هذه أمّة خائفة، تخاف حتى غدت بلا همّة، فمن خاف قعد، ومن قعد ذل، ومن ذل هان على الناس بعد أن هانت عليه نفسه. فلا غرو، إذن، أن تهون فلسطين على سبع وخمسين دولة خافت، أن تصدع بشجاعة لفظًا وبيانًا، على الأقل، بما يمليه عليها الواجب الشرعي والإنساني، وبما تستوجبه العقيدة الواحدة، وبما تقبله النفوس العزيزة، اللهمّ إلا قليلًا ممن وقفوا دائمًا مع غزة وفلسطين.
وجاء جهاد غزة ليعري ويفضح، ثم لينفث في الأمة، بإذن الله، ما يحييها حين تستجيب لله ورسوله.
فمِّمَ نخاف وكيف؟نخاف من أنفسنا، إذ يخاف من هو في القمة ممن هم في القاع، فيسلط عليهم عيونه، ويوسع لهم في السجون ويستخفهم، ويخاف من هم في القاع ممن هو في القمة فينافقونه ويسكتون وينصاعون، وتدور الدائرة بلا توقف جيلًا بعد جيل، وتعمى القلوب قبل الأبصار، وتهون النفوس، ويخاف الكل من الكل.
نخاف من الناس حولنا، إذ نخاف أن تتخطفنا الأمم، بعد أن هُنَّا على أنفسنا وعلى الناس. نخاف ممن هم وراء البحار، فلا ندخِل لغزة إلا أكفانًا نواري بها سوءاتنا نحن، فشهداء غزة يستر الله أجسادهم الطاهرة بستره، ويواريهم ثراها المجاهد، لنكتشف- نحن القاعدين تخاذلًا- أن كل ما درسناه عن نيل استقلالنا الحديث، واستعادة حرية أمتنا، سرابٌ تحسبه شعوبنا حقيقة، حتى إذا جئناه وجدناه وهمًا، ووجدنا الله عنده فوَفَّانا حسابنا، وما أغلظه من حساب!
نخاف من الصدق مع أنفسنا؛ إذ نخجل من هواننا، فنَتَلَبَّسُ أقنعة زائفة مزورة، لعل من نخاف منهم وراء البحار يقبلون بنا، لنكتشف أن ذلك مراد لن نناله مهما تعبت من أجله أجسامنا.
أفلا نّتَنَكَّر لتراثنا وهويتنا وديننا ولغتنا حين نرسل أبناءنا إلى مدارس من نخاف منهم، فيتخرج أحدهم يتباهى بالرطين البذيء؟ وهيهات أن يقبلوه متساويًا معهم حتى ينزع عن نفسه آخر انتماء لأمته، فيلفظوه! ويظل بعضهم يلهث، حَمَلْتَ عليه أم تَرَكْتَهُ.
نخاف من الحرية، ومن يخاف منها يخلد إلى الأرض، حتى لا يرى بيارقها المضرجة، فيستمرئ الاستعباد. فكم من عبد آثر القيد على الانعتاق، فظل يرسف حتى الممات، في طاعة سيده؛ خوفًا من الجوع! وكم من بلداننا تكبلها هذه الأيام أغلال الديون فتؤثر إملاءات سادة ما وراء البحار، فلا تهب لنجدة من يرفعون بيارق الحرية، بل تخاف أن تصل إليها من غزة وفلسطين رياح الحرية، فيتغير الحال بأحسن منه بعد خوف وهوان.
نخاف من وحدة أمتنا أرضًا ومصيرًا، فنتقوقع وراء الحدود متفرّقين وتذهب ريحنا، فيؤكل الواحد منا أمام الآخر، ولات حين مندم! وما طوائف الأندلس وبلاد الشام منا ببعيد.
نخاف من العلم والعقل فنقمعهما، ونَعْمَهُ بلا فكر ولا مراجعة، ونظل ندور وندور كما يفعل من قيدوه للساقية، يسقي غيره ويموت وهو مقيد. أَوَ لا يتخرج أبناؤنا من جامعاتنا، مهندسين وأطباء وعلماء ومفكرين، فيرحلوا إلى بلاد ما وراء البحار حين تقمع عقولهم، أو حين لا يجدون العدل في فرص العمل؟
نخاف من العدل فكثر فينا الفساد، فساد في حكم العباد والبلاد، فساد في الإدارة، فساد في الموارد وتوزيع الثروات، بل حتى فساد في التدين والمتدينين. أوَ لا تتصدر بعض دولنا القوائم العالمية لأكثر الدول فسادًا؟
نخاف من الكلمة الحرة والرأي الشجاع فنسكت خانعين، أو نرفع أصواتنا بالباطل ومع أهله. أو لا ترون كيف أن بعض شاشاتنا الناطقة بالعربية تهلل لمن يسفكون دم أهل غزة، وتعتبر رسالة الشاشة التي تقف مع غزة ترويجًا خارجًا عن قواعد المهنية، كما يحلو لهم أن تكون؟
بذرة الخيرقد يتّهمني نفر من الناس- أحسبهم من المخلصين- بالتثبيط إذ أقول ما قلت، وسيقولون الخير في الأمة إلى يوم الدين، مصداقًا لحديثه صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك، ولكن حتى تصبح بذرة الخير هذه فعلًا يغير واقعًا ويحيي نفوسًا، فلن تبرح مربع الإيمان الناقص حتى عن حدود الأضعف من الإيمان.
آن الأوان أن نُمَكِّنَ لبذرة الخير التي غرسها في الأمة نبينا- محمد صلى الله عليه وسلم، وروَّاها صحبه بدمائهم وعقولهم- حرمًا آمنًا فاعلًا في قلوبنا حتى تستغلظ وتستوي على سوقها لتغيظ أعداءنا.
ولن تصبح هذه البذرة فعلًا يغير حتى تنقشع سحب الخوف من النفوس، وهل يكنس السحاب الداجن المظلم بلا مطر إلا الرياح الهطول؟ وهل تهتز الأرض وتربو إلا من بعد غيث عميم، فيخرج منها الخبء الذي ينتظره خلق الله جميعًا؟ وهل يملأ الخبء خوابيَ الناس إلا من بعد أن تحصده المناجل وتذرو تبنه السواعدُ على بيادر الغلال؟
وأستميح من سبقني بالتشبيه حين أقول: غزة اليوم مثل "ناقة صالح" عقرها قومه فدُمْدِمَ عليهم، فعسى أن ننزع الخوف من نفوسنا كما فعل أهل رباط عسقلان، فلا نهون ولا يدَمْدَم علينا.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
السجن 13 عاما لنائب وزير الدفاع الروسي بتهم فساد
أدانت محكمة روسية تيمور إيفانوف النائب السابق لوزير الدفاع بتهم اختلاس وغسل أموال، وقررت سجنه لمدة 13 عاما، وهو أقسى حكم حتى الآن في سلسلة قضايا فساد ضد مسؤولي الدفاع.
ووقف إيفانوف (49 عاما) مرتديا ملابس داكنة في قفص معدني في قاعة المحكمة، مبتسما، بينما قال القاضي إنه قرر "الحكم على إيفانوف بالسجن 13 عاما، وفرض غرامة قدرها 100 مليون روبل (1.27 مليون دولار)".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الإنتربول يحذر من تزايد الاتجار بالبشر المرتبط بالاحتيال الإلكترونيlist 2 of 2توقيف أكثر من 150 عضوا ببلدية إزمير بتهم فسادend of listوظل إيفانوف محتجزا منذ القبض عليه في أبريل/نيسان 2024 باختلاس 3.9 مليارات روبل (نحو 50 مليون دولار)، ونفي هذه التهم عن نفسه. وصادرت المحكمة أصوله التي ضمت عقارات فاخرة ومجموعة من السيارات الكلاسيكية. وذكر محامو إيفانوف أنهم سيطعنون على الحكم.
كما حُكم على أحد مساعديه السابقين، أنطون فيلاتوف، بالسجن 12 عاما ونصف العام.
وعُين إيفانوف في منصب نائب وزير الدفاع عام 2016، وأشرف على مشاريع بناء تابعة للجيش، بالإضافة إلى إدارة المنشآت والإسكان والدعم الطبي للجيش.
"الجنرال الباهر"ووصفت وسائل الإعلام الروسية إيفانوف بـ"الجنرال الباهر" نظرا لأسلوب حياته الباذخ الذي أثار غضب الكثيرين في موسكو.
وأفادت وسائل إعلام روسية بأنه وزوجته يمتلكان شقة فاخرة في وسط موسكو، وقصرا على الطراز الإنجليزي من 3 طوابق في ضواحي العاصمة، ومجموعة كبيرة من السيارات الكلاسيكية، بما في ذلك سيارتا بنتلي وأستون مارتن.
وأفادت وكالة تاس للأنباء -نقلا عن وثائق قضائية- بأن أصول عائلته التي جمّدتها روسيا تشمل 23 سيارة فاخرة وكلاسيكية.
وخلال التحقيق، صادرت قوات إنفاذ القانون قصرا مساحته 2500 متر مربع، وحماما مساحته 420 مترا مربعا، وقطعة أرض مساحتها 20 فدانا، وفقا لما ذكرته وكالة ريا نوفوستي الروسية.
وقال المحامي مراد موساييف: "إن الشائعات حول ثروة إيفانوف التي تُقدر بمليارات الدولارات مُبالغ فيها إلى حد كبير".
إعلانوزعمت مؤسسة مكافحة الفساد -وهي منصة استقصائية أنشأها زعيم المعارضة الراحل أليكسي نافالني في عام 2022- أن إيفانوف استفاد من مشاريع بناء في مدينة ماريوبول الساحلية الأوكرانية.
ويُعدّ الحكم على إيفانوف أقسى حكم حتى الآن في سلسلة قضايا فساد ضد مسؤولي الدفاع.
وكان إيفانوف نائبا لسيرغي شويغو، الذي عُزل من منصب وزير الدفاع العام الماضي، لكنه لا يزال يشغل منصبا مهمًّا كأمين عام مجلس الأمن التابع للرئيس فلاديمير بوتين.
وحاكمت روسيا أكثر من 12 مسؤولا عسكريا -من بينهم نائبا وزير سابقان آخران- في تحقيقات في قضايا منفصلة منذ العام الماضي، مستهدفة شخصيات بارزة متهمة بسرقة مبالغ طائلة من الأموال المخصصة لمشاريع عسكرية كبرى.
وشن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حملات علنية لمكافحة الفساد خلال حكمه الذي استمر 25 عاما. لكن المنتقدين يزعمون أن الاعتقالات النادرة للشخصيات البارزة عادة ما تكون بدوافع سياسية أو نتيجة صراعات داخلية بين النخبة، وليست محاولات حقيقية لاجتثاث الفساد.