إميل أمين
من بين أفضل العقول التي يمكننا التوقف معها في هذه الساعات التي تستبق العام الجديد، «برتراد راسل»، الفيلسوف البريطاني الشهير، عالم المنطق والمؤرخ والناقد الاجتماعي، وأشياء كثيرة أخرى.
تكاد البشرية تجد لها مهرباً من عتم الحاضر عبر كلمات قلائل من نور، فاه بها راسل في إحدى أواخر مقابلاته، وكان وقتها قد بلغ التسعين من عمره، وقد جاءت بمثابة نصائح للأجيال القادمة، حتى تدرك طريق الحياة عبر المعرفة العميقة الفاعلة والناجزة، لا السطحية والهامشية.

يدعو راسل قراءه وأحباءه للدخول إلى العمق وإلقاء الشباك، ويقدم في هذا السياق نصيحتين، فكرية وأخلاقية.
الشيء الفكري الذي يطرحه راسل أمام معاصريه، ومن يليهم، يتعلق بالجوهر لا بالمظهر، لاسيما أن الأخير يخدع، ولهذا يطالب عندما ندرس أي مسألة، أو نتأمل في أي فلسفة، أن نسأل أنفسنا، ما هي الوقائع، وما هي الحقيقة التي تعززها تلك الوقائع؟.
تفكير الفيلسوف البريطاني العميق يجابه ويواجه سرعة التفكير غير العقلانية التي واكبت عصر المعلومات المتفجرة، يميناً ويساراً، ومعها باتت قضية التحقق من حقيقة الأمور أمراً عسيراً، وفي ظل السرعة والسطحية، تحدث الصدامات وتنشأ العداوات.
وصية راسل:«انظر فقط في الوقائع»، ذلك هو الشيء الفكري الذي يود أن يتركه لنا راسل أول الأمر. الوصية الثانية التي يخلفها رجل السلام الرافض للحروب، تتقاطع مع المجال الأخلاقي الإنسانوي، وفي القلب منه إشارته إلى «الحب بوصفه حكمة، والكراهية باعتبارها حمقاً».
عند راسل أنه في هذا العالم الذي يترابط أكثر وأكثر بشكل وثيق، علينا أن نتعلم التسامح مع بعضنا بعضاً.
خبرات وتجارب
هل الأمر موصول بحصاد السنين التي عاشها راسل، وخبرات الحرب العالمية الثانية البغيضة التي حملها على كاهليه، ومنها اتخذ موقفاً محباً للسلام والوئام، والرافض للكراهية والخصام؟
غالب الظن أن الأمر، قولاً وفعلاً، يمضي على هذا النحو، وعليه يوصي بأن نتعلم التصالح مع حقيقة أن بعض الناس قد يقولون ما لا نحب. بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نعيش معاً. ولو أردنا العيش معاً، فإنه يجب علينا تعلم شيء من الإحسان والتسامح، الأمر الذي يعتبر حيوياً للغاية لاستمرار الحياة البشرية على هذا الكوكب.
مثيرة هي الأقدار، وما أشبه الأمس باليوم، فقد أطلق راسل هذه التصريحات، وترك لنا هذه الوصايا، في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، أي في أوج ما عرف بالحرب الباردة، حيث كان العالم على شفا حفرة نووية، لم تكن للحياة بعدها أن تمضي إلى الأمام.
اليوم نسترجع بعضاً من رؤى الفيلسوف الراحل، وفي كتابه «كيف تبلغ الشيخوخة»، ترك راسل كنزاً ثميناً للإنسانية، حين اعتبر أن جوهر الحياة المليئة بالرضا والقناعة، إنما يكمن في اختفاء غرور «الأنا» وذوبانها في شيء أعظم، مستعيناً بالجاذبية اللامتناهية للأنهار كمصدر استعارة وجودية. حلول إنسانيتنا المعذبة في الأوقات الراهنة، عند راسل، على الصعيدين الفردي والجمعي نجدها في كلمات تبدو بسيطة، لكنها عميقة الجوهر. يقول:«اجعل من دائرة مصالحتك تتسع تدريجياً، شيئاً فشيئاً، فتغدو أكثر ابتعاداً عن الشخصانية، وذلك إلى أن تنحسر جدران الأنا، وتتماهى حياتك شيئاً فشيئاً في حياة الكون».

أخبار ذات صلة أمنيات الإمارات الإمارات تؤكد على دور «لجنة بناء السلام» في تعزيز الأمن والتسامح

كن نهراً
التسامح والتصالح، ويوصي بأن يضحى الكيان البشري الفريد، حال رغب النجاة، نهراً ولو صغيراً في بداياته، محصوراً بين ضفتين ضيقتين متسارعاً بشغف، متكسراً فوق الصخور، متفجراً في شلالات.
غير أنه شيئاً فشيئاً يتسع مجرى النهر وتنحسر الضفاف، وتتدفق المياه بهدوء أكبر، حيث تذوب في النهاية وبلا فواصل واضحة، في البحر الكبير، وتخسر بلا ألم كينونتها الفردية.
في كتاب آخر لراسل عنوانه «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة»، يؤكد أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حد ما في مجتمع معين حيال ما يصب عموماً في مصلحة الجميع.
وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بناء على فهم علمي، أو على الأقل منطقي للعالم. 
كان راسل يرى أن، المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداة للتحرير، ووسيلة للوقاية من الخوف والاهتمام بالأشياء الظاهرية، وهي من أهم الأفكار الرئيسة كذلك في كتابه «الفوز بالسعادة». ويتحدث راسل أيضاً عن كيفية تشجيع الصدق والكرم، وذلك ليس بالاعتماد على عقاب أضدادها، بل بتشجيع الخصال الإيجابية عند ظهورها.
ولعل راسل من القلة القليلة التي اعتبرت الذوق والكياسة واللياقة، مفاتيح حقيقية لإصلاح الكثير من الأعطاب التي أصابت عالمنا المعاصر، ومن هنا أوصى بوجوب أن يكون هناك ذوق في المعاملة، خلال العقود القادمة حتى يمكن تحقيق السلام والترويج للتعايش والتعاون العالمي.
فهل يضحى العام الجديد عاماً للتعايش والسلام، وللقفز فوق جسور العزلة والعداوات؟
هذا ما نأمله أن يكون، وأن يلقي السلام بظلاله على البشرية جمعاء.

 

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الفلسفة الثقافة الملحق الثقافي التسامح

إقرأ أيضاً:

وصايا الملك للوزير

ظل الوزير فى العصور القديمة يلى الملك مباشرة فى الأهمية والنفوذ والسلطات، كما كان حلقة الاتصال بين الملك والإدارات المختلفة بالدولة سواء فى العاصمة أو الأقاليم، عرف منصب الوزير فى اللغة المصرية القديمة بمصطلح «ثاث» وحظى بمكانة رفيعة وجرت عادة ملوك مصر القدماء إلقاء العبء الخاص بالإجراءات الحكومية والإدارية والقضائية والمالية والحربية على عاتق الوزير باعتباره أكبر موظف بالدولة.

كانت فى مصر القديمة ضوابط ومعايير خاصة لشغل وظيفة الوزير، باعتباره منصباً رفيعاً، ينتخب من أعرق العائلات المخلصة للعرش المتفانية فى ولائها وخدماتها له، بل كان الوزير يصبح أحياناً من أولياء العهد أو أبناء الملك أو أقاربه فى بعض العصور.

فى بعض العصور وفى ظروف أخرى كانت وظيفة الوزير وراثية، وفى ظروف خاصة جمع بعض الوزراء بين منصب وزير وبين رئاسة الدولة وجرت العادة فى مصر القديمة أن يكون هناك وزير واحد للملك والدولة.

هناك أسماء عديدة لمعت فى صفحة التاريخ خلال العصور القديمة منهم «تعومر» وزير الملك «مينا»، ثم تطور الأمر خلال الدولة الوسطى بحيث أصبح اثنان من الوزراء يعاونان الملك.

وكشفت النصوص والنقوش عن وجود وزيرين أحدهما للشمال والآخر للجنوب وكان الأول مركزه فى منف والثانى فى طيبة. وكان الملك له الحق المطلق فى تعيين أو عزل الوزير، وكشفت النقوش عن بعض التعليمات والنصائح والتوجيهات من قبل الملك للوزير «حابو» وزير الملك «تحتمس الرابع»:«كن يقظاً لكل ما يجرى فى الوزارة وإذا أتاك مشتكٍ فيجب عليك أن تبحث بنفسك فى شكايته حسب القانون، ولتتبع الحق ولتعلم أن غضب الله يحل على من يؤثر المحاباة ولتكن معاملتك لمن لا تعرفه مثل معاملتك لمن تعرفه، ولمن هو قريب منك كمن هو بعيد عنك»، وكان الوزير يبدأ عمله بعرض المسائل الحكومية بالدولة على الملك كل صباح.

تطور الأمر فى مصر القديمة وأصبح هناك وزير للمالية ووزير للزراعة ووزير للحربية ووزير للأمن الداخلى للبلاد ووزير أول للدولة يوازى منصب رئيس الوزراء حالياً وغالباً كان هو الرئيس الأعلى للقضاء.

أما الوزير فى العصور الوسطى «الدولة الإسلامية»، فهناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أن الوزارة بمعناها الإصلاحى لم توجد إلا فى عهد العباسيين، حيث كان الوزير فى العهد العباسى يعتبر رأس الجهاز الإدارى وقمة هرمه وأصبح يشرف على دواوين المال والرسائل والخاتم.

كان أول من وقع عليه اسم الوزير فى الإسلام رجل من دعاة دولة بنى العباس وهو «أبوسلمى حفص بن سليمان الكوفى» المعروف بـ«الخلال» وذكرت كتب التاريخ تعيين أبوجعفر المنصور فى الوزارة إلى جانب مسئولياته عن الدواوين، وقد تطور المنصب خلال فترة حكم الدولة العباسية، حيث آلت إلى الوزير أمور  البلاد والعباد حتى أصبح نفوذه خطراً يهدد الخليفة نفسه كما حدث مع أسرة «البرامكة».

فنجد «هارون الرشيد» يعين «يحيى بن خالد البرمكى» ويعطيه صلاحيات واسعة ومطلقة جعلته الآمر الناهى حتى شعر «الرشيد» أنه يسلبه السلطة فأمر بقتل «جعفر» والقبض على «يحيى» وأصدر قرارات بإنهاء النفوذ «البرمكى» فى البلاد ومصادرة أموالهم.

وقد اشتهر العديد من الوزراء فى التاريخ الإسلامى مثل «الفضل بن سهل» فى عهد المأمون، و«ابن العميد» فى عهد الخليفة الطائع لله، الذى ذاع صيته حتى لقب بـ«ذى الكفتين» أى صاحب السيف والقلم.

ثم تطور نظام الوزارة فى عهد الأندلس حتى أصبح يشبه لحد كبير التشكيل الوزارى فى وقتنا الحالى، وقد كان المسئول عن الوزراء هو الخليفة نفسه، ثم أصبح المنصب يتولاه رجل يسمى «الحاج» الذى نصب ليكون وسيطاً بين الوزراء والخليفة ويرجع الفضل فى تطوير منصب الوزارة فى الأندلس إلى الخليفة «عبدالرحمن الأوسط» وكان هناك وزارة للمالية وأخرى للبريد ووزارة للجهاد وأهل الثغور.

وكما يحدث حالياً هناك وزراء سجلوا أسماءهم فى أنصع صفحات التاريخ القديم وهناك وزراء لا يذكرهم التاريخ أو برئ منهم التاريخ.

مقالات مشابهة

  • زكي نسيبة: الإمارات نموذج عالمي فريد في التسامح والتعايش السلمي
  • الموارد البشرية تنظم فعاليات متنوعة للقوى العاملة بمناسبة عيد الأضحى
  • بين الواقع والخيال| «كمبيوتر حي» من الأدمغة البشرية.. هل يحقق مستقبلا جديدا في عصر التكنولوجيا؟
  • رشيد:العراق وإيران “حمامة السلام في المنطقة”!!
  • راسل كرو يكشف عن أهم دور اضطر لرفضه في مسيرته
  • قمة سويسرا تنتهي دون إجماع بشأن أوكرانيا وموسكو تعتبرها مضيعة للوقت
  • الصوت الأكثر رعبا في تاريخ البشرية…صَفّارة وجدت بيد هيكل عظمي قديم
  • قمة سلام أوكرانيا تدعو لإشراك جميع اطراف النزاع لوقف الحرب
  • وصايا الملك للوزير
  • كيفية منع أخذ «اسكرين شوت» لـ«بروفايل فيسبوك».. الحل في 3 خطوات