ضمن مجريات الحرب النفسية، يتحدث أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن "اصطياد البط"، في إشارة إلى سقوط عدد كبير من قتلى جنود الاحتلال، لكن المصطلح يبدو شديد الدلالة على الاستنزاف الكبير لإسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا. إذ لم تستطع تحقيق أهداف على الأرض للرد على الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها منذ يوم "طوفان الأقصى".

فبعد نحو شهرين ونصف الشهر، لا تزال إسرائيل تتخبط سياسيا وميدانيا في قطاع غزة بين جنوبه وشماله، وتتلقى خسائر فادحة، وفي المقابل تصب توابع "هزيمتها الإستراتيجية" على مدينة غزة وسكانها، حيث استشهد أكثر من 19 ألف مدني جراء وحشية غير مسبوقة، لكن الحروب وفق المفاهيم العسكرية لا تحسم فقط بالقتل والتدمير.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4رقم هاتف السنوار وحرب الصورة والدعاية الإسرائيلية الفاشلة.. الملثم يكسب المعركةlist 2 of 4هل تستطيع أميركا وإسرائيل استبدال حكم حماس في غزة؟list 3 of 4لوتان: مقتل المحتجزين الثلاثة يلقي ظلالا من الشك على العملية البرية بغزةlist 4 of 4200 شهيد على الأقل بغزة ومجزرة جديدة في الشفاءend of list

وتشير صحيفة "وول ستريت جورنال" في تقرير لها إلى أن "الخسائر الإسرائيلية الأخيرة في ساحة المعركة في غزة تظهر أن الهدف الشامل للجيش الإسرائيلي لا يزال بعيد المنال".

ورأت الصحيفة أن ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين في النطاق الحضري والبري في قطاع غزة حتى في شمال القطاع "يشير إلى تحول في تكتيكات الحرب العسكرية"، ونقلت عن المسؤول السابق في الموساد شالوم بن حنان قوله "في الأوساط العسكرية والأمنية بدأ البعض يشكك في الإستراتيجية".

من جهتها، تشير صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية في تقرير لها إلى أن المعارك لا تنتهي في شمال غزة، كما أن مدينة رفح ودير البلح والتفاح والنصيرات والبريج لم يصلها الجيش الإسرائيلي بعد، "وكل ذلك يدفع الجيش للاستنتاج بأن نهاية الحرب بعيدة شهورا كثيرة، وأن كل إعلان عن قرب الحسم ضد حماس، وبالتأكيد تدميرها، هو إعلان منفصل عن الواقع ووهم".

مئات الجنود الإسرائيليين سقطوا قتلى في المعارك بقطاع غزة (الجزيرة) سقوف عالية وأهداف إستراتيجية خائبة

كان "الرد الإستراتيجي" لإسرائيل على مجريات يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مدفوعا بإعادة الاعتبار للكثير من الأساطير التي هدمت والتي بنت عليها تفوقها على مستوى قوة الجيش والسلاح والتطور العلمي والتكنولوجي، وبناء على ذلك تمثلت الأهداف السياسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة في ما يلي:

تدمير المقاومة وسحق حركة حماس وقتل قادتها أو القبض عليهم. تحرير الأسرى بالقوة العسكرية أو بالشروط الإسرائيلية. وقف استهداف غلاف غزة والمدن الإسرائيلية بالصواريخ والمسيرات. تدمير الأنفاق وسلاح المقاومة وجعل غزة خالية من السلاح. إعادة احتلال غزة كليا أو جزئيا. تقرير مستقبل غزة بما يتناسب مع أمن إسرائيل. إنهاء فكرة المقاومة في غزة وتفكيك بنيتها. تهجير الغزيين.

وفي المقابل، كانت المقاومة وحركة حماس في غزة تدرك، بفعل إنجاز يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الباهر وأسر 240 من الجنود والضباط والمستوطنين، حجم الورقة التي بين يديها وتضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار، وفك الحصار، وتحرير جميع المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال. كانت تدرك أيضا أن دخول إسرائيل إلى القطاع سيكون ورطة كبيرة للجيش الإسرائيلي ستعزز الهزيمة الإستراتيجية التي منيت بها.

وبذلك تعد مقولة "اصطياد البط"، التي تحدث عنها أبو عبيدة، تلخيصا للإستراتيجية العامة للمقاومة التي ترتكز على الصمود في الميدان، واستنزاف الجيش الإسرائيلي، وتكبيده خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وفضح ممارساته الوحشية، والضغط على المجتمع الإسرائيلي نفسيا وسياسيا بورقة الأسرى والقتلى، والانفتاح بالمقابل على أي هدنة أو وقف لإطلاق النار وإطلاق الأسرى والمحتجزين بالشروط المناسبة.

تدرك المقاومة أيضا أن إسرائيل ليست مستعدة للحروب الطويلة والخسائر الكبيرة والتعبئة العامة المستمرة، وليست مستعدة أيضا لحروب الشوارع والمواجهات المباشرة، إذ تقوم نظريتها الأمنية بالأساس على الحروب الخاطفة والاستباقية، كما أن أساليبها الوحشية أصبحت أكثر رفضا وإدانة من المجتمع الدولي.

ويقول جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز السياسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن في مقال بمجلة "ذا نيشن":

"إن حماس تسعى إلى استخدام قوة إسرائيل الكبرى بكثير لهزيمة إسرائيل نفسها، إن قوة إسرائيل تسمح لها بقتل المدنيين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية الفلسطينية وتحدي الدعوات العالمية لضبط النفس، وكل هذه الأمور تعزز أهداف حماس على المدى الطويل"

بواسطة جون ألترمان

إسرائيل خسرت مئات الآليات خلال توغلها في غزة (مواقع التواصل) الواقع الميداني استنزاف بلا نتائج

وفقا للمعطيات التي نشرها الجيش الإسرائيلي على موقعه حتى يوم الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بلغ عدد القتلى 445 عسكريا، بينهم 119 ضابطا من مختلف الرتب (5 برتبة عقيد و8 برتبة مقدم و43 برتبة رائد) وينتمي 60 من القتلى إلى فرق النخبة.

وتؤكد المقاومة على لسان المتحدث الرسمي لكتائب القسام أن عدد القتلى أكبر بكثير مما يعلنه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وترجح المقاطع المنشورة عن الحرب وما ينشره الإعلام الإسرائيلي ذلك، وكذلك ما يرصد من قتلى وجرحى في المستشفيات، حيث أفادت صحيفة "هآرتس" بأن عدد الجرحى في المستشفيات الإسرائيلية بلغ حتى 12 ديسمبر/كانون الأول الحالي 4591 جريحا.

ويرى خبراء عسكريون أن الخسائر الحقيقية للجيش الإسرائيلي قد تصل إلى عشرة أضعاف الأعداد المصرح بها رسميا بناء على متابعات ميدانية لأطوار الحرب ووقائعها اليومية.

كما تشير التقديرات إلى أن الجيش الإسرائيلي فقد مئات الآليات من مختلف الأنواع، من بينها أكثر 90 دبابة ميركافا التي تعد فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية، مما يمثل نحو 20% من ترسانة إسرائيل من هذه الدبابات. وقد أوقفت تل أبيب فعليا بيعها لبعض الدول، بينها قبرص، وفق موقع "آفيا برو".

وتظهر العمليات الميدانية أن شوارع غزة وبناياتها وركامها تحولت إلى متاهة معقدة وأفخاخ مميتة للجيش الإسرائيلي، في حين تطبق المقاومة تكتيكاتها القتالية التي توعدت بها جيش الاحتلال، وتستخدم مخزونها من الأسلحة ومعرفتها بالميدان وشبكة الأنفاق المعقدة لاستنزاف إسرائيل بشكل يومي، في وقت يزداد فيه التوتر والتخبط الإسرائيلي، ويرتفع معه عدد القتلى بالنيران الصديقة بمن فيهم الأسرى.

وفي  المقابل ما زالت المقاومة وحركة حماس محافظة على بنيتها العسكرية والتنظيمية كاملة، وقدرتها على الضبط والربط والسيطرة، والمباغتة والآداء القتالي بالوتيرة والتنويع نفسيهما في العمليات القتالية، وبقيت محتفظة بقوتها الصاروخية، وتواصل قصف العمق الإسرائيلي حتى من داخل المناطق التي أعلنت إسرائيل السيطرة عليها.

كما أن المقاومة ما زالت تحتفظ بالأسرى والمحتجزين، وخصوصا العسكريين والضباط منهم، كورقة أساسية للضغط العسكري والسياسي والنفسي على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي. وتعززت أيضا بيئتها الحاضنة والمؤيدة في قطاع غزة والضفة الغربية على عكس ما كانت تخطط له إسرائيل، وفق آخر استطلاعات الرأي.

وفي المحصلة، تظهر خيبة "الرد الإستراتيجي" الإسرائيلي، إذ لم ينجز جيشها أي أهداف عسكرية أو سياسية حاسمة، فتوغل قوات الاحتلال في غزة كان منتظرا بحكم عدم توازن القوى، وقصفها الوحشي للمرافق كان منتظرا بحكم انفلاتها من كل قانون دولي إنساني، ولم تحقق إلا التدمير الوحشي وارتكاب الجرائم وقتل آلاف المدنيين، غالبيتهم أطفال ونساء، وبات البحث عن حل لإيقاف النزيف أقرب لاعتبارات عديدة من بينها:

الخسائر العسكرية الهائة غير المحسوبة، وسقوط نظرية الحسم الميداني. فقدان الهيبة العسكرية والآداء القتالي المتواضع على الأرض. تراكم الخسائر الاقتصادية التي بلغت أكثر من 51 مليار دولار. الشرخ العميق في المجتمع الإسرائيلي، وتزايد حركة النزوح والهجرة والفرار. تعمق الأزمة السياسية الداخلية بما ينذر بتوتر داخلي شديد. استمرار تآكل ثقة الإسرائيليين في الجيش والأجهزة الأمنية. انقلاب الرأي العام العالمي على السرديات الإسرائيلية. تغير المواقف الدولية من الحرب على قطاع غزة، والمطالبة بوقفها. فشل مخططات التهجير، ورفض المجتمع الدولي مختلف السيناريوهات الإسرائيلية المماثلة. التخوف من حرب متعددة الجبهات وفي ساحات مختلفة. الفشل في كسر إرادة المقاومة، والتأكد من قدرتها على الصمود واستعدادها للقتال لمدة طويلة بأسلوب الهجمات والغارات المفاجئة والفخاخ والتفجير والقنص.

وتشبه مجلة "ذا نيشن" في تقرير لها عن الحرب في قطاع غزة ونتائجها الراهنة بما حصل مع الولايات المتحدة في حرب فيتنام، مستحضرة مقولة وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر عام 1969 "لقد خضنا حربا عسكرية وخاض خصومنا معركة سياسية، سعينا للاستنزاف الجسدي، وسعوا إلى إنهاكنا النفسي، وتبعا لذلك فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".

بنيامين نتنياهو  يواجه معارضة وانتقادات شديدة في إدارة ملف الحرب والأسرى (رويترز) مأزق الخروج وحل الهدنة

تجد إسرائيل نفسها في مأزق عسكري وسياسي واقتصادي وأخلاقي، مع صورة تزداد تشوها لدى المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، وضغوط دولية تشتد لوقف الحرب، وجبهات أخرى تتحفز، وقد ازدادت الورطة بعد رفض تمديد الهدنة الإنسانية والإصرار على توسيع المعركة البرية نحو وسط وجنوب قطاع غزة.

ويرى محللون أن مضي جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب بوتيرة الخسائر الحالية، واستعداد المقاومة للقتال لأشهر، لن يمكنا إسرائيل من تحقيق الأهداف الإستراتيجية، كما أن القبول بوقفها سيتسبب في آثار كارثية عليها، سياسيا وعسكريا وأمنيا.

ويشير الكاتب يوسي ميلمان، في مقال بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، إلى أن الحرب في قطاع غزة تتحول إلى حرب استنزاف طويلة قائلا:

"إنّ خطر الغرق في وحل شتاء غزّة، بالمعنى الحرفي والمجازي، يصبح أكثر بروزا عندما لا يكون من الواضح على الإطلاق ما هي الأهداف الحقيقية والواقعية للحرب، وما إذا كان من الممكن تحقيقها بالفعل"

بواسطة الكاتب يوسي ميلمان

في حروبها السابقة، وضعت إسرائيل سقوفا عالية لحملتها العسكرية، لكنها تراجعت عنها تحت وطأة الخسائر العسكرية واستحالة تحقيقها. ففي حرب يوليو/تموز 2006 مع حزب الله، وضعت أهدافا تتمثل في تدمير التنظيم ونزع سلاحه، وتحرير جنديين أسيرين، وبناء منظومة أمنية جديدة في المنطقة، وشنت حملة تدمير واسعة على جنوب لبنان، في حين كانت مطالب حزب الله تتمثل في وقف إطلاق النار وإطلاق سراح جميع الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية.

واضطرت إسرائيل بعد 34 يوما تكبدت فيها خسائر كبيرة إلى وقف القتال، وشرعت في مفاوضات غير مباشرة أدت إلى إطلاق سراح كل الأسرى اللبنانيين في سجونها، ولم تحقق أيا من الأهداف الأخرى. وفي حروبها التالية على غزة (2008 و2014) فشلت أيضا في تحقيق أهدافها، واضطرت إلى وقف حملاتها أو الانسحاب بلا نتائج تذكر.

قضية الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة تشكل ضغطا كبيرا على نتنياهو وحكومته (غيتي)

تشير التقديرات والوقائع الميدانية إلى أنه بات من الواضح لبنيامين نتنياهو وحكومته أن المضي في الحرب لمدة أطول لن يتيح ظروفا عسكرية وسياسية أفضل لتحقيق أي أهداف، بل سيفاقم المأزق الإستراتيجي، وبالتالي فإن إطلاق ما بقي من الأسرى لدى حماس والمقاومة في غزة -وهم يمثلون الكتلة الأهم- لن يتم إلا عبر مفاوضات، تستوجب تقديم تنازلات "مؤلمة"، والقبول بشروط المقاومة للتبادل، وسيكون الهدف تحسين هذه الشروط بما يخفف من وقع الهزيمة الإستراتيجية.

وفي هذا السياق، يرى المحلل الخاص بالشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل (يوم 14 ديسمبر/كانون الأول الحالي) أن الأهداف الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة مرتبكة، قائلا إن "رغبة الجيش الإسرائيلي في إلحاق مزيد من الضرر بحركة حماس تتناقض مع جهود تأمين صفقة لإطلاق سراح الأسرى".

وتترافق الخسائر الكبيرة في الميدان مع ارتباك في الأهداف، وحيرة في سبل الخروج من المأزق، وضغوط داخلية وخارجية لوقف الحرب، وصورة تتلطخ بالمجازر يوميا، وإصرار من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تحقيق حد أدنى من الإنجاز خوفا من مصير سلفه إيهود أولمرت بعد حرب 2006.

يدرك نتنياهو أن وقف الحرب أيضا ستكون له أيضا تداعيات كارثية على مستقبله السياسي، وقد تقوده إلى المحاكمة والسجن كما يطالب معارضوه، كما ستكون له آثار خطيرة على بنية المجتمع الإسرائيلي عسكريا وسياسيا وأمنيا، لكن التقاط فرصة للخروج من الورطة والقبول بمبادرة هدنة طويلة أو دائمة وإطلاق الأسرى في ظل التحركات الدولية الجارية سيمثل المسار الأقل تكلفة للنزول من أعلى الشجرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المجتمع الإسرائیلی للجیش الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی فی قطاع غزة عدد القتلى کما أن إلى أن فی غزة

إقرأ أيضاً:

من أفشل قمة بغداد

آخر تحديث: 21 ماي 2025 - 10:08 صبقلم: فاروق يوسف فشلت قمة بغداد ومرت كما لو أنها لم تُعقد. فلا القادة العرب حضروا ولا صدرت عنها قرارات هامة ولا تابعتها وسائل الإعلام العربية والعالمية بما يليق بقمة تُعقد في ظرف تاريخي حساس. على الأقل في ظل استمرار إسرائيل في حرب الإبادة الشرسة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من أهل غزة فيما مُحي الجزء الأكبر من القطاع. حتى إن العراقيين قد اعترفوا بأنفسهم بفشل تلك القمة التي راهنوا عليها نقطة انطلاق جديدة لعاصمة بلادهم في استعادة مكانتها بين المدن العربية الأساسية. ولم يكن ذلك الاعتراف مصحوبا بمراجعة الأسباب التي هي من صنعهم بقدر ما جاء لتوجيه اللوم إلى الآخرين الذين أفشلوا القمة من وجهة نظرهم. غير أن التسريبات تؤكد أن فشل القمة أحدث شرخا عميقا في علاقة الحكومة ممثلة برئيسها بباقي أعضاء قيادة تحالف الإطار التنسيقي الحاكم في ظل تدهور تلك العلاقة استعدادا للانتخابات المقبلة التي ستُجرى في أكتوبر القادم. وإذا ما كانت القمة قد فتحت شهية الميليشيات الموالية لإيران لفتح ملفات الرئيس السوري يوم كان يتخذ من “أبومحمد الجولاني” اسما حركيا أثناء قيادته لجبهة النصرة التي اتضح أنها كانت فاعلة في العراق فإن العراقيين لم يهتموا بالقمة بقدر اهتمامهم بأخبار المنازعات القانونية التي تتعلق بسيادة بلادهم على جزء من مياهها الإقليمية في خور عبدالله بالبصرة الذي تنوي الحكومة تسليمه إلى الكويت فيما أصدرت المحكمة الاتحادية قرارا بعدم دستورية ذلك الإجراء الذي ينتقص من السيادة الوطنية. بين الجولاني وخور عبدالله كان صدى القمة ضعيفا على مستوى الشارع العراقي. هناك مَن طالب بإلقاء القبض على الرئيس السوري ما إن تطأ قدماه الأراضي العراقية وتقديمه إلى المحاكمة بتهمة ارتكابه جرائم في حق العراقيين.من المستغرب أن ينتسب المطالبون بمحاكمة الشرع إلى تحالف الإطار التنسيقي الذي تنتسب إليه الحكومة التي وجهت إلى الرئيس السوري الدعوة لحضور القمة.

أما خور عبدالله وهو الممر المائي الأخير للعراق على الخليج العربي فإن الأصوات التي تنادي ببقائه عراقيا وعدم التخلي عنه قد قويت شوكتها بعد صدور قرار المحكمة الاتحادية الذي يسعى رئيس الحكومة محمد شياع السوداني إلى نقضه وقد كان حاضرا في حفلة التوقيع على “بيعه” في الكويت عام 2013 بحضور نوري المالكي الذي كان رئيسا للحكومة يومها.

كان هناك إذاً في استقبال القمة مشكلتان عراقيتان. واحدة مع سوريا وأخرى مع الكويت. ولا أظن أن القمة كانت على استعداد للوقوف عند واحدة منهما على الرغم من أنهما تشيران إلى مناطق حساسة في المزاج السياسي العراقي وفي العلاقات العربية – العربية. المفارقة تكمن في أن منتقدي الظاهرتين يثيرون مسألة وقوف إيران وراءهما. فالرئيس السوري أحمد الشرع يمثل بالنسبة إلى إيران هزيمتها في سوريا فهو البديل لبشار الأسد حليفها الذي تم ترحيله عن دمشق بعد أن تم إعلامها بذلك. أما الكويتيون فإنهم يعتقدون بأن إيران تحرّض الشارع العراقي الواقع تحت ضغطها الإعلامي الطائفي في اتجاه رفض الاتفاقية التي وقعها من الجانب العراقي هادي العامري يوم كان وزيرا للنقل وهو زعيم فيلق بدر وأكثر أتباعها إخلاصا لا لأنه يحمل جنسيتها فحسب، بل وأيضا لأنه قاتل إلى جانبها في حرب الثماني سنوات ضد العراق. كان من شأن الصخب العراقي أن يعلو على صوت القمة العربية التي حتى لو انعقدت على مستوى رفيع فإن دولتين عربيتين كان متوقعا أن لا تحضراها هما سوريا والكويت. ذلك لا يعد انتصارا للعراقيين، لأن معركتهم الحقيقية ليست ضد سوريا أو الكويت بل ضد حكومة بلادهم. كما أن مسألة عدم إتاحة الحضور بالنسبة إلى الرئيس السوري ليست مهمة مقارنة بمصير قطعة من العراق التاريخي، جرى التخلي عنها من غير استفتاء شعبي. لم ترغب إيران في أن يتوقف الأمر عند هذه الدرجة من تعكر المزاج الشعبي بل ارتجلت حدثا كان واضحا أن الهدف منه إيصال رسالة مسبقة إلى القادة العرب تؤكد من خلالها أنها لا تزال مهيمنة على العراق حين أرسلت قبل القمة بأيام زعيم فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد وأوعزت لوزير الداخلية السابق ومستشار مجلس الأمن القومي الحالي قاسم الأعرجي الذي هو عضو في منظمة بدر التي تأسست في إيران بنشر خبر وصور الزيارة. قد لا يكون رئيس الحكومة العراقية الذي كان يأمل من نجاح القمة الكثير من جهة دعمه في الانتخابات على علم بها، وحتى لو علم بها فإنه غير قادر على منعها أو الطلب من إيران تأجيلها إلى ما بعد انعقاد القمة.    في ظل تلك الوقائع المبرمجة تبخرت كل آمال رئيس الحكومة العراقية ولم يحضر القادة العرب. الأمر الذي دفع أمير قطر إلى مغادرة بغداد قبل موعد إلقاء كلمته. فهل يعني ذلك أن إيران هي التي أفشلت القمة؟ ذلك حكم ناقص. فلو لم يكن هناك استعداد عراقي لإفشال القمة لمرت زيارة قاآني كما لو أنها لم تحدث. وكما يبدو فإن التحالف الحاكم المدعوم من إيران قد ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال إفشال القمة. أولا قضى على الفرصة الأخيرة لعودة العراق إلى محيطه العربي وثانيا نجح في تعزيز قوته ضد رئيس الحكومة من أجل حرمانه من الفوز بولاية ثانية.

مقالات مشابهة

  • إصابة قائد دبابة في جيش الاحتلال الإسرائيلي بجروح بالغة بغزة
  • حصري.. الحوثيون يحذرون من كسر الحظر على إسرائيل ويتوعدون برد عسكري
  • خبير عسكري: هجمات الحوثيين تؤكد أنهم لم يفقدوا قدراتهم العسكرية
  • زعيم المعارضة الإسرائيلية: نتنياهو كاذب ويقود إسرائيل نحو احتلال طويل لغزة
  • خبير عسكري فلسطيني: القرار اليمني يفرض معادلات جديدة في المنطقة ويربك حسابات العدو الإسرائيلي
  • خبير عسكري: 3 عوامل دفعت إسرائيل تاريخيا لإيقاف حروبها
  • من أفشل قمة بغداد
  • الفلك في خدمة الحرب.. تسخير العلوم السماوية في النزاعات العسكرية
  • الحكومة البريطانية تستدعي السفيرة الإسرائيلية تسيبي حوتوفلي بشأن توسيع العمليات العسكرية في غزة
  • بريطانيا تستدعي السفيرة الإسرائيلية في لندن بسبب العمليات العسكرية في غزة