لطالما كان للمستشرقين الأوروبيين دور مؤثر في فهم وتوثيق تاريخ وثقافة الشعوب الأفريقية، والتي غالبا ما شابها تحيزات استشراقية تركز على تصوير أفريقيا من زاوية تابعة للغرب. وفي هذا الحوار الخاص، مع البروفيسور كَبَا عمران، تفتح الجزيرة نت، نافذة على تاريخ معقّد ومتشابك بين الغرب الاستعماري وغرب أفريقيا، من خلال عدسة الاستشراق وأبعاده الثقافية والتعليمية والدينية.

والبروفيسور عمران، من جمهورية غينيا غرب أفريقيا، وُلِد عام 1968م، في آبدجان، في كوت ديفورا، يشغل منصب، عميد كلية الآداب وعلوم اللغة، ومدير برامج دكتوراه اللغة والحضارة العربية بجامعة الجنرال لانسانا كونتي، كوناكري، جمهورية غينيا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من قلب المركز إلى هامش العالم.. كيف تعيد الرأسمالية إنتاج الهيمنة؟list 2 of 2المفكر الماليزي عثمان بكار: الكونفوشية والإسلام يشتركان بالقيم الأخلاقيةend of list

نستكشف مع الباحث الغيني البارز في شؤون الهوية الأفريقية والعلاقات الثقافية بين أفريقيا والعالم العربي، بدايات الاستشراق الأوروبي في غرب القارة الأفريقية، وكيف تحوّل من مجرّد فضول أكاديمي إلى أداة سياسية وأيديولوجية استُخدمت في محاربة الإسلام، وتهميش اللغة العربية، التي كانت لقرون لغة علم وتعليم وثقافة في هذه المنطقة.

يرصد البروفيسور عمران، من خلال هذا الحوار، الأدوار التي لعبها المستشرقون في إعادة تشكيل الوعي الأفريقي بما يتماشى مع مصالح القوى الاستعمارية، ويقول: "كانت أهداف تقارير هؤلاء المستشرقين ومخططاتهم بعيدة المدى لتحقيق جميع أهدافهم القريبة والبعيدة، منها: السيطرة الكاملة على غرب القارة، سيطرة عسكرية، تليها سيطرة تعليمية بفتح مدارسها الفرنسية والإنجليزية، ثم يليها تنصير المناطق الوثنية، ثم مواجهة المناطق ذات الغالبية المسلمة".

ويتحدث عن مشاريع المستشرقين البحثية والتعليمية في إقصاء اللغة العربية من المنظومة التعليمية، إذ يؤكد: "تمّ توظيف بعض المستشرقين خصيصا لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة السمراء"، وعن محاولة المستشرقين فصل المجتمعات الأفريقية عن تراثها الديني والثقافي المرتبط بالإسلام.

إعلان

إذ يشير إلى أنهم "لما أخفقوا في قضائهم على الدين الإسلامي نصّروا الجماعات الوثنية، ومن والاهم من المسلمين واغترّوا بثقافتهم الأوروبية"، ويوضح بأن الأوروبيين "شوّهوا إسلامهم وأضلّوهم بالتغريب وسلخوهم من الاعتزاز بالإسلام إلى الاعتزاز بالحداثة الأوروبية".

ويؤكد البروفيسور كَبَا عمران في حديثه، أنّ تركيز المستشرقين على التعليم العربي كان يهدف إلى "عرقلة تقدم التعليم العربي لكي يتقدم التعليم الفرنسي بكل سهولة"، فإلى الحوار:

View this post on Instagram

A post shared by المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة (@dohaorientalism)

 

كيف يمكن أن تصف لنا بدايات الاستشراق في غرب أفريقيا؟ ومتى بدأ الاهتمام الأوروبي بهذه المنطقة؟

ظهرت بدايات الاستشراق في منطقة الغرب الأفريقي مع الاستعمار الأوروبي الذي خطّط إلى توظيف بعض المستشرقين المكتشفين لأغراض كثيرة خلال القرن الـ18 والـ19 الميلاديين. لأنّ إدارة الاستعمار بقيت على سواحل المحيط لأطلسي تتعامل مع المحليين بتجارة النخاسة، ولم تتجرّأ أن تتوغل داخل المدن، لذا فضّلت أن ترسل عيونا لها من المستشرقين الذين وقّعوا على اتفاقيات مسبقة قبل القيام برحلات ضحّوا بحياتهم لتحقيقها، لأن كثيرا منهم لقوا منيتهم فيها، واختفوا الآخرون فلم يعثر على آثارهم من شيء.

وبعد أن وقفت إدارة الاستعمار على حقيقة ما في داخل القارة من ثروات ومن خواطر، وما لها من شعوب وديانات، استعدت أن ترسل إليها جنودا لتحقيق سيطرتها الكاملة. وبعد الوقوف على تقارير هؤلاء المستشرقين وضعوا مخططات بعيدة المدى لتحقيق جميع أهدافهم القريبة والبعيدة، منها: السيطرة الكاملة: سيطرة عسكرية، تليها سيطرة تعليمية بفتح مدارسها الفرنسية والإنجليزية، ثم يليها تنصير المناطق الوثنية، ثم مواجهة المناطق ذات الغالبية المسلمة. ويمكن تحديد هذه البدايات بالقرن الـ17، واستمر الوضع على ذلك إلى منتصف القرن الـ19، الذي يعد عصر المقاومة الدموية ضد الاحتلال الأجنبي للمنطقة.

هل برأيكم، وظف الاستعمار الأوروبي، المستشرقين لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة؟

نعم، تمّ توظيف بعض المستشرقين خصيصا لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة السمراء، منهم البريطاني مونغو بارك، وبول مارتي. وذلك بعد ظهور خطورة المقاومة التعليمية الإسلامية ومقاومة الزعماء المسلمين في المنطقة: إنَّ الجبهة التي تصدّت للثقافة الأوروبية هي جبهة تكون من العلماء المستعربين والزعماء الصوفيين والمتعلمين بخلاف جبهة الملوك الوثنيين الذين كانوا معجبين بهم، في الوقت الذي يكفّرهم المسلمون ويلعنونهم، ويقولون إنهم أصحاب جهنم اعتمادا على أوصافهم السيئة الواردة في القرآن الكريم.

أما مقاومة الزعماء المسلمين فظهرت في جميع أقطار غرب أفريقيا: الشيخ مابا جخو، والملك لاتجو جوب في السنغال، والشيخ محمد الأمين درامي في مالي، والحاج عمر تال والإمام ساموري توري في غينيا، وغيرهم. الأمر الذي جعل المستعمرين يندفعون إلى معرفة هذه الجماعة الإسلامية في أفريقيا، لذا استطاع المستشرق "رينيه كايي" أن يعبر غرب القارة السمراء من شمالها المغربي إلى غربها وراء الصحراء، فعرف خلال ذلك امتداد الإسلام ورسوخه في الجماعات الإسلامية.

إعلان لماذا اتجه المستشرقون لدراسة الزوايا الصوفية، في غرب القارة الأفريقية؟

لأنّ أكثر الزعماء المقاومين للاحتلال الأجنبي من الشيوخ الصوفيين، لذا وجّهوا بعض المستشرقين لدراسة الزوايا الصوفية لمعرفة الأسباب العقدية لكراهية الاحتلال ولمعرفة نوايا بعض الشيوخ الصوفيين الذين اشتهروا بشعبيتهم وجماعتهم.

والجدير بالذكر أنّ هؤلاء الشيوخ كانوا محل ارتياب شديد، يتهمهم المستعمرون أنهم يبثون كراهية "الرجل الأبيض" في نفوس المواطنين، ويذكرون في مواعظهم أنّ "توباب الأوروبيين" (توباب Toubabou: لفظة محلية ومعناها الرجل الأبيض)، أسباب جميع الانحرافات الخلقية وتفشّي انحلال الأخلاق: خمر، ورقص، ودعارة، ونخاسة…، بل هم حزب الشيطان الرجيم.

هل كان الاهتمام الاستشراقي بغرب القارة الأفريقية نتيجة دوافع دينية، استعمارية، أم بحثية بحتة؟

الدوافع الاستعمارية هي أهمّ دوافع المستشرقين لمعرفة الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية، ولمعرفة مدى تجذّر الإسلام في المناطق المحتلة، لكي يعرفوا مدى إمكانيات تنصير المناطق الوثنية ومراقبة المناطق الإسلامية. كما بيّنت سابقا أنّ أهداف المستعمرين مخططة بإستراتيجية متوالية: الاستعمار العسكري السياسي، ثم الاستعمار الاقتصادي، ثم الاستعمار الثقافي التعليمي، ثم الاستعمار الديني، وينتهي كل ذلك إلى "استعمار سياسي كامل" كي يتحقق مشروع "جمهورية فرنسا ما وراء البحار" وقد تحقّق هذا المشروع مع "مايوت" (Mayotte) ومارتينك وغويانا الفرنسية.

لذا جاء الجنرال الفرنسي، شارل ديغول (1890-1970م)، بمشروع الاستفتاء خلال أواخر الخمسينيات من القرن الـ20، لتختار الدول الأفريقية الانضمام إلى مشروع جمهورية فرنسا ما وراء البحار أو الاستقلال التام، فاختارت غينيا الاستقلال التام في استفتاء 28 أغسطس/آب 1958 خلال انتخابات وطنية، فخرجت فرنسا من غينيا بجميع أدواتها وإداراتها ورجالها الإداريين وأساتذتها فبقيت غينيا يتيمة أو أرملة بدون أي معونة فقال الرئيس أحمد سيكو توري: "نفضل الحرية في الفقر على العبودية في الغنى".

ما الموضوعات التي ركز عليها المستشرقون الأوائل في دراساتهم عن غرب أفريقيا؟

الموضوعات التي ركّز عليها المستشرقون هي معرفة الجماعات القبلية العرقية ولهجاتها اللغوية، ومواطن الثروات المعدنية (كالذهب مثلا)، ومعرفة أديانهم الوثنية أو الإسلامية. وتدفعهم نتيجة ذلك كله إلى وضع مخطّطات إستراتيجية للاستفادة من أحوال تلكم المناطق.

ويمكن تصنيف هؤلاء المستشرقين إلى أصناف: من اهتموا بجميع ما يتعلق بالمنطقة من ثروات معدنية وحيوانية وزراعية، ومن أخبار عن الممالك والجماعات، ومن مجموعات لغوية ودينية، ومن مناطق سلمية وذات خطورة على الاحتلال الأجنبي. لذا خلّف كل مستشرق دراسات إخبارية عن مشاهداته ولقاءاته الميدانية، وما جمع من تراث عربي إسلامي.

هل كان تركيزهم منصبا على التاريخ المحلي، أو على البيئة الاجتماعية والسياسية، أم على الدين والثقافة؟

أوّل ما يركزون عليه هو أخبار السلطة المحلية السياسية للقضاء عليها، ثم البيئة الاجتماعية لإثبات وجودهم المحلي. وبعد ذلك يولون اهتمامهم بالدين فينصّرون الجماعات الوثنية ويتعاملون بسكان المناطق الإسلامية بالمبادلات التجارية: الرقيق والقطن والذهب والمحصولات الزراعية.

لا اهتمام لهم بالتاريخ الأفريقي القديم، ولكن عنايتهم بوضعية الأفارقة في مناطقهم أكبر، ثم يصفون بمشاهداتهم كل ما تقع عليه عيونهم من أخبار بيئية، وهي ما زالت موجودة في "الأراشيف الوطنية" لمعظم بلدان غرب أفريقيا.

فلما أخفقوا في قضائهم على الدين الإسلامي نصّروا الجماعات الوثنية، وأما من والاهم من المسلمين واغترّوا بثقافتهم الأوروبية فإن الأوروبيين شوّهوا إسلامهم وأضلّوهم بالتغريب وسلخوهم من الاعتزاز بالإسلام إلى الاعتزاز بالحداثة الأوروبية.

تمّ توظيف بعض المستشرقين خصيصا لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة السمراء، منهم البريطاني مونغو بارك، وبول مارتي (شترستوك) من الملاحظ أنّ كثيرا من المستشرقين أولوا اهتماما خاصا باللغة العربية والدين الإسلامي في غرب أفريقيا، برأيكم لماذا هذا التركيز؟ إعلان

بعد تمكّن المستعمرين من الغلبة العسكرية اتّجهوا إلى الاستعمار الثقافي، فوجدوه في ذلك صعوبة منكرة في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية، لذا اتّخذوا قرارات صارمة لوضع عراقيل أمام المؤسسات التعليمية العربية، ومن هنا تم توظيف بعض المستشرقين لدراسة المراكز العلمية والزوايا الصوفية.

لم يكن هناك اهتمام بالغ؛ فرأوا أن التركيز على التعليم الغربي سيجعلهم يعرقلون تقدم التعليم العربي لكي يتقدم التعليم الفرنسي بكل سهولة. ثم اهتموا بمخرجات المدارس الفرنسية أو الإنجليزية لتوظيفهم في إداراتهم الاستعمارية، وهم الذين خلّفوهم في إدارات الحكومات الأفريقية، فانقلب فضل المجتمع الأفريقي رأسا على عقب، فصار الفضل لخريجي التعليم الأوروبي أكبر وأعظم من مكانة المتعلمين المستعربين في المجتمعات الأفريقية. وما زال الوضع على ذلك مستمرا إلى يومنا هذا.

هل كان هذا الاهتمام بالأساس لفهم طبيعة المجتمعات، أم لفهم دور الإسلام كقوة ثقافية فاعلة؟

كان هذا الاهتمام مؤسَّسا على هذين الغرضين: لمعرفة طبيعة المجتمعات لأغراض اقتصادية وسياسية، ولفهم مدى رسوخ الإسلام في المناطق التي يحتمل منها اندلاع الثورات الشعبية ضدّ الوجود الأجنبي. وساعدهم على فهم طبيعة المجتمعات هؤلاء الأفارقة الذين استعبدوهم وكانوا عملاء لهم.

أضف إلى ذلك بعض الأمراء الأفارقة الذين يتاجرون في النخاسة مع المستعمرين، وكان المستشرقون يجعلون هؤلاء الأمراء وأولئك الأفارقة المستعبدين وساطة لهم لمعرفة طبيعة المجتمعات الأفريقية.

أَمَّا الغرض الثاني لفهم دور الإسلام في رسوخ الكراهية المحلية لدى السكان المسلمين، فهو أنهم كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة الأسباب العقدية والأحوال الدينية التي تدفع هؤلاء المسلمين إلى التصدي أمام الثقافة الأوروبية.

كيف واجهت المجتمعات الإسلامية في غرب أفريقيا هذه النظرة الاستشراقية؟

استسلمت المجتمعات الإسلامية لهذه النظرة الاستشراقية تحت الرقابة الاستعمارية العسكرية، بل يمكن أن نعدّ هؤلاء المستشرقين جواسيس وعيون المستعمرين المحتلين. والجدير بالذكر أنّ كثيرا من سواد المجتمع لم يفقهوا خطورة هؤلاء المستشرقين، بل لم يعرفوا إذا كانوا يقومون بدراسات حول مناطقهم، غير أن بعض العلماء تنبّهوا إلى أعمالهم الاستشراقية، واستشرفوا مخاطر جمة منهم، لذا تخوّفوا منهم فحذّروا ذويهم من اقترابهم، ولكنهم اضطروا لاستقبالهم تحت رقابة الإدارة الاستعمارية.

لذا واجهتهم جبهات المقاومة المسلّحة كما ذكرنا آنفا، وتصدّت جبهات سلمية أخرى لعناية بالغة بالتعليم العربي الإسلامي مضادا للتعليم العلماني الأوروبي، وقد أخفق أولئك الزعماء المسلحون فقبض عليهم أو قتلوا أو نفوا، ولكن جبهات التعليم العربي الإسلامي نجح جلّ زعمائها في إنشاء المدارس والزوايا، التي تحوّلت إلى مدارس نظامية حديثة، فتطور التعليم العربي في بعض البلدان إلى دراسات جامعية فتخطى مرحلة الليسانس إلى مرحلتي الماجستير والدكتوراه.

كتاب "الإسلام الأسود" لفيسان مونتيل يرصد الإسلام في غرب أفريقيا بمنظور أنثروبولوجي، ولكن رغم ذلك يحتاج لقراءة نقدية (الجزيرة) برأيكم، هل قدَّم المستشرقون إسهامات علمية ذات قيمة لدراسة تاريخ وثقافة غرب أفريقيا؟ أم أن كتاباتهم كانت مشوبة بالتحيزات الاستعمارية؟

رغم ما وراء كتاباتهم من نوايا سيئة إلا أنّ بعضها تعدّ مؤلفات رائدة عن تاريخ المنطقة، لأنها وصفت بأوصاف مشاهدة العيون، وعُرفت جغرافية الجماعات اللغوية وتحركاتها في المنطقة، ومختلف الممالك المحلية.

واستطاع هؤلاء المستشرقون أن يصوّروا هؤلاء الشيوخ بالصور الشمسية التي يستفيد منها الباحثون الأفارقة الآن: فصور الحاج مالك سي في السنغال، وكران سنكن في غينيا، من أعمال بول مارتي الذي أفرد لمعظم دول أفريقيا الغربية دراسة الإسلام فيها. أضف إلى ذلك أنّ كتاباتهم تعدّ باكورة دراسات حديثة عن المنطقة إبان عصر عويص، كما يستفيد الباحثون من منهجياتهم في كتابة التاريخ الأفريقي والحديث عن المجموعات اللغوية.

هل هناك مستشرقون تميزوا بالموضوعية في تناولهم للثقافة الإسلامية في غرب أفريقيا؟

نعم، يمكن أن نقول إن موضوعيتهم لم تبلغ درجتها 100%، ولكنها تتراوح ما بين 70% و80% إلى حدّ بعيد. وخاصة عند "موريس ديلافوس" (Maurice Delafosse) الذي عُني باللغات الأفريقية وجذورها ولهجاتها، وفيسان مونتيل الذي له كتاب "الإسلام الأسود".

إعلان

ومهما يكن من أمر، فإنّ أي كتاب يقرؤه الباحث ينبغي أن يتأمل فيه بقراءة نقدية: إذا أصاب المؤلف فيأخذ منه مزيدا من الحق، وإذا وقف على انحرافات فكرية فيعلن عنها ليتخوّف منهم القراء اللاحقون.

كيف تنظرون اليوم إلى الدراسات الغربية الحديثة حول الإسلام في أفريقيا؟ وهل تطورت عن النظرة الاستشراقية الكلاسيكية؟

هناك دراسات غربية حديثة حول الإسلام في أفريقيا وحول اللغات المحلية وحول التقاليد البيئية في أفريقيا، وذلك في الأطاريح الجامعية، أو في مقالاتهم العلمية المنشورة في الدوريات العلمية الجامعية أو في أبحاث المراكز الدراسية.

ونجد اتجاها جديدا من الموضوعية لدى الباحثين الأفريقيين الأوروبيين، الذين ظلوا متخصصين بدراسات أفريقيّة، منهم سياسيون توظفهم الحكومات الأوروبية، ومنهم صحافيون توظفهم القنوات الدولية، ومنهم اقتصاديون توظفهم مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنهم رياضيون توظفهم وكالات النوادي الرياضية الدولية، ومنهم جامعيون توظفهم المراكز البحثية الجامعية بأوروبا.

هل هناك حوار علمي حقيقي بين الباحثين الأفارقة والمستشرقين في هذا المجال؟

هناك حوار علمي حقيقي على صعيد المؤتمرات والندوات العلمية، وبين الطلبة الأفارقة وبين بعض المستشرقين الذين يشرفون عليهم في أطروحاتهم الجامعية.

وفي كل شهر يتم تنظيم لقاءات علمية كثيرة في أفريقيا وفي أوروبا: ندوات علمية في الجامعات، ومؤتمرات دولية تنظمها مختلف الوزارات، وطاولات ثقافية تشرف عليها منظمات ثقافية دولية، ودورات تدريبية تقوم بها مؤسسات إقليمية وعالمية.

هذه هي الأصعدة التي تتم فيها محاورات علمية حقيقية بين المثقفين الأفارقة والباحثين الأوروبيين المتخصصين في الشؤون الأفريقية.

كان مؤتمر الاستشراق فرصة للتحدث عن الاستشراق الأفريقي أمام جمهور لم يكن لهم سابق العلم به (المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة) لماذا استمر اهتمام المستشرقين الأوروبيين، بعد استقلال الدول الأفريقية، والبحث عن الإسلام وحضارته في جامعاتهم ومراكزهم البحثية؟

ما زال اهتمام المستشرقين بالبحث عن الإسلام مستمرا، لأنهم يريدون أن يحققوا العولمة الثقافية في المجتمعات الأفريقية، والثقافة الإسلامية هي التي تتصدى لهم.

فنجد منظمات دولية في أفريقيا، بعضها من فروع أجهزة الأمم المتحدة: كـ"اليونيسيف" (UNICEF)، و"يونسكو" (UNESCO)، و"بنود" (PNUD)، و"أوئم" (OIM)، وبعضها منظمات علمانية أو يهودية كمنظمة "بلان" (PLAN)، وكلها تستعين بالباحثين الأوروبيين المتخصصين في الشؤون الأفريقية لتحقيق أهدافهم التربوية والتثقيفية والبحثية.

ما أبرز التحديات التي تواجه اليوم اللغة العربية والإسلام في غرب أفريقيا؟

قضية "تعليم اللغة العربية وسوق العمل" من أهم المعضلات والتحديات الاجتماعية في أفريقيا. وكون اللغات الأوروبية لغات رسمية لمعظم البلدان الأفريقية يعدّ من التحديات التي تواجه تطوّر اللغة العربية في القارة السمراء. أضف إلى ذلك أنّ التراث الإسلامي العربي الأفريقي في خطر كبير إذا لم تنقذها أيدي المنظمات الإسلامية الدولية.

وهناك تحديات أخرى للبحث العلمي في أفريقيا: إذ إن معظم المشاريع العلمية والبحثية في العالم العربي لا يهتمون بإحياء التراث الإسلامي الأفريقي ولا بإنتاج علماء المنطقة، ولا بنشر أطاريح الباحثين الأفارقة بخلاف إنتاجات الباحثين الأفارقة في اللغات الأوروبية ولهم جوائز تشجيعية قيمة.

وكذلك الإعلام العربي لا يعنى بأفريقيا ولا بالتراث الإسلامي فيها ولا بالمثقفين الأفارقة المستعربين بخلاف وسائل الإعلام الغربي الذي يتّخذ من الأفارقة الصحافيين من يمثلهم، ومن يستجوبونه في قضايا أفريقية.

أنت شاركت في مؤتمر الاستشراق الدولي المنعقد بالدوحة في أبريل/نيسان الماضي، ماذا تقول عن المؤتمر باعتباره النسخة الأولى في المنطقة؟

كان هذا المؤتمر مبادرة طيبة من المنظمين، ويعد منصة جديدة لدى الباحثين، وفرصة طيبة للمشاهدين. ويمكن القول إنه كان فرصة لنتحدث عن الاستشراق الأفريقي أمام جمهور لم يكن له سابق العلم به، وأن تنشر نتيجة هذا البحث على صعيد دولي لأول مرة.

ولا شك أنّ العالم العربي سيعرف أنّ لهم إخوة في أفريقيا حريصين على لغة الضاد، وقد ضحّوا بحياتهم لنشر هذه اللغة التي تشدُّ أواصر الوحدة والتضامن بين إخوة هذه الأمة الإسلامية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات فكر المجتمعات الأفریقیة فی غرب أفریقیا اللغة العربیة فی أفریقیا الإسلام فی

إقرأ أيضاً:

مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة لإفريقيا.. ، ، !!

مدخل إلى القارة الجريحة

إفريقيا، التي وُصفت طويلًا بأنها "القارة السوداء"، لم تكن يومًا مظلمة إلا في عيون الطامعين. منذ مؤتمر برلين 1884 - 1885 قُسمت كما يُقسم الإرث بين ورثة بلا رحمة، ثم ورثتها أنظمة هشة تتأرجح بين الاستعمار القديم والهيمنة الجديدة.

اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على رحيل عبد الناصر ومعمر القذافي، وبعد تحولات مصر عقب اتفاقية كامب ديفيد، تجد إفريقيا نفسها أمام مفترق جديد: مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة للقارة. ليست مجرد خطوط على ورق، بل محاولة لرسم هوية ووعي جديدين، وربما استعادة مكانة ضائعة في النظام الدولي.

رحيل الزعماء وغياب المشروع

برحيل عبد الناصر عام 1970 فقدت القارة صوتًا كان يرى إفريقيا امتدادًا طبيعيًا لمصر وللعالم العربي. دعوته إلى منظمة الوحدة الإفريقية لم تكن خطوة سياسية فحسب، بل رؤية لربط المصير العربي بالإفريقي في مواجهة الاستعمار الجديد.

ثم جاء رحيل القذافي عام 2011 ليترك فراغًا آخر. الرجل الذي أنفق من خزائن ليبيا على مشروعات الوحدة الإفريقية، وحلم "الولايات المتحدة الإفريقية"، غاب وترك القارة عرضة للاختراقات.

منذ ذلك الوقت تراجعت جسور التواصل العربي - الإفريقي، ولم تبق سوى خيوط هشة. حتى جنوب إفريقيا، التي عاشت حقبة التمييز العنصري، وجدت نفسها في زمن ما أقرب إلى إسرائيل قبل أن تتغير المعادلة مع سقوط الأبارتهايد.

جنوب إفريقيا: من دولة منبوذة إلى صوت أخلاقي

المفارقة أن الدولة التي عانت من الفصل العنصري، هي اليوم الأكثر جرأة في مواجهة إسرائيل داخل مجلس الأمن، متهمة إياها بتطبيق نموذج أبارتهايد جديد على الشعب الفلسطيني.

جنوب إفريقيا لم تعد مجرد لاعب إقليمي، بل أصبحت ضميرًا عالميًا يذكّر بأن من تذوق مرارة العنصرية لا يقبل بتكرارها. في كل مداخلة دبلوماسية لوفودها بالأمم المتحدة، تحضر صورة مانديلا كرمز حيّ، كأن صوته لم ينقطع.

التوغل الإسرائيلي في القارة بعد كامب ديفيد

بتوقيع مصر اتفاقية السلام عام 1979 فقدت إفريقيا إحدى ركائزها في مواجهة المشروع الصهيوني. إسرائيل، التي كانت معزولة دبلوماسيًا بفضل الجبهة العربية - الإفريقية، وجدت الباب مفتوحًا للعودة.

في إثيوبيا: دعمت أنظمة متعاقبة، وتوغلت عبر ملف "الفلاشا" والتعاون العسكري.

في أوغندا وكينيا: قدمت نفسها كحليف أمني ضد الإرهاب، بخبرة استخباراتية واسعة.

في غرب إفريقيا: اخترقت عبر الزراعة والتكنولوجيا والماس.

في الساحل والصحراء: نشطت شركاتها الأمنية الخاصة تحت شعار "مكافحة الإرهاب".

إسرائيل فهمت أن القارة ليست مجرد أسواق ومناجم وسدود، بل أيضًا ساحة أصوات بالأمم المتحدة. ومن يملك القارة يملك كتلة تصويتية يمكن أن تشرعن أو تعزل.

الاتحاد الإفريقي وخريطة الهوية الجديدة

منذ تأسيس الاتحاد الإفريقي عام 2002 خلفًا لمنظمة الوحدة، تسعى القارة لإعادة إنتاج ذاتها. لكن مبادرة اعتماد خريطة جديدة تعكس أبعادًا أعمق:

الاعتراف بالحدود القائمة لتقليل النزاعات.

صياغة سردية إفريقية موحدة أمام العالم.

إعلان أن القارة لم تعد تابعًا، بل لاعبًا يجب أن يُحسب حسابه.

إنها ليست خرائط لكتب مدرسية، بل جغرافيا للذاكرة والهوية. فمن لا يرسم حدوده بيده، سيرسمها الآخرون له كما فعل الأوروبيون من قبل.

إفريقيا: جسد يبحث عن روح

-- التاريخ يكشف أن القارة كانت دومًا جسدًا ممزقًا يبحث عن روح موحدة. استعمار ونهب وتقسيم حدودي جعلها كمن يعيش في "غرفة مرايا" لا يرى صورته الحقيقية.

اليوم، مع مبادرة الخريطة، تقول إفريقيا: "هذه صورتي الحقيقية، لا كما رسمتموني."

لكن السؤال: هل تكفي الخريطة لإحياء الجسد دون مشروع اقتصادي وسياسي جامع؟

الجيوسياسة الجديدة: إفريقيا بين القوى الكبرى

إفريقيا اليوم مسرح للحرب الباردة الجديدة:

الصين عبر "الحزام والطريق" تستثمر في الموانئ والسكك الحديدية.

روسيا تعود عبر صفقات السلاح و"فاغنر".

أمريكا تحاول موازنة النفوذ الصيني والروسي عبر قواعد ومساعدات.

إسرائيل تسعى لرسوخ نفوذها في المياه والأمن والغذاء.

--مبادرة الخريطة إذن ليست جغرافيا فحسب، بل إعادة تعريف للذات وسط تنافس القوى الكبرى.

فلسطين وإفريقيا: ذاكرة مشتركة

-- في زمن عبد الناصر كانت إفريقيا ترى في فلسطين مرآتها: شعب يرزح تحت استعمار، ويسعى للتحرر. لكن مع التحولات الدولية تراجعت القضية في وعي الكثيرين.

اليوم يأتي صوت جنوب إفريقيا ليذكّر: فلسطين ليست قضية عرب فقط، بل اختبار إنساني عالمي. ومن هنا كان موقفها في مجلس الأمن إعلانًا للهوية أكثر من كونه سياسة خارجية.

--الخريطة كفلسفة وجود

الخريطة ليست خطوطًا، بل فلسفة وجود.حين ترسم إفريقيا خريطتها بنفسها، تعلن أنها لم تعد فراغًا في خرائط الآخرين. لكن التحدي يبقى: كيف تتحول الفلسفة إلى مشروع واقعي؟ اتحاد اقتصادي، تعاون أمني، موقف موحد تجاه الشرق الأوسط، وخاصة تجاه إسرائيل.

نحو صحوة إفريقية جديدة

مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة ليست قرارًا إداريًا، بل دعوة لإفريقيا أن تستعيد روحها بعد غياب زعمائها الكبار وبعد اختراقها من قوى الخارج.

قد تكون جنوب إفريقيا نموذجًا، حين واجهت إسرائيل في مجلس الأمن، بأن القارة قادرة أن تكون صوتًا أخلاقيًا لا يُشترى.

لكن يبقى السؤال: هل تستطيع إفريقيا أن تتحول من ساحة صراع إلى فاعل رئيسي؟ وهل ستكون الخريطة بداية وعي جديد أم مجرد شكل بلا مضمون؟

العلاقات العربية - الإفريقية: عودة إلى الجذور

-- المستقبل يفرض إعادة صياغة العلاقة العربية - الإفريقية على قاعدة المصالح المشتركة. الأمن المائي في نهر النيل، أمن البحر الأحمر، تجارة البحر المتوسط، والهجرة، كلها ملفات لا يمكن معالجتها إلا بشراكة صادقة.

على العرب أن يستعيدوا ما فقدوه بعد كامب ديفيد ورحيل عبد الناصر والقذافي، عبر مشروع حقيقي يعيد وصل ما انقطع. فإفريقيا ليست مجرد عمق جغرافي، بل عمق تاريخي وثقافي، وبدونها يبقى العالم العربي معزولًا في مواجهة التحديات الكبرى.. .!!

--- محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ---

مقالات مشابهة

  • رئيس الدولة يستقبل البروفيسور حميد الشامسي
  • العربي الإسلامي يرعى إحتفالية وزارة التربية والتعليم بيوم المعلم العالمي 2025
  • البرلمان العربي : حريصون على تفعيل التعاون مع البرلمان التشادي وتشاد تمثل جسرًا مهمًا لتعزيز العلاقات العربية الأفريقية
  • مبادرة الاتحاد الإفريقي لاعتماد خريطة جديدة لإفريقيا.. ، ، !!
  • المنتخبات العربية تقترب من حلم مونديال 2026.. بمشاركة قياسية
  • إيمان كريم تشارك في مؤتمر الملتقى الاقتصادي العربي الأفريقي والتعاون الدولي بالقاهرة
  • نائبة وزيرة التضامن تشهد فعاليات الملتقى التحضيري لقمة الاستثمار العربي الأفريقي والتعاون الدولي تحت شعار “معا نستطيع”
  • وزير الخارجية يلتقي المندوب الدائم لجنوب أفريقيا لدى اليونسكو والرئيس الحالي للمجموعة الأفريقية
  • سواحل القارة الأفريقية باتت الأشد تأثرا بموجات الحر البحرية
  • هل يرسم البيان العربي الإسلامي خارطة طريق للمفاوضات ويدعم الموقف الفلسطيني؟