لماذا يريدون اغتيال طارق بن زياد؟
تاريخ النشر: 14th, July 2023 GMT
يبدو أن التشكيك بالوجود التاريخي لعدد من الأيقونات الإسلامية قد أضحى رياضة فكرية محبذة لايمكن أن يخطأها المرء لدى الكاتب المؤرخ يوسف زيدان و لعل آخر هذه الشخصيات التي أراد أن يغتالها مؤخرا، بل و أن يعدمها في موطنها الأصلي حيث تفتقت موهبتها القيادية كانت شخصية القائد المحنك طارق بن زياد، حيث لم يستطع زيدان أن يستوعب بداية في مداخلته “الجهبيذة” التي القاها امام جمهور مغربي كيف أمكن لأمازيغي أن يرتجل تلك الخطبة الحماسية البليغة العصماء الشهيرة بكونها من عيون الخطب ليلهب بها حماس الفاتحين المغاربة، وهم على وشك الشروع في معركة دخول الأندلس، ليمر الى التشكيك في نسبتها إليه معتبرا أنها من المزور البديع، وذلك قبل ان تأخذه الحماسة بانقياد الجمع له واطمئنانه له لتسلسل افكاره ،و ينتقل الى السرعة القصوى منكرا وجود هذه الشخصية من الأصل، كأنه لم يسمع أو لم ير من طنجة عروس الشمال المغربي جبل طارق الذي يحمل اسم هذا الفاتح العظيم منذ حط فيه مع رجاله اول مرة .
عادة يفيدني شغفي الشديد بالتاريخ أن اتبين مسارات بعض النقاشات التاريخية ، لكنه لا يسعفني البتة في فهم منهج يوسف زيدان لما ينبعث لنفي صفة البطولة عن عدد من الشخصيات الإسلامية،و قد كان أبرزها قطز وبيبرس وصلاح الدين ثم طارق بن زياد الآن . و إذ كنت غالبا ما لا أماحكه في نفسي كثيرا في تناول ونقده الشخصيات المشرقية،إلا أنني لا أستطيع الآن إلا أن أستغرب كيف يحذف بجرة لسان تاريخا معروفا متواترا عن طارق بم زياد فقط لأن عقله هو لم يستسغه، كأنما التاريخ قد صار من العلوم الحقة الرياضية التي يمكن أن ينتهي فيها يوسف زيدان إلى اليقين بكل هذه الثقة الغريبة في النفس كلما استطاع بناء متوالية او سردية أخرى تبدو له منطقية وممكنة ..
صحيح بالفعل مايردده دائما أنه ينبغي إعمال العقل في الخبر كما قد قال ابن خلدون ،ولكن إعمال العقل لايكون بهذه الصرامة كأننا أمام معادلات حسابية سمجة باردة ،فالوقائع لها سيرها الخاص، و هي تجرى وفق الشكل الذي قد حدثت به بالفعل ، لأنه أحيانا تكون هناك مصادفات قد لايتصورها العقل ولكنها قد جرت بالفعل وصنعت صلب التاريخ .
إني أسأله إذن لماذا في رأيه لا يقدر طارق بن زياد على ارتجاز خطبة بذاك المستوى من البلاغة ،وقد كان حينها شابا أو كهلا قد جاوز مرحلة الشباب ،رجلا مسلما قرأ القرآن بلاشك واختلط بالعرب الفاتحين في حياته الخاصة والعسكرية ؟ .أليس بعض من يهاجرون من بلداننا الآن يتعلمون اللغات الأجنبية في سنوات قليلة ويحاضرون ويحصلون بها أعلى الشهادات؟؟ ،أو لم يتقن المستشرقون لغتنا العربية بكل يسر وسلاسة؟؟. ألا يقر هو نفسه أن أغلب الأعلام الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية إنما هم من أعراق غير عربية ،ولكنهم ابدعوا في إطار الحضارة العربية وكتبوا وخطبوا وابدعوا بالعربية .
ثم هل يظن يوسف زيدان أن طارق خطب على الحشد العسكري الذي كان بآلاف الأمازيغ( 7000مقاتل ) مستعملا مكبر الصوت كما فعل هو في ندوته بطنجة؟. ألا تكون تلك الخطبة قد تمت ضمن دائرة ضيقة جدا تشكلت من صفوة القادة العسكريين المحيطين به والذين من المحتمل ،بل من المؤكد أنهم كانوا يعرفون العربية حسن المعرفة ،ثم تناقل معناها عنهم عامة الجند باللغة الأمازيغية ؟؟. ألا يخطر ببال يوسف زيدان مثلا أن يكون طارق في نفس الآن عسكريا عبقريا وخطيبا مفوها وصاحب مواهب بلاغية لافتة، لأنه قائد استثنائي والقيادة هي عبارة عن تجمع مواهب متعددة؟
ألا يكون طارق بن زياد مثلا قد عهد بإعداد هذه الخطبة لأحد فطاحلة اللغة العربية من العرب أوالأمازيغ ممن ساروا في ركابه خلال حملته، وأنه إن فعل ذلك ،فإن ذلك أمر لا يشكك في نسبة الخطبة إليه ، لأنه هو من وجه بها، ولأنه قائد ومسير ذاك الفتح .ألا يوافقنا مفكرنا يوسف زيدان أن عددا من قادة ورؤساء العالم يقرأون خطبا يعدها لهم معاونوهم، ومع ذلك تبقى الخطب خطبهم لا خطب المعاونيين مهما انفق فيها هؤلاء من جهد ووقت ؟؟.
إن جيشا من الأمازيغ يفتح الأندلس في ظرف وجيز على قدوم الإسلام لبلاد المغرب ليبين بجلاء أن العرب قدموا فاتحين لاغزاة مستعمرين، وأن الامازيغ دخلوا في الإسلام وتمثلوه كل التمثل في وقت قياسي ربما لايفوق الزمن الذي استغرقه النبي الكريم في نشر دعوته بشبه الجزيرة العربية ،لا بل وسعوا إلى حمل رايته و نشره بأوروبا. ولو كان الأمر غير ذلك لغرقوا في أعمال المقاومة ضد ” المعتدين” وما عبروا للضفة الأخرى فاتحين.وطارق يمثل رمزا لهذا الانصهار العربي الامازيغي الذي شكل اللحمة المغربية ،ولذلك هو غير عزيز على الشكاكين المتعصبين فيسعون إلى اغتياله.
إن ما استنكره زيدان في الخطبة من ورود لفظ الحور الحسان من بنات اليونان ،يجعلنا نسر له اننا لانملك أن نحاكم ذاك العصر بقيم اليوم وعبارات اليوم فلكل زمن عباراته المسكوكة، وإلا فإنا سنكون غير علميين ولا منصفين ،و شخصيا لست أرى في ذلك التعبير اي دليل على عدم صدقية الخطبة ،بل أراه مجرد اجتهاد بلاغي ،وحتى إن جارينا يوسف زيدان في اعتبار هذه العبارات مقحمة ولا محل لها،أننكر أن الخطبة بشرية كغيرها من الخطب ، وأنه من الممكن أن تتضمن أيضا بعض شطحات القول، وأن وصولها لنا هكذا يدل على أنها لم تخضع للتنقيح فبالأحرى أن تكون منحولة لاحقة على زمن طارق .
كذلك نعلن أن ليس في سيرة طارق بن زياد ما يجعلها مفرخة للدواعش كما ذهب الروائي والمفكر يوسف زيدان ، فالرجل قد خاض حربا أو فتحا مما كان مألوفا خوضه في زمانه ،بل هو مثال للناجحين من أبناء الأمة الإسلامية الذين حققوا لها الأمجاد والانتصارات الزاهية.واذا كان هناك لبس في أصله العربي أو الامازيغي المغربي أو الجزائري أو حتى الفارسي ، فذلك بسبب ان الكل ادعى لنفسه هذا الفاتح العظيم من قواد بني أمية الذي هو في الحقيقة ملك لنا جميعا مشرقا ومغربا.
إن طارق بن زياد ابن بيئته وابن زمانه ،و هو قد كان عظيما بكل المقاييس ، فغريب اذن أن يسعى بعض المتحذلقين أو المتطرفين من الحقوقيين اومن المحققين إلى إنكاره أو التبرؤ من إنجازه الباهر الذي قد كان اللبنة الأولى في نشوء حضارة الأندلس الرائعة التي شكلت لقاء الشرق بالغرب، ومثلت تجربة بشرية ملهمة لانظير لها في التاريخ باعتراف الكل ، يقترفون ذلك من خلال تحكيم معايير حقوقية لم تستقر عليها الإنسانية الا أخيرا، وياليتها كانت معايير تطبق على مستوى النظام الدولي الذي تقوده الدول الكبرى، و التي نعرف دون شك انها إنما تحتكم للقوة والسلاح .
طارق بن زياد كان بدوره من نتاج قوة الدفع التي جاء بها الوحي المحمدي والتي شملت شعوب شتى انصهرت جميعها في تلك الدفقة الكبرى.
خطأ البعض أنهم يقرأون التاريخ بخلفية نقص، وبشعور غير واع بالتبعية تجاه الغالب الذي ليس الا الغرب، .فيصطنعون سردية جديدة توافق اهواء هذا الغرب الذي تظهر الان واضحة مراميه نحو فرض نموذجه الثقافي على الجميع دون اعتبار للهويات الأخرى، ناسين أنه تسبب في مقتل أكثر من 70 مليون بينما قد فتح ابن العاص مصر ب 3000 آلاف جندي، وطارق الأندلس ب 7000 امازيغي فقط .
هناك من المحللين من لايتقن السفر عبر الزمن ،ولا يستطيع تقمص سياقات الأحداث و العصر الذي يناقش فيه بعض سير بعض الاعلام فينتهي بمنهجه الشكي لنتائج غريبة ومثيرة لكن غير صحيحة .
أعتقد أن معرفة الحقيقة التاريخية بشكل جازم كما جرت واقعيا غير ممكنة بتاتا الا اذا عدنا القهقري جميعا إلى الوراء وتفرجنا مثلا على حملة طارق عيانا وهذا مستحيل الآن ،وربما قد يكون ممكنا غدا .
لذلك أظن أنه لا داعي لنبش أو تقويض تاريخ معين لنا حين يكون محكيا أو معدا بطريقة تخدم مستقبلنا وأحلامنا. وانا شخصيا لا أرى ضيرا إن سقطنا قليلا في الأسطرة أو حتى في الخرافة المفيدة التي تساعد على الاعتداد بتاريخنا .ليس هذا تزويرا وإنما هو تحفيز للشعوب كي تحيى وتنهض من جديد، واستنهاض كذلك للهمم ببناء النماذج والقدوات.
من المؤكد أن طارق بن زياد كان بشرا له حياته الخاصة، وكانت له أخطاؤه وخططه ومناواراته البلاغية والخطابية والعسكرية ، ولربما يكون قد أوهم جنده بإحراق السفن أو أنه أحرق عينة منها فقط أو قد احرقها كلها، فما الغريب في ذلك ؟؟. هو قاعد الجيش ،وهو الادرى حينها بمعنويات جنده ،والاجدر بمعرفة افضل الطرق لتحميسهم على الاستماتة في القتال بما فيها اشدها راديكالية ومغامرة .كل هذه الأمور والمعطيات لانستطيع النفاذ اليها بالتدقيق. ولذلك يسارع بعض مثقفينا العرب إلى استغلال بعض المتشابهات للترويج لثقافة الانكار من خلال نفي التاريخ او نقضه او تشويهه او تحريفه او تقزيمه وهذه حيلة نفسية دفاعية للدعوة لموقف أو لفكرة أو لتيار معين .وفي هذه الحالة بالضبط لجأ زيدان إلى نفي وجود طارق بناء على مغالطات صورية شكلية ،فهو لم يصل للحقيقة التاريخية بتفكيره الموضوعي فتصور حقيقة معاكسة تلائم رغبته هو وتتفق ودافعه النفسي ،وبالتالي هو استخدم تأويلات افتراضية ضاربا عرض الحائط بشواهد مادية كلها تؤكد وجود طارق بن زياد كذلك ارتكب يوسف زيدان خطيىة التنميط في حق طارق حيثىنمطه في صورة الامازيغي الذي لايمكن أن يحسن العربية إلى ذاك الحد المبهر.انه باستخدام هذا المنطق الشكلي الصوري يمكن لزيدان أن ينفي وجود أشخاص كالخليل بن أحمد الفراهيدي واضع بحور الشعر العربي وابن سبويه واضع قواعد اللغة العربية نفسها وقد كانا غير عربيين ولو جاريناه في هواه لانتهينا نهاية عدمية صفرية. لذا دعونا نقول لمن يطلبون جلد طارق بن زياد بأن طارق الفيزيقي ذاك مات وانتهى، ومن يعيش بيننا الآن هو طارق التاريخي العابر إلينا عبر القرون ،طارق الأيقونة، طارق المثال الذي شغفت به الأمة الإسلامية ايما شغف . وهو أيضا طارق الذي صغناه بوجداننا واستيهاماتنا ورغباتنا، طارق الذي يذكرنا أننا كنا يوما رقما صعبا في الركح الدولي . طارق الذي لن نسمح باغتياله تدليسا وتلفيقا .
إن دور الفكر أن يمجد الأعلام التي تحيى في وجدان الشعوب لا ان يقتلها قتلا رحيما او عنيفا ،و خصوصا حين تكون صورتها بهية رائقة في نفوس تلك الشعوب.
إن شخصية طارق بن زياد تؤرق بعض العاملين على بعض الأجندات من الذين يحنقون عليه بالخصوص كونه أمازيغي لاعقدة نفسية له مع العربية شكل النموذج رائعا للتراكم الحضاري الذي شيدت على أساسه الهوية المغربية ، لذلك ،ولأجل هذه الصفات الجامعة في شخصيته ،سيظل طارق بن زياد بطلا على الدوام في عيوننا، .ودليلا ساطعا على انتماء البلدان المغاربية الأمازيغية إلى الهوية العربية الإسلامية أالتي هي هوية ثقافية لا إثنية أ حب من أحب وكره من كره.
المصدر: اليوم 24
إقرأ أيضاً:
شعبان يوسف: الروائي داخلي انتصر عليَّ وأنا في السبعين!
بعد عددٍ كبير من الدواوين والكتب الفكرية والسيرية والأرشيفية جرَّب الكاتب المصري شعبان يوسف كتابة الرواية لأول مرة، وهو في السبعين من عمره، وأصدر باكورة إنتاجه فيها بعنوان "عودة سيد الأحمر"، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة له فهو بدأ فعلاً في كتابة الجزء الثاني لها!
في تلك الرواية الممتعة يقترب، في ثلاثة أيام فقط، هي زمنها، من أشخاص شديدي العادية، ليرينا حجم انكسارهم وألمهم بعد هزيمة 67 وتنحي عبد الناصر، ثم عودة الروح إليهم مع عودة الزعيم عن قراره. صنع سيد الأحمر بطل الرواية أسطورته الخاصة، فبمجرد أن وصلته أنباء الهزيمة هرول بغضب وذهول وحطم سوراً بجسده ثم اختفى تماماً عن الأنظار، ليبدأ الجميع في البحث عنه. هنا يتحدث شعبان يوسف عن روايته وبطلها سيد الأحمر وبطلتها تغيانة وعشرات البسطاء مثلهما في منطقة عين شمس.
تعيدنا الرواية إلى الأفكار الكبرى التي كانت تتميز بها روايات جيل الستينيات، إذ يعاني الأبطال من فاجعة نكسة 67 مع شعور حاد بالخوف ثم استعادة الأمل مع عودة ناصر عن تنحيه.. ما تعليقك؟
نعم. هذا ما عشته، ورأيته، عاش الناس حالات من الفزع اليومي دون أن يكون لديهم أي وعي سياسي بما يحدث حولهم، فقط بيانات سياسية في الراديو، ومقالات تحليلية طويلة في الصحف تقرأها فئات قليلة من المجتمع آنذاك، ذلك المجتمع جمع بين الطالب الجامعي، والمثقف، والمتمرد، وبطلي سيد الذي جاء من أقصى الجنوب لكي يبحث عن خلاصه المادي ويتزوج ويؤسس أسرة سوية، لكنَّ اختفاءه أصبح دليلاً على رعب عاشته أسرة متوسطة الدخل في ضاحية عشوائية، تجمع بين عمال وفلاحين وصنايعية وموظفين. وقتها انحصرت أدوات الفهم في الإذاعة، وبعض الصحف، وما يتناقله الطلبة، لذلك كان هناك خوف هائل وصل ذروته في يونيو 1967.
الرواية من زاويةٍ تدور حول قصة حب سيد الزنباعي "سيد الأحمر"، وتغيانة، وكيف ترك بلده في جنوب مصر وذهب إلى القاهرة بحثاً عن المال لكي يكمل به حلم الزواج من الحبيبة.. لكنها من زاوية أخرى رواية عن الطريقة التي يتآزر بها الناس ويجتمعون على قلب رجل واحد في المصائب الكبرى.. أيهما كان سابقاً للآخر في تفكيرك وأنت تجهز للكتابة؟
حالات التآزر بين المصريين قائمة وموجودة طوال الوقت بشكل طبيعي، ولكنه تآزر كامن، ومستتر، وتتجلى مظاهره في الساعات الحرجة. ومن الممكن أن يشعر المرء بغضب ما تجاه شخص آخر، لكن في لحظات الفرح والسعادة تجد الخصم هو أول الراقصين في فرح جاره، أما في حالات المرض يتكاتف الناس بشكل أكثر مسؤولية، وتختلف أشكال التآزر من حالة إلى أخرى، وسنجد أن الناس الذين عملوا على إغضاب سيد، هم أنفسهم مَن ذهبوا لتوديعه في حشد جماعي مهيب، كنت أراه كثيراً في قريتنا النائية، وكل واحد من هؤلاء، راح يقدم ما يملك من عون وجمل مفعمة بالمودة التي كانت مستترة، وظهرت في لحظة وداعهم له، وهذه عادة مصرية شديدة الخصوصية، خاصة في القرى.
تنتهي الرواية بمشهد مؤثر، يعود فيه سيد الأحمر من اختفائه المباغت ويعود فيه الرئيس عبد الناصر عن قراره بالتنحي.. هل أردت أن يصبح الموقفان مرآة لبعضهما؟
بالطبع أردت أن تكون عودة سيد الزنباعي، متقاطعة بعودة جمال عبد الناصر، وتكون عودة سيد بعد معاناة شاقة منذ وقوع الهزيمة في 5 يونيو 1967، حتى 9 يونيو، يوم خطاب تنحي الزعيم، وكان لا بد أن تكون العودة مزدوجة، فمعاناة سيد، هي جزء من معاناة البلد، حتى لو اختلف شكل تلك المأساة التي تشبه المآسي الإغريقية القدرية، حيث لا يملك الانسان فيها أي شيء، عن مأساة الزعيم التي صنعتها أقدار سياسية واجتماعية وتآمرية معقدة، وانعكست على ذلك المواطن الغلبان فخرج للتكاتف ومطالبة القائد والزعيم والأب بأن يعود لكي يستمر في تنفيذ وعده لهم. إنها لحظة درامية كانت ضرورة شبه حتمية في ختام الرواية.
النساء في الرواية قويات جداً وعلى رأسهن خالة سيد الأحمر.. هل هي محاولة منك لتقديمهن بعيداً عن الصورة النمطية لهن في مجمتع الذكور؟
صورة النساء في روايتي، هي حقيقة في قريتنا، وفي أسرتنا على وجه الخصوص، النساء اللاتي يقدن كثيراً من المشاهد والأحداث، كنت أرى دائماً عمتي حليمة تجلس في مجلس الرجال، تأمر وتنهي في كثير من أحداث تخص الزواج والطلاق وبيع الأراضي، والخلافات العائلية البسيطة والمعقدة، وأحياناً كثيرة كان صوتها يعلو كل الأصوات المجتمعة، ويستقبل الجميع رأيها برضا تام، وبعض الابتسام، ويقول أحد الكبراء في العائلة: "ما دام الحاجة حليمة شايفة كده، يبقى خلاص"، وتتم الموافقة على كل ما تراه كأن ما قالته يصلح لخارطة طريق، وهذا يعود إلى أن الرجل كان منشغلاً بأكل العيش، والكدح من أجل الأولاد غالبية الوقت، والمرأة كانت ملمة بما يجري في المنزل والعائلة والحارة بشكل دقيق، وكذلك كنت أرى أبي يذهب إلى عمله صباحاً، ويعود عصراً، يأكل ما تختاره أمي. يتوضأ وينام، ثم يخرج إلى المسجد لكي يصلي المغرب، ولا يعود إلى البيت إلا بعد صلاة العشاء، ويتركها تأخذ كثيراً من القرارات في غيباته المتكررة. سلطة عمتي حليمة تجلَّت في شكل يتسم بقدر من العنف والهيمنة، أما هيمنة أمي فأخذت أشكالاً ناعمة، ورضخ لها أبي سعيداً، حيث رآها تملك رجاحة عقل نادرة، واعتبرها رمانة ميزان البيت وضابطة كل إيقاعاته.
من ملامح الرواية قدرتها على تحويل تفاصيل بسيطة وصغيرة إلى مشاهد أسطورية، ومنها مشهد هرولة سيد الأحمر بعد سماعه نبأ الهزيمة وتحطيمه لسورٍ ثم اختفائه تماماً.. هل ترى أن الواقع قد يكون ساحراً أكثر من الأساطير الخيالية؟
بالفعل كانت هناك مشاهد صغيرة حدثت، وعندما أتذكرها الآن، أكتشف أنها كانت مشاهد أسطورية، هي مشاهد حدثت بالفعل، ولكن بشكل طبيعي، وربما كان أهمها مشهد سيد الأحمر حين سمع دوي القنابل في السماء، وحركة الطائرات المجنونة، فأصيب مثل غيره بالهلع والجنون وقرر التحرك من تلقاء نفسه وظنه الناس اختفى بلا رجعة، لقد حدث ما حدث له للناس جميعاً ولكن بأشكال مختلفة، فآنذاك خرج أهل الحارة لكي يجدوا تفسيراً.
الأجواء كانت شبه مهيأة بقوة لحدث آخر، وذلك من منتصف مايو 1967، ثم غلق خليج العقبة، فقد بدأت الأغاني الحماسية تغرق الإذاعة المصرية، والمانشيتات القوية تتصدر الصحف، والعبارات الحماسية تعلو جدران الحارة، وقد صوَّرتُ كل ذلك في الرواية، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى منها قيام مثقف الحارة الدكتور شفيق بقراءة مقالات محمد حسنين هيكل ثم محاولة تفسيرها للناس في الحارة، كل ذلك جاء مجتمعاً جعل من الهزيمة حدثاً كبيراً، كما حوَّل ما يتعلق بها من رد فعل إلى مشهد أسطوري.
الرواية أيضاً تعيد الحكاية إلى الصدارة.. ما الذي يسببه افتفاد أي رواية لها؟
في اعتقادي أن الحكاية عمود رئيسي في الرواية، هي ليست الرواية كلها، ولكن لا بد أن تكون هناك حكاية "إطار" كما يسميها جيرار جينيت، الحكاية هي الصنبور الذي تنطلق منه كافة الأحداث والتأملات والحوارات، وغيابها يجعل من الرواية عملاً دون متعة، نحن المصريين أبناء ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وملاحم أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد وغيرها من مرويات متعددة الوجوه، والكاتب لا يستطيع أن يفلت من تكوينه الوجداني والتاريخي، وكذلك القارئ بالطبع، لا يمكن أن يستسيغ الرواية، دون حكاية. الحكاية هي قلب النص الروائي، وعندما حدثت أزمة في كتابة الرواية الأوروبية في الستينيات، وأعلن آلان روب جرييه وشركاؤه ما يسمى بالرواية الجديدة، وجدت تلك الأفكار صدى واسعاً في مصر، وكتب نجيب محفوظاً مقالاً مهماً قال فيه: "إن تلك ليست أزمتنا، بل أزمتهم"، لأنهم مزقوا الحكاية، وتقريبا استغنوا عنها، ولكن الحكاية في الرواية العربية ظلَّت فاعلة حتى الآن.
الحنين إلى الماضي ظهر جلياً في أسماء الماركات والأشياء القديمة.. كيف ترى الماضي؟
أنا مفتون بالماضي وصداه في الحاضر، ولديَّ ولع خاص بعقد مقارنات شديدة الثراء بين المفردات والتراكيب اللغوية والمعاني قديماً وحديثاً، المفردات جزء من الهوية في مصر وفي كافة بلادنا العربية، نحن لا نقول الهاتف، ولكننا نقول التليفون، بالطبع اختفت مفردات، لتحل محلها مفردات أخرى، ولكن النصوص الأدبية القديمة، ما زالت حافظة لكل التراث اللغوي، مثل التراسينة، والأوتومبيل، والتروللي باص، والشلن، والحضرة التي نطلق عليها "المولد" وهكذا، تراثنا غني بمفردات تحتاج إلى دراسات وتأملات واسعة وشاملة وعميقة.
لماذا أقدمت على كتابة الرواية وأنت على مشارف السبعين؟
حاولت طوال عمري أن ألتزم بكتابة الشعر وأصدرت فيه سبعة دواوين بالإضافة إلى مسرحية، والكثير من النقاد استهوتهم الكتابة عن تيمة السرد في قصائدي، وكنت بالفعل مفتوناً بذلك السرد، ولولا الإيقاع العروضي في شعري، لكانت كل قصائدي قصصاً قصيرة، وهناك حكاية طريفة عندما قدمت أحد دواويني للعزيز الراحل الروائي محمد البساطي، وكان رئيساً لتحرير سلسلة "أصوات أدبية"، وبعد شهر من تسليمه المخطوط، اتصل بي وقال لي وكان يمزح بشكل جاد: "عاوزينك تيجي عشان توقع عقد مجموعتك القصصية!"، وأنا غضبت من ذلك المزاح، ولكنه قال لي: "يا عم قصايدك كلها قصص وحكايات حلوة وتنفع قصص قصيرة!"، وعندما اتجهت إلى الكتابة البحثية في التاريخ الثقافي، كانت هناك ضرورة فنية لأن تتخلل أبحاثي حكايات عن كتَّاب وأدباء ومفكرين ولذلك نشَّطتُ الحاسة السردية عندي، ورغم ذلك اتخذت موقفاً عنيداً من الرواية، وكنت أسخر من كل الشعراء الذين كتبوا روايات، حتى عندما سألني الشاعر سعدي يوسف وكنت أعمل معه في مجلة "المدى" عن رأيي في روايته، قلت له إنها لم تعجبني، وكان لديَّ موقف أخلاقي، وهو أن الطبيب لا يعمل مهندساً، والمحاسب لا يعمل مدرساً، والشاعر لا يعمل روائياً، وهكذا اتخذت قرار عدم الخوض في كتابة الرواية، بل حاربت نفسي طويلاً في ذلك، حتى فرضت الرواية نفسها عليَّ، وكتبت ذلك على صفحتي في "الفيسبوك"، وفي اليوم ذاته طلبني مدير دار "دوِّن" وحرَّضني على استكمال الرواية، وبالفعل أنجزتها، وعندما سألني أحدهم، قلت له: "جعلوني روائياً".
تكتب الجزء الثاني من الرواية فهل تخطط لكتابة ثلاثية؟
فعلاً أكتب الجزء الثاني من الرواية الآن، وسوف أتوسع في الكتابة عن شخصيات لم تظهر بشكل كامل في الجزء الأول، وأطمح في أن تكون ثلاثية بالفعل.
أخيراً.. ما الفرق بين جيلكم، جيل الكبار، والأجيال اللاحقة عليكم؟
أعتقد أن جيلنا كان رومانتيكياً بشكل مفرط، كانت رؤوسنا في السماء، وأقدامنا لا تسير على الأرض، وأنا واحد من الذين مارسوا العمل السياسي المتمرد في مقتبل حياتي، وكنت أترجم كثيراً من اعتقاداتي الفكرية إلى شعر وخيالات وأحلام، أعتقد أن الأجيال اللاحقة لا تعرف الرومانسية، إنها أجيال عملية جداً، وتكاد تكون مفرطة في ذلك، وهذا لا ينطبق على الكتابة فقط، بل يمد ظله على المواقف والأفكار والسلوك أيضاً.