أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «10»
تاريخ النشر: 5th, November 2023 GMT
إننا نجد في أحد مفاصل الفيلم الأمير فيصل وهو يشير إلى لورَنس بيده خِفيَةً كي يبقيه في الخيمة بعد مغادرة الآخرين ليتحقَّق من دوافعه ونواياه. نتذكَّر هنا أن دْرَيْدِن قد أتى بنفس الحركة الجسديَّة طالبا بها من لورَنس كبح جماح ردَّة فعله في وجه غضب الجنرال مُرِي. وتلك الحركة الجسديَّة المتماثلة تؤدي وظيفتها بوصفها مفتاحا يبيِّنُ أن الأمير العربيَّ في الصَّحراء العربيَّة قد حلَّ محل السَّياسي البريطانيِّ في مقر القيادة البريطانيَّة في القاهرة.
لقد حدث لقاء لورَنس بالغلامين العربيَّين داود وفَرَج في الصَّحراء أيضا، وهما تمثيلان مجازيَّان لمَوقَعة الجَنْدَر في فضاء الآخر عوضا عن فضاء الذَّات كما في حال الجنرال مُرِي ودْرَيْدِنْ في مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة. لقد أصبح داود وفرج خادمَيْ لورَنس المخلصَيْن («نستطيع أن نفعل «كل شيء» كما يقول أحدهما) وذلك حتى موتهما التّراجيدي الذي يُلام عليه لورَنس إلى حدٍّ بعيد؛ فهو قد قاد الأول إلى دوَّامة رمليَّة أغرقته، بينما أَعْدَم الثاني رميًا بالرَّصاص بعد إصابته إصابة بالغة نتيجة انفجار لغم كان يحضِّره لنسف قطار تُركيٍّ، وذلك ليجنِّبه تعذيب الأسْر والإذلال الذي قد يتضمن الاعتداء الجنسيَّ. أمَّا تعيين الأنوثة والذكُّورة لكلٍّ من داود وفرج فهو أمر أقل صعوبة بكثير مما عليه الأمر في حالة الجنرال مُرِي ودْرَيْدِنْ، وحالة الشَّريف علي والأمير فيصل؛ فعلى عكس الثُّنائيَّيْن الإنجليزي والعربي السَّابقين اللذين تتقاطع الهويَّات الجَنْدَرِيَّة فيهما، فإن الغلامين يطابقان بصورةٍ متقَنة تقسيمين واضحَيْ الحدود والمعالم للأدوار الأنثويَّة والذُّكوريَّة. وفيما يخصُّ الإيتيمولوجيا العربيَّة فإن الاسم «فَرَج» يُشْتَقُّ من «فَرْج»، العضو الجنسي الأنثوي، في المصدر.
ولذلك فإن فَرَج يرتدي دوما غطاء للرأس، وهذا يتخاطر مع صُور النِّساء العربيَّات ذوات الأخمرة القلائل الَّلائي يظهرن في الفيلم، بينما داود يظهر دوما وهو حاسر. وفَرَج خجول، ورقيق، وهشٌّ، وناعم الصَّوت، ويمشي دوما خلف داود الخشن الذي يمسك دوما بزمام القيادة والمبادرة. على سبيل المثال، عندما يمتطي لورَنس جَمَلَهُ غاذّا الخطى لإنقاذ جاسم من موتٍ محقَّق في صحراء النُّفود الَّلاهبة، فإن داود هو من يذهب لملاقاته في عودته المظفَّرة، بينما فَرَج القلِق والخائف يلبث منتظرا مع قربة الماء. والحقيقة أنَّ لورَنس نفسه ينيط بِفَرَج «أعمال النِّساء» التقليديَّة؛ فهو، على سبيل المثال، يأمره، ولا يأمر داود، بغسل ثيابه.
والأمر نفسه ينطبق على الشَّريف علي الذي، مثلا، يأمر فَرَج، وليس داود، بإحضار الطَّعام للورَنس. وهذه التَّمثيلات النَّمطيَّة إنَّما تتغذى بوضوح تام على المقولات الغربيَّة المُكَلْشَهَة حول وضع المرأة في الثَّقافة العربيَّة. تأمَّل، على سبيل المثال، في حقيقة أن النِّساء العربيَّات غائبات بالكامل تقريبا عن الفيلم (كما ألمحتُ سابقا)، وهذا مناقض بصورةٍ شنيعة لحقيقة أنَّ النِّساء حاضرات بقوَّة بوصفهن شريكات، وذلك تقريبا في كل الأنشطة الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة خاصَّة في المجتمعات العربيَّة البدويَّة.
والغياب العمليُّ للنِّساء العربيَّات هذا من الفيلم يعزِّز فكرة أنَّ وطن العرب إنَّما هو أرض لإناثٍ ذكور، أو ذكورٍ إناث، إن جاز القول، وعلى لورَنس أن يبحث فيهم/ فيهن عن تمرءٍ أيروسيٍّ لهويتَّه الإشكاليَّة ورغبته الملتَبسة. وفي هذا السِّياق يحلُّ الغلامان محل الإناث باعتبارهما ذاتَيْن وموضوعَيْن للرَّغبة في الآن عينه.يكوِّن الثُّنائيُّ الغُلاميُّ داود وفَرَج زوجا علاماته الذكوريَّة والأنثويَّة واضحة بجلاء، وفي هذا ما يُبرِزُ بصورة بيِّنة هويَّة لورَنس المنشطرة. وعلاوة على ذلك فإن ما هو على نفس القدر من الأهمية أن داود وفرج غبنان، وفي هذا ما يعكس مباشرة وبصورةٍ بيِّنة الحقيقة البيوغرافيَّة المعروفة عن الكولونيل تي إي لورَنس أنه ابن غير شرعيٍّ. غير أن الشَّريف علي، في الفيلم، سوف يُضفي الشَّرعيَّة على لورَنس في الصَّحراء العربيَّة، إذ إن الأوَّل يُعَيِّن موقع لورَنس ويوجِّهه بعدد من الطُّرق، فبصورةٍ ذات مغزى يأتي علي ليحلَّ محلَّ دليل لورَنس البدويِّ الذي يقتله الشَّريف نفسه بطريقة مأخوذة مباشرة من أفلام الغرب الأمريكي.
«أنا مختلِف»
تحدث لقيا لورَنس الأولى والشَّريف علي عندما كان الأوَّلُ لا يزال في طريقه لملاقاة الأمير فيصل في وادي الصَّفراء مصحوبا بدليله البدويِّ طَفَس الذي طوَّر معه لورَنس علاقة تعاطف وودٍّ مشترَكة. وفي الحقيقة فإنه مع تقدُّم الرِّحلة الصحراويَّة يصبح الاثنان أثيرَيْن لبعضهما البعض بطريقة التَّماهي، حيث يبدو لورَنس وقد اتَّخذ هويَّة جديدة في بيئة الضَّنك الجديدة، فهو، على سبيل المثال، لا يشرب الماء إلا حين يفعل دليله، فارضا بذلك على نفسه الصَّرامة والتقشُّف اللذين يفرضهما البدوي العربي على نفسه في سياق شظف العيش في الصَّحراء. بَيْدَ أنَّ الهويَّة الجديدة التي يجاهد لورَنس نفسه في السَّبيل إليها لا تحلُّ محلَّ هويَّة «طبيعيَّة» مُكتَسَبَة، بل بالأحرى إنها تعمل على تشظية مفهوم الهويَّة أكثر في الفيلم؛ ففي الإطار العسكريِّ البريطانيِّ في القاهرة يبدو لورَنس مقرونا بالأنثويَّة، وبالتَّباين فإن استعداده لقبول المشاق وتحمِّلها في فضاء الصَّحراء العربيَّة يدل على حركة نحو الذُّكوريَّة وذلك، ببساطة، أن البناء الأيديولوجيَّ والجماليَّ للصَّحراء، وهي فضاء الآخر، مُصَوَّرٌ بأنَّه أنثويٌّ.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على سبیل المثال الأمیر فیصل فی الفیلم فی الص
إقرأ أيضاً:
الإنسان والحرية.. من العصر الحجري إلى المدنية
د. هبة العطار
عاش إنسان العصر الحجري في مساحة من الوجود لا تحدها قوانين ولا تصوغها نُظُم، ولم يكن يعرف معنى أن يكون حُرًّا؛ لأن فكرة الحرية نفسها لم تكن قد وُلدت بعد؛ إذ كانت الحرية آنذاك حالة طبيعية، كالماء حين يجري في النهر دون أن يُدرك أنه يتدفق.
كان الإنسان يتحرك بغريزته، يتبع الجوع فيعرف الطريق، ويتبع الخوف فيعرف النجاة. لم يكن يفكر في "ينبغي" و"لا ينبغي"؛ بل في "أعيش" و"أبقى". كانت حياته فطرية، لا تعرف الانقسام بين الجسد والروح، ولا بين الواجب والرغبة. لم يكن هناك "صواب" يُقيِّده ولا "خطأ" يُجرِّمه. كل ما في الأمر أن الحياة تمضي كما هي، والإنسان جزء منها لا سيد عليها. في تلك البراءة الأولى، كان أقرب إلى جوهر الوجود مما نحن عليه اليوم.
لكن في لحظة غامضة من تاريخ الكائن، استيقظ في داخله السؤال: من أنا؟ ومنذ تلك اللحظة، تغيَّر كل شيء!
بدأ الإنسان يرى نفسه منفصلًا عن العالم، لا متوحِّدًا معه. وحين انفصل، احتاج أن يُفسِّر، وأن يضع قواعد كي يطمئن. هكذا جاءت الفكرة الأولى للقانون، ثم للدين، ثم للمجتمع. وكل فكرة، مهما كانت سامية، كانت تقتطع من مساحة الحُرية قطعةً صغيرةً. لقد منحنا الوعي قدرة على التفكير، لكنه في الوقت نفسه، أفسد بساطتنا الأولى. صار الإنسان يحيا في صراع بين ما يريد أن يفعله وما ينبغي أن يفعله، بين غريزته الأولى وصوته الداخلي الذي يعاتبه باستمرار. لقد بدأ العقل في حراسة النفس، وبدأ القلب يحنّ إلى فوضاه القديمة.
كلما خطا الإنسان نحو الحضارة، ازداد ابتعاده عن ذاته الأولى. وفي مقابل الأمان، تنازل عن الحرية. وفي مقابل النظام، تنازل عن الفوضى التي كانت تحمل الحياة بين أنيابها. حين بنى أول بيت، فَقَدَ أول سماء. حين سنَّ أول قانون، فَقَدَ أول براءة. وحين كتب أول كلمة، فَقَدَ أول صمتٍ كان يُكلِّمه فيه الكون بلا تُرجمان. وفي النهاية، صار يعيش داخل جدران من أفكاره، يُراقب نفسه باسم الوعي. لم يعُد يخاف الوحوش، لكنه صار يخاف من ذاته. لم تعُد الأغلال حديدًا في مِعصميه، بل أفكارًا في رأسه، ومخاوف في قلبه.
الإنسان الحديث، بملابسه اللامعة وأجهزته الذكية، هو ذات الكائن الذي عاش في الكهوف، لكن بسجنٍ أكثر أناقة. يسير نحو التقدّم، لكنه يبتعد عن نفسه. يؤمن أنه حُرّ، لكنه لا يجرؤ على أن يعيش خارج النظام الذي صنعه بيده. لقد تناقصت الحرية مع مرور الوقت كما يتناقص الضوء حين تتكاثف حوله الجدران. كنا نعيش الحرية بلا وعيٍ، فأصبحنا نعيش القيود بوعيٍ! صرنا نُدرك أننا لسنا أحرارًا، ومع ذلك نُقنع أنفسنا بأننا كذلك. نكتب عن الحرية، نحتفل بها، نُدرِّسها، لكننا نخاف أن نعيشها. كأنّ الوعي الذي خُلِق ليُحرِّرنا، صار السجن الأنيق الذي نسكنه بإرادتنا. فقدنا القدرة على أن نعيش ببساطة، صرنا نحتاج لتبرير كل فعل، وتفسير كل إحساس، حتى ضاعت منا عفوية الوجود، وصارت الحرية فكرة فلسفية بعد أن كانت غريزة حيّة.
وهكذا، صار الإنسان المُعاصِر أكثر وعيًا بوجوده، لكنه أقل حياةً فيه. يعيش مُحاصَرًا بما يعرف، مُطارَدًا بما يُفكِّر، مُنهكًا بما يُفسِّر. لم يعد يسمع صوت الطبيعة كما كان يسمعه حين كان جزءًا منها، لأن صوته الداخلي صار أعلى من همسها. كل معرفة يكتسبها تُبعده خطوة عن بساطته، وكل يقين يظنه خلاصًا، يزيده غُربة عن ذاته. لقد صار الإنسان يُفتِّش عن الحرية كما يُفتِّش الغريق عن الهواء، لكنه لا يدرك أنه هو من يغمر رأسه في الماء.
في زمن الكهوف كان يركض في البرية دون أن يسأل إلى أين، والآن يجلس أمام الشاشات ليبحث عن معنى الركض ذاته. كانت حياته امتدادًا للطبيعة، أما اليوم فقد صارت معادلة يحاول فيها أن يوازن بين العقل والقلب، بين الحقيقة والوهم، بين الوعي والنجاة منه. كأنَّ الوعي الذي وعده بالنور لم يكن سوى مرآة يرى فيها هشاشته كل يوم بوضوح أكبر.
ربما لم يفقد الإنسان حريته تمامًا، لكنه فقد بساطة أن يكون حُرًّا دون أن يعرف. الحرية لم تمت، لكنها اختبأت خلف زحام الفكر، تنتظر لحظة صمتٍ حقيقي، لحظة ينزل فيها الإنسان عن عرشه الذي صنعه من أفكاره، ويعود إلى الأرض كما وُلِد أول مرة: عاريًا من المفاهيم، نقيًّا من القوانين، لا يسأل، لا يخاف، لا يُفسِّر… فقط يعيش.
حينها فقط، سيكتشف أن الحرية لم تكن يومًا غايةً خارج نفسه؛ بل كانت تسكن فيه منذ البداية، قبل أن يتعلم كيف يسميها.
رابط مختصر