عبء الرجل الأبيض.. قصة الرسوم الأكثر عنصرية في تاريخ الكاريكاتير
تاريخ النشر: 7th, July 2023 GMT
يثير مصطلح "عبء الرجل الأبيض" في الفترة الحالية عاصفة من النقاشات حامية الوطيس، حيث صار محملا بمعان وقضايا شتى، مثل آفاق التحرر والعدالة الاجتماعية والاستعمار والعنصرية والتفاوت الاقتصادي بين الأعراق.
كما يستخدم المصطلح أحيانا لتجميل جرائم الرجل الأبيض في القارات والبلدان المستعمرة كي يقلل مقدار التمييز العنصري الذي تمت ممارسته ضد الشعوب غير البيضاء.
الحال لم يكن دوما هكذا، فالمصطلح في بداية ظهوره وتداوله كان يشير إلى المسؤولية التاريخية والاجتماعية المفروضة على الرجل الأبيض (الأوروبي) نتيجة التفوق الاقتصادي والقوة السياسية اللذين حظي بهما لعدة قرون، تلك المسؤولية تفرض على الرجل الأبيض الذي يمتلك القدرة على السيطرة والتحكم في العالم ومصير الشعوب الأخرى أن يُخرج الشعوب المتخلفة مما هي فيه.
أصل المصطلح ونشأتهانطلقت شهرة المصطلح عبر رسام الكاريكاتير الأميركي فريدريك فيكتور جيلم (1858-1920) الذي رسم سلسلة من أكثر الرسومات الكاريكاتيرية عنصرية في التاريخ حملت عنوان "عبء الرجل الأبيض".
كانت السلسلة رسوما توضيحية لقصيدة "عبء الرجل الأبيض" التي كتبها روديارد كيبلينغ عام 1899، وتتبنى القصيدة الموقف الإمبريالي الذي يرى أن مسؤولية الأوروبيين والأميركيين البيض هي نقل الحضارة إلى شعوب الدول المستعمرة.
تصور القصيدة واجب الرجل الأبيض على أنه عبء نبيل، مما يعني أنه التزام أخلاقي بجلب الحضارة والتعليم والتقدم إلى شعوب العالم "المتوحشة" و"غير المتحضرة"، كما تعكس القصيدة المواقف السائدة في ذلك الوقت مثل الشعور بالتفوق والأبوة البطريركية التي بررت بها أوروبا والولايات المتحدة استعمار أفريقيا وآسيا ومناطق أخرى.
الرسمة الأولىتصور الرسمة الأولى -التي تحمل نفس عنوان القصيدة- الولايات المتحدة بشخصية "العم سام" وبريطانيا بشخصية "جون بول" كرجلين متحضرين يحملان شعوب دول مثل مصر والسودان والفلبين والهند على ظهريهما كي ينقلاهم من التخلف إلى الحضارة، في مسار وعر يعكس "روحا بطولية" و"تضحية" من أجل تلك الشعوب.
تأتي الرسمة الثانية بعنوان "البداية الجيدة نصف الإنجاز"، رسمها جيلم عام 1899، ويعكس فيها طموحات أميركا الإمبريالية بعد انتصار سريع وشامل في الحرب الأميركية الإسبانية عام 1898.
وسوقت الرسمة لصالح مشروع قناة نيكاراغوا التي من شأنها أن تعزز التوسع الأميركي.
تصور الخريطة الولايات المتحدة وإمبراطوريتها الجديدة التي تغطي الكرة الأرضية، فيما تحدد الأعلام كوبا وبورتوريكو كأراض أميركية، إلى جانب ألاسكا والفلبين وهاواي، فيما يقف الرئيس وليام ماكينلي مثل تمثال عملاق فوق خليج المكسيك يمده العم سام بحفنة من الأدوات لمساعدته في حفر القناة.
تحمل الرسمة الثالثة عنوان "المهاجر.. هل هو مكسب أم ضرر؟"، رسمت عام 1903، ويصور فيها جيلم رجلا ضخم الجسد على أنه هو المهاجر، يقف في مركز الرسمة ويحمل صندوقا كُتب عليه بالإنجليزية "مليون مهاجر دخلوا الولايات المتحدة حتى الآن".
ويقف حول الرجل بعض الأشخاص صغار الحجم مقارنة به وهم أفراد المجتمع الأميركي ومعهم العم سام، ويحمل أحدهم لافتة كُتب عليها "إنه خطر"، وآخر يحمل لافتة كُتب عليها "سيأخذ عملي"، وفي لافتة أخرى نقرأ "إنه لغز بالنسبة لي"، أما العام سام فيحمل لافتة كُتب عليها "إنه ملون وقوي البنية من أجل مجتمعي".
تطول السلسلة التي تبنت رسوما عنصرية تحتوي على إساءات لفظية لأعراق مختلفة، وتبنت خطابا يمجد الرجل الأبيض المتفوق عرقيا وحضاريا والذي يهدف للسيطرة والتوسع الاستعماري كي يحول تلك الشعوب المتخلفة إلى دول متحضرة.
وقد غفل جيلم أو تغافل عن أن تلك الدول الإمبريالية استغلت موارد البلدان المستعمرة لصالحها، سواء كانت الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز والفحم، أو قوى العمل المتاحة بأجور منخفضة، خاصة في أفريقيا وآسيا.
وغفل جيلم أو تغافل أيضا عن أن الدول الإمبريالية وسّعت نفوذها السياسي والثقافي وفرضت نمط حكمها وقيمها على الشعوب المستعمرة، حيث تم تجاهل وتهميش تراثها الثقافي مقابل فرض الثقافة والقيم الغربية، كذلك فرضت الدول الاستعمارية ضرائب عالية تسببت في تفاوت وظلم اجتماعي طويل الأمد.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
قاطِع.. إنهم لا يعيشون إلّا بِنَا
هند الحمدانية
هل بقي للعرب سلاح غير البكاء؟ وهل بقي لفلسطين درب سوى المَجازر، وهل لغزة نجاةٌ من حناجر الحصار والوجع؟ نعم... بقي ضميرٌ يقظ في جيب رجلٍ عربي بسيط قرَّر أن يُقاطع.
لو كان للعرب ضمير يحيا في الأسواق كما يحيا في الميادين؛ لأدركوا أنَّ الحروب لا تبدأ حين يضغط العدو على الزناد؛ بل حين تنفق الشعوب أموالها في جيوب مغتصبيها، وما أكثر أولئك الذين يرفعون شعارات المظلوم، ثم يُحسنون تمويل ظالمه!
نعم لدينا سلاح أقوى مما يتوهم الطُغاة، وأبقى من الرصاص، وأسرع أثرًا من بيان القمم العربية، سلاح يملكه كل عربي شريف يحمل قلباً نابضاً بالكرامة، ذلك السلاح هو المقاطعة.
يعرف عدونا جيدًا قيمة المُقاطعة ويدرك عواقبها الوخيمة، فيخشى من سوق يتقلَّص ودولار يُحجب، وشعب يَنتعش ضميره ويَنضُج، وما أكثر المعارك التي حُسمت في دكانٍ صغير، حين رفض صاحبه أن يبيع زجاجة موشومة بختم صهيوني، وكم من رصاصة لم تُشتَرَ لأنَّ امرأة شريفة قررت أن تطبخ لأسرتها بطحين عربي نظيف. قاطع.. لا لأنك قادر على إسقاط الكيان الغاصب وحدك؛ بل لأنك ترفض أن تكون شريكًا في دماء الأبرياء.
تشتري قهوتك من شركة تدعم القاتل؟ ثم تبكي أطفال غزة؟ تأكل من مطاعم تُموِّل طائرات الاحتلال؟ ثم تصلِّي لتتحرر القدس، أيها العربي: في هذه الحرب الكاشفة أنت مستهلِك قاتِل أو مقاوِم مقاطِع.
في هذه اللحظات التي نتشاركها جميعًا بسلام واطمئنان، تختنق غزة وحدها بحصار لا يستشعره العالم، وتقصف بأيدٍ ناعمة ترسل الموت من خلف شاشات الأسهم في البورصات، يُستشهد الأطفال في أحضان الأمهات، فيبحث القاتل عن أسهم شركاته في نشرة الاقتصاد، يختنق الغزاويون في الممرات الضيقة للقطاع، ويتسع الرصيد البنكي لمن يُمَوِّل الذبح والمجازر، وفي هذه المعادلة الدامية يأتي صوت الشعوب العربية، خافتا أحيانا، لكنه حين يتحد وينهض، يصير أبلغ من الرصاص وأحد من السيوف وأقرب للنصر والعزة.
إنَّ المقاطعة فعل بسيط في ظاهره، لكنه عظيم في أثره، لا يحتاج منك أن تحمل سلاحًا؛ بل أن تمسِك يدك وتحصي ما تشتري، وتقرأ خلف المنتجات؛ فتكتشف أنَّ كثيرًا مما يدخل بيتك، قد خرج من مصانعهم مُلطَّخًا برائحة دم عربي، هم لا يحاربوننا بالسلاح فقط؛ بل بالطعام والشراب، وبالموضة والهاتف والسيارة والإعلام، ونحن في غفلتنا نُمَوِّل موتنا بأموالنا ونزرع عارَنا بأيدينا.
لم يُعد في هذه الدنيا عُذر لمن يدَّعي الجهل، ولم تعد هناك قائمة خفية: الأسماء مكشوفة والعلامات التجارية معروفة، والتمويلات مُعلنة، من يدعم ومن يذبح ومن يبتسم وهو يضغط زر الغارة، كلها أسماء مسجلة في ذاكرة التاريخ، والتاريخ يؤكد أن الشعوب لا تنتصر حين تصرخ فقط؛ بل حين تمسك بزمام قرارها في حياتها اليومية الصغيرة، حين يتحول الجيب إلى ميدان، والشراء إلى موقف، حين يصبح الامتناع عن شراء منتج صرخة تقطع طريق دبابة، فكم من احتلال انهار لأنَّ شعبا قرر أن لا يموله، وكم من طاغية سقط حين حُرم من أسواق كانت تدعمه، ولنستلهم من التاريخ ما يؤكد أنَّ الوعي بالمقاطعة استطاع أن يُسقط جيوشًا وينهي أنظمة ظالمة، كالهند التي حطَّمت إمبراطورية بريطانيا حين قاطع المهاتما غاندي الأقمشة البريطانية؛ فانهارت صناعتهم الاستعمارية، وجنوب أفريقيا التي أسقطت نظام الفصل العنصري حين قاطع الناس عنصرية البِيض بلا طلقة، وأمريكا التي أُلزمت بالعدالة حين قاطع السود حافلات الفصل العنصري "مونتغومري"... كُلها قصص انتصارات كتبتها المقاطعة واليد المُمتنعة والضمير الحي.
هذه المعركة ليست سهلة؛ فالمقاطعة ليست رفاهية يمكن للمرء أن يتنصَّل منها في لحظات الإغراء أو الضعف؛ بل هي شرف وموقف يومي، وقناعة مُتجذِّرة بأنَّ دماء أطفال غزة أغلى من كل ما يعرضه السوق، هي أن تقول لا حين يهمك الشراء، إنها معركة تَفرض على كل مِنَّا أن يختار: أن يكون مع المُحتل أو مع المُقاوَمة، لا منطقة رمادية في هذه الحرب الكاشفة، لأنك إن لم تقاطع فلا شك أنت تُغذِّي آلة القتل بأموالك الشخصية.
هم يظنون أن المقاطعة لعبة الشعوب العاجزة، لكنها في الحقيقة سلاح الشعوب العارفة؛ لأن الأسواق أشد شراسة من حرب الجبهات، ولأن السلاح الذي يقتل أبناء غزة لم يصنع فقط في مصانع الغرب؛ بل في جيبك وفي قائمة مشترياتك وفي غفلتك، لذلك حين تقول لا للمنتجات الداعمة، فأنت تقول لا للقتل، لا للحصار، لا للإبادة الجماعية، وهذا الفعل الصغير قد يكون أعظم مقاومة، فهو صوت لا يهزم وقوة لا تنكسر، ورسالة حيَّة من جيب عربي إلى قلب المحتل الصهيوني والغربي.
قالها محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وأؤكدُ أنَّ على هذه الأرض العربية الشريفة ما يستحق أن تُحرم لأجله من زجاجة عطر وقميص من ماركة عالمية ومشروب بنكهة دم عربية، على هذه الأرض ما يستحق مِنَّا الثبات والمقاومة، على هذه الأرض ما يستحق مِنَّا الوعي بالمقاطعة.
سجِّل الآن: أنا عربي وأُقاطع القاتل. نعم، قاطِع لأن كل ريالٍ يصل إلى العدو.. تُزهَق ألف روح، قاطِع لأنك تستطيع، قاطِع لأنك إن لم تفعل؛ فدماء غزة في عُنقك، لا شيء أثمن من أن تنام نظيف الجيب، أن تُطفئ هاتفك وأنت تعلم أن كل ما اشتريت اليوم من طعامك وشرابك وملابسك وألعاب أطفالك لا تحمل دماء الأبرياء، علِّم أطفالك عن المقاطعة، لعلهم حين يكبرون ويُسألون: ماذا فعل أبوكم لغزة؟ يقولون بفخرٍ: كان عربيًا بسيطًا... لكنَّ جيبه كان شريفًا.
رابط مختصر