لجريدة عمان:
2025-07-12@21:56:28 GMT

جان باتيست أندريا... النحت الميتافيزيقي

تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT

جان باتيست أندريا... النحت الميتافيزيقي

لا يمكن اعتبار «جائزة جونكور» مجرد جائزة أدبية -على الرغم من أنها الأهم في فرنسا- بل أصبحت، على مرّ الأعوام، حدثا ثقافيا سنويا ينتظره الناشرون والقرّاء والروائيون. القرّاء؛ لأنهم يميلون إلى شراء الكتاب الفائز بدلا من البحث عمّا يقرأونه، والناشرون؛ من أجل أرقام المبيعات، إذ تتخطى الرواية المتوجة الــ 400 ألف نسخة وتصل غالبا إلى رقم أعلى بكثير، وبطبيعة الحال، الكاتب الذي سيبقى اسمه «خالدًا» في سجلات الفائزين، ولكنه أيضا ينتظر مكسبه المادي الذي قد يصل إلى مليون يورو من جراء عمليات البيع، على الرغم من أن قيمة الجائزة المادية ليست سوى صك بــ 10 يورو.

في أية حال، منحت أكاديمية جونكور جائزتها للرواية هذا العام (6 نوفمبر الحالي) إلى الروائي جان باتيست أندريا (مواليد عام 1971 وهو أيضا مخرج سينمائي وكاتب سيناريو) عن روايته «انتبه لها» (منشورات ايكونوكلاست). من تابع الصحف والمجلات الفرنسية، في الفترة التي سبقت إعلان النتائج، كان لا بدّ له أن يتوقع فوز أندريا بجائزة عنها (في الواقع فازت الرواية بجائزة الفناك أيضا)، إذ منذ صدورها في أغسطس الماضي والصحافة تكيل لها المدائح، معتبرة أنها «جدارية ميتافيزيقية ضخمة»، حول فن النحت، مثلما هي تأمل فكري حول موضوعي الحضور والغياب.

«انتبه لها»، الرواية الرابعة لأندريا، وقد وُصفت كتبه السابقة بأنها ملاحم حميمة، تتميز بوجدانيتها المذهلة وأبطالها المهملين المتروكين الذين يعيدون اختراع طفولتهم المكسورة، عبر تجوالهم الأبدي، ومغامراتهم أو عبر إبداعهم الفني الذي يشكل لهم الانتماء الوحيد والحقيقي.

في روايته الأولى «مليكتي» (2017)، نجد «شيل» الذي يعيش مع والديه المسنيّن في محطة للوقود، حيث لم تكن السيارات تمر إلا فيما ندر. يقرر مغادرة الوادي ليعيش في الجبال، حياة بدائية بعيدا عن الروتين اليومي. على الهضبة المطلة على الوادي، لا يكتشف سوى الصمت، وتلك الفتاة التي تظهر فجأة أمامه. المستحيل يصبح حقيقة. يطيعها كما لو أنه يرمي نفسه في هاوية. معها يعرف اللعب والرغبة المطلقة. رواية أشبه بقصيدة عن الحب والحرية والخيال والاختلاف. أما في «مائة مليون سنة ويوم» (2019) فتروي عن ستان، عالم حفريات على مشارف التقاعد، الذي يستدعي صديقيه امبرتو وبيتر، وهما عالمان أيضا، ليعرض عليهما الانضمام إليه من أجل تحقيق الحلم الذي راوده طيلة عمره: العثور على هيكل عظمي لديناصور منقرض عالق في قلب نهر متجمد، وهو أكبر من كل الديناصورات المعروفة. بيد أن مسعاه يتحول أثناء الصعود إلى تجربة غير متوقعة: يصبح هو الهيكل العظمي المتجمد، وكأن لا حرية قصوى سوى في الموت. في روايته الثالثة «شياطين وقديسون» (2021)، نقع على رجل يبلغ السبعين من عمره، ينتقل بين محطات القطارات وقاعات المطارات، كي يعزف الموسيقى على البيانو. كأنه يعزف للجميع وللأحد في الوقت عينه. ربما يعزف لنفسه فقط. وبين جلسات العزف يتذكر طفولته في دار الأيتام التي وضع فيها بعد أن توفيت عائلته بحادث تحطم طائرة. كل ما يرويه أندريا، هو عن هذا الطفل، الذي يبقى في داخلنا، الذي نريده أن ننقذه، ونحن نقترب من النهاية.

كلّ الشخصيات التي يصورها الكاتب، هي شخصيات «تالفة»، أو بالأحرى هي كائنات في انسجام تام مع عالم تنقلب فيه القيم. إنهم أشبه بأيتام أيتام الأهل والحب والإصغاء بحاجة إلى إعادة سرد حياتهم من أجل أن يحيكوا نسيجا وجوديا من الهروب والهجران والمأساة التي مزقتهم. لذا يتحول السرد ثوبا يغلفون به أرواحهم، نظاما واسعا من الأصداء يحول حيواتهم إلى حكاية شعرية تتشكل فيها اللقاءات وتنكشف على مدى عقود.

في «انتبه لها»، نجد أيضا هذا التجوال، هذا التناوب ما بين السيرة الذاتية للنحات ميمو فيتالياني (شخصية خيالية) وبين السرد بضمير الغائب الذي يأتي على شكل سيرة غير متوقعة؛ لأنه لا يروي حياة النحات بل سيرة عمله، سيرة تحفته. ومن خلال الحديث عن النحت، يستحضر الكاتب كل ما يشكل ثمن الحياة، بما في ذلك ظلالها وكواليسها.

بعد وفاة والديه، ذهب النحات في سن مبكرة ليعيش في بيت عمه في بيترا دالبا. في سن مبكرة بدا عليه الطموح في أن يصبح فنانا كبيرا، إذ بدأ يصارع «الرخام الزهري» ليلتقط «الوعود التي كان يقدمها له». هو حجر موجود في كل مكان في هذا «البلد ذي الارتفاعات والمصادر»، مثلما هو موجود في أحلام فيولا المتألقة، التي تشكل «توأمه الكوني»، وهي ابنة المركيز المقيم بجوار منزلهم. منها تعلّم التحدث إلى الموتى وصنع آلات طيران. طوال القرن العشرين، تتقاطع مساراتهما، ويفقد كل منهما الآخر ليعودا ويجدا بعضهما البعض من جديد. يغادر فيتالياني إلى فلورنسا، ثم إلى روما، لكنه يعود دائمًا إلى بيترا دالبا، حيث بدأ كل شيء.

مثل دروب هضبة بييمون الضيقة، «التي تغير مكانها كلما سرنا فوقها»، نجد مركز ثقل الرواية يتبدل، لا يتوقف عن الحركة أبدًا: إذ يبدأ من النهاية إذ يقول الراوي إن من ينظر إلى التمثال الذي نحته فيتالياني لا بدّ أن يُغمى عليه، لذا تمّ وضعه بداية في أحد الأديرة، لكنه صار مصدر كوابيس للرهبان، فيقرر الفاتيكان أن يضعه في مكان بعيد عن الأنظار.

يمكن لنا أن نقرأ الصفحات التي تصف منحوتات فيتالياني الأولى، وهو شاب، والتي أقسم كل من رآها أنها «كانت تتحرك من مكانها» وكأنها صفحات من رواية بوليسية أو بالأحرى أشبه بتلك الروايات التي تحدثت عن رحلة بعض المؤمنين بحثا عن الكأس المقدسة التي اختفت (الغرال، وهو عند المسيحيين الكأس الذي شرب منه المسيح قبل وفاته): كل سطر يجعلنا ندقق في كل إيماءة، بحثًا عن علامة تحذير ما. فجمال الرواية الكبير مرسوم، إذا جاز التعبير، في قالب الرسم، في جوف ما لم يحدث، مما لم يقال وهذا ما يمنحها عمقها البلوري: بالنسبة لفيتالياني، فإن النحت هو بمثابة «إزالة طبقات من التاريخ»، حتى الوصول إلى تلك التي «تهمنا جميعًا». فن النحت أيضا، بالنسبة إلى فيتالياني، لا يعني أن تُظهر عصفورا من لا شيء، بل يعني تحرير الطائر الذي كان يعيش في قلب الحجر. ليس لخلق كائن حي من الصفر، بل لإفساح المجال للسماح للحجر بالانبساط.

التمثال المدهش الذي نحته فيتالياني أيضا كان أيضًا رمزًا للمقاومة، إذ عمل على كتلة حجرية التي كان من المقرر في البداية استخدامها في عمل بتكليف من نظام موسوليني، قبل أن يفهم النحات خطأه ويقطع مع الفاشية. لذا نحن أيضا أمام رواية تتحدث عن الطغيان -السياسي والاجتماعي والجنساني الذي يشكل قطبا من أقطاب الكتاب المتعددة.

«انتبه لها» (انتبه للمنحوتة) رواية تُقرأ فعلا، وببساطة شديدة. على الأقل تمر صفحاتها الــ 600 (تقريبا) بدون أن تشعر بالملل.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

كربلاء والوعي الذي يُرعب الطغاة

 

 

• ما لنا ولكربلاء؟ ولماذا نُعيد ونكرر الحديث عن واقعة مرّ عليها أكثر من أربعة عشر قرناً؟ أليست مجرد قصة قديمة؟ ألا يجدر بنا أن ننشغل بحاضرنا؟!! …،
سؤالً كثيراً ما نسمعه يردد على ألسنة الكثيرين، وقد يلقى استحساناً عند البعض، دون أن يدركوا كنهه ولا المغزى منه.
هذا السؤال – في جوهره– ليس بريئاً كما يبدو… بل إنه دعوة خفية لطمس التاريخ، وتغييب الوعي، والتخلي عن أعظم درس في رفض الظلم ومقاومة الطغيان.
إنه امتداد لصوت الطغاة في كل عصر، حين يريدوننا أن ننسى كل ما يوقظ الشعوب ويفضح المستبدين.
• واقعة كربلاء ليست مجرد حدث عابر، بل صرخة أبدية أطلقها الحسين بن علي عليه السلام في وجه الطغيان والانحراف، حين تحوّل الحكم الإسلامي إلى ملك وراثي فاسد، وحين تحول الدين إلى أداة بيد السلطان …
لقد خرج الحسين، لا لطلب دنيا ولا جاه، بل كما قال في بيان ثورته: [ وإني لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا، ولا مُفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي.]
فهل يُعقل أن ندفن هذا الوعي وندّعي أن لا علاقة لنا به؟
وهل نُربي أبناءنا على رفض الظلم ونحن نصمت عن أعظم درس في رفضه؟
وهل يمكن لأي أمّة تسعى إلى نهضة حقيقية أن تطلب من أبنائها نسيان هذا الموقف الخالد؟!
إن الدعوة إلى نسيان كربلاء ليست حيادية كما يدّعي أصحابها، بل هي امتداد لنهج الطغاة الذين أرادوا طمسها منذ لحظة وقوعها. وهم اليوم – بربطات عنق حديثة ومصطلحات (عقلانية) – يكررون ذات الخطاب: {لا تفتحوا ملفات الفتنة} ، {لا تخوضوا في التاريخ}”، {لا تثيروا النعرات}، بينما هم يغرقون الحاضر والمستقبل في بحر من الفتن والانحراف.
بل ما يثير الأسى أن الذين يروجون لهذه الدعوات هم أنفسهم الذين صمتوا أمام طغاة العصر، وخضعوا لهم، وسلّموا لهم ثروات الأمة، وقرارها السيادي، ومستقبل وإرادة شعوبها على طبق من ذهب.
• يريدوننا أن ننسى الحسين لأن ذكر الحسين يفضح خنوعهم. يطلبون منا الصمت عن (كربلاء) لأن (كربلاء) تُدين صمتهم على (غزة)، وتكشف نفاقهم في مواجهة الاحتلال، وتُحرج ولاءهم للظالم.
• يريدون ديناً منزوعاً من روحه الثورية، ديناً بلا كربلاء، بلا صرخة، بلا تضحية…. ديناً يُستخدم لتخدير الشعوب وتسخيرها للطغاة، لا لتحريرها.
• لكن صوت الحسين عليه السلام، في وعينا، مازال يهتف: [ ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة].
• والأخطر من كل ذلك، أن من يطالبنا بطيّ صفحة كربلاء، يقطع الحبل الذي يربط الأمة بوعيها، ويمنعها من فهم ما هي فيه الآن.
إذ لو فهمنا كربلاء بحق لفهمنا لماذا وصلنا إلى هذا الواقع المظلم …، ولو وَعينا مغزى ثورة الحسين، لأدركنا أن ما نعيشه اليوم هو تكرار لذلك الانحراف، بأسماء جديدة وواجهات مصقولة.
• الحسين خرج يواجه التوريث والظلم والفساد وتزييف الدين والتسلط على رقاب الأمة باسم الطاعة … أليس هذا ما نراه اليوم؟
• فهم كربلاء لا يعني البكاء عليها، بل استلهامها كدروس لبناء وعي جديد وموقف أخلاقي صلب.
فكربلاء تعلّمنا أن الصمت جريمة، وأن المهادنة مع الباطل خيانة.. وأن الإصلاح لا يأتي دون تضحية ….. ومن يطلب منا نسيان الحسين يطلب منا – دون أن يقولها – أن ننسى أنفسنا، ونُسلم أرواحنا وأوطاننا وأطفالنا للطغيان، صامتين خانعين.
• كربلاء لا تموت، لأنها ليست ذكرى، بل مشروع دائم للنهضة والتحرر، يُبعث كلما حاولوا دفنه، ويكبر كلما حاولوا إسكات صوته.
• والحسين ليس قضية طائفة ولا مذهب، بل رمز إنساني إسلامي عالمي للحق والعدالة والكرامة والثورة في وجه الاستبداد …. وإحياء ذكراه ليس عودة إلى الماضي، بل تمسكٌ بالمبدأ الذي به يمكننا تقييم الحاضر من أجل بناء المستقبل.
فحين يُطلب منك أن تنسى كربلاء .. فاعلم أن هناك من يخاف أن تتذكر.
وحين يُقال لك إن الحسين قضية قديمة لا تخصك، فاعلم أن طغاة اليوم يرتجفون من وعيك إن فهمت لماذا خرج وضد من ولأجل ماذا !!!
كربلاء ليست قصة نُحييها كل عام، بل معيار نزن به واقعنا، ومرآة نكشف فيها زيف الحاكم، وضياع الدين وصمت الأمة.
وليس صدفة أن أكثر من يطالبونك بنسيان الحسين، هم الذين خضعوا لليزيد الجديد، وركعوا للمستبد، وسلّموا القرار والثروات والكرامة، ثم قالوا لك: دع التاريخ واهتم بحاضرك!
فمن لم يفهم ماضيه لن يفهم حاضره أصلاً… ومن لا يرى نفسه في صفوف الثائرين إلى جانب الحسين، فهو حتماً جزء من الحشود التي صفّقت ليزيد.

مقالات مشابهة

  • انتبه لهذه العلامات المبكرة.. فقد تكون تحذير لإصابتك بسرطان البنكرياس
  • سيروان الكوردي.. صانع النواعير الذي أعاد الحياة لسمفونية الفرات (صور)
  • دعوات لإعلان حالة الطوارئ الصحية في أمريكا .. ما الذي يجري ؟
  • كربلاء والوعي الذي يُرعب الطغاة
  • يناديها سالينتي .. من هي المرأة التي تفهم ترمب أكثر من نفسه؟
  • بين الهلال وفلومينيسي.. هذا الفريق الذي يستحق لقب الحصان الأسود في المونديال
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • إنقاذ 4 أشخاص كانوا على متن السفينة التي استهدفها الحوثيون
  • نعيم قاسم لم يكن يعلم أيضاً
  • الدبيخي: الأندية التي تم خصخصتها يجب عدم دعمها