركة نحو الذُّكوريَّة وذلك، ببساطة، أن البناء الأيديولوجيَّ والجماليَّ للصَّحراء، وهي فضاء الآخر، مُصَوَّرٌ بأنَّه أنثويٌّ.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على سبیل المثال الأمیر فیصل فی الفیلم فی الص

إقرأ أيضاً:

المجلس الإسلامي السوري يعلن حلّ نفسه

أعلن المجلس الإسلامي السوري -اليوم السبت- حل نفسه استجابة لطلب الحكومة في يناير/كانون الثاني بحل جميع الأجسام الثورية السياسية والمدنية لدمجها في مؤسسات الدولة.

وقال المجلس -في بيان- إن قرار الحل يأتي "بعد أن حقق كثيرا من الأهداف التي قام لأجلها" مشيرا إلى حل كافة المؤسسات التابعة له والمنبثقة عنه كمجلس الإفتاء السوري ومجلس القراء السوريين.

وأضاف أنه يوصي كل أفراده بـ"المساهمة الإيجابية الفعالة في إنجاح وإثراء المرحلة الجديدة بما يمتلكونه من خبرات ومؤهلات، وتوحيد الجهود بين العاملين في حقل التربية والتوجيه والدعوة".

وأفاد في بيانه بأن سنوات الثورة السورية اقتضت إنشاء مؤسسات متنوعة بأدوار مختلفة، لافتا إلى أن سقوط نظام الرئيس بشار الأسد يعني "بدء حقبة جديدة عنوانها بناء الدولة بكل مؤسساتها".

يُذكر أن المجلس الإسلامي السوري أصدر -خلال سنوات عمله- وثيقتي المبادئ الخمسة والهوية السورية، ورؤية التوافق الوطني.

يُشار إلى أن المجلس الإسلامي السوري تأسس في إسطنبول عام 2014، وضم اجتماع التأسيس أكثر من 128 داعية وعالما، ونشط في الشمال السوري وعدة محافظات في تركيا.

وعرّف نفسه بأنه هيئة لعلماء الشريعة الإسلامية السوريين، وكان يهدف إلى "تجميع الكيانات الشرعية وتوجيه الشعب السوري دينيا، وإيجاد حلول شرعية لمشكلاته وقضاياه".

ووفق تعريف المجلس بنفسه، فإن رسالته كانت تقضي "ترسيخ المشروع الإسلامي وتفعيل دور المؤسسة الدينية في المجتمع السوري".

مقالات مشابهة

  • ضياء الدين داوود: الحكومة تلعب بالنار وتتجرأ على الشعب المصري
  • نائب يطالب بتأجيل مناقشة قانون الإيجار القديم ويحذر من خطر طرد المستأجرين
  • مدحت عبد الهادي: الأهلي شرف نفسه ومصر في في كأس العالم بنسخته الجديدة
  • قصة حُلم معطّل (8)
  • ذهب أيلول يحصد الجائزة الأولى في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون بتونس
  • ضياء داود: الطرق لتحسين حياة الناس لا لقتلهم.. والمحاسبة مطلوبة
  • المجلس الإسلامي السوري يعلن حلّ نفسه
  • قصة حلم معطل (٧)
  • القسام تستهدف جنود وآليات الاحتلال في خان يونس ضمن عمليات “حجارة داود”
  • القسام تستهدف جنود وآليات الاحتلال في خان يونس ضمن عمليات حجارة داود