هل غيرت طوفان الأقصى الشرق الأوسط أم أعادت مشاكله إلى السطح؟.. إيكونوميست تجيب
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
في فبراير/شباط الماضي، قدم دبلوماسي من إحدى الدول الخليجية توقعات واثقة بشأن العام الجديد، قال فيها إن الشرق الأوسط سئم الصراع، حيث سيكون خفض التصعيد والدبلوماسية من أوامر اليوم، حيث رأى الأعداء القدامى فوائد صنع السلام، مضيفا: "هذه لحظة تغيير للمنطقة بأكملها".
وفي تقرير لصحيفة "إيكونوميست"، وترجمه "الخليج الجديد"، قال إن الجزء الأخير من هذه التصريحات كان صحيحا، فقد أجج الهجوم الذي شنته "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعه من تصعيد عسكري إسرائيلي غير مسبوق على غزة، الصراع الأكثر دموية بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عام 1948، ودفع المنطقة إلى حافة حرب أوسع نطاقا، وهي الحرب التي اجتذبت أمريكا بالفعل وإيران ومتشددون من أربع دول عربية على الأقل.
قبل أكتوبر/تشرين الأول، كان بوسع إسرائيل أن تتباهى بعلاقاتها الدافئة مع دول المنطقة، لكن المواطنين العرب الآن يشعرون بالغضب، وإسرائيل أصبحت مرة أخرى دولة منبوذة في حيها.
لقد هزت الحرب، على نحو غير محتمل، حركة الشحن العالمية، بل ويمكن أن تعرض للخطر سعي الرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة انتخابه.
إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي بدا حتى وقت قريب خاملاً في أغلبه، قد عكر صفو العالم، ويبدو أنه قد حول الشرق الأوسط، أو ربما لا، وبدلاً من إعادة تشكيل المنطقة، ربما كان ذلك مجرد تفاقم لمشاكل الشرق الأوسط التي طال أمدها.
اقرأ أيضاً
تربيون إكسبرس: طوفان الأقصى تغير الشرق الأوسط وتثبت فشل أمريكا
قبل "السبت الأسود"، كما يسميه الإسرائيليون، كانت هناك حملة جدية لخفض التصعيد الإقليمي.
ففي مارس/آذار، أبرمت السعودية اتفاقاً لتخفيف التوترات مع عدوتها القديمة إيران، وتم التوقيع على الاتفاقية في الصين، وهي الدولة التي لم تلعب في السابق دورًا كبيرًا في دبلوماسية الشرق الأوسط.
ثم، في مايو/أيار، وافق السعوديون على السماح للدكتاتور السوري الملطخ بالدماء بشار الأسد، باستعادة مقعده في جامعة الدول العربية.
وعلى مدار العام، سعت دول الخليج ومصر إلى إصلاح العلاقات المضطربة مع قطر وتركيا، اللتين تجنبتهما لسنوات بسبب دعمهما للإسلام السياسي.
وعلى الرغم من أعمال العنف التي شهدتها الأشهر القليلة الماضية، إلا أن هذا الانفراج صمد إلى حد كبير.
يشار إلى أن جميع دول الخليج لديها علاقات وثيقة مع أمريكا، والعديد منها مع إسرائيل، إلا أن دول الخليج لم تتعرض لهجوم من قبل وكلاء إيران، كما أن إسرائيل لا تتعرض للهجوم من قبل أي دولة عربية، بل فقط الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تتمتع بقوة أكبر من أن تتمكن الحكومات من السيطرة عليها.
اقرأ أيضاً
طوفان الأقصى يبرز أسباب الهيبة الدبلوماسية الأمريكية المهدورة بالشرق الأوسط
لعقود من الزمن، كانت السمة المميزة للشرق الأوسط هي ضعف الدولة على نطاق واسع، وبعيداً عن الأعضاء الستة في مجلس التعاون الخليجي، وهو نادي من الممالك النفطية المستقرة، فإن المنطقة عبارة عن مجموعة واسعة من الدول الفاشلة أو الفاشلة، وقد جعلت الحرب ذلك الأمر أكثر وضوحا.
واعترف رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، علناً بأنه لا يقرر ما إذا كانت بلاده ستخوض حرباً مع إسرائيل، ويقع هذا الاختيار على عاتق "حزب الله" الميليشيا والحزب السياسي الذي تدعمه إيران في لبنان، والتي أدت هجماتها اليومية على إسرائيل إلى إبقاء آلاف القوات الإسرائيلية على طول الحدود مع لبنان.
وفي اليمن، أجبر الحوثيون، وهم ميليشيا أخرى تدعمها إيران، مئات من سفن الشحن على تجنب الإبحار عبر البحر الأحمر.
إلا أن تصرفاتهم لم تردع إسرائيل عن هجومها المدمر على غزة، ولم تجبر أمريكا على المطالبة بوقف إطلاق النار أو سحب قواتها من الشرق الأوسط.
ووفق الصحيفة، فقد فرض الحوثيون تكاليف على إسرائيل وأمريكا والاقتصاد العالمي، ولكن ربما بتكلفة أكبر على شعوبهم، الذين يعانون بالفعل من سوء الإدارة ويخاطرون الآن بالانجرار إلى صراع إقليمي.
في المقابل، تميل الدول الضعيفة إلى أن تكون اقتصاداتها ضعيفة، ومن المحتمل أن يشكر الدكتاتور المصري عبدالفتاح السيسي، الذي عاد إلى فترة ولاية ثالثة في انتخابات منظمة في ديسمبر/كانون الأول، ناخبيه من خلال خفض قيمة العملة للمرة الرابعة خلال عامين.
اقرأ أيضاً
من الخليج إلى المغرب العربي.. كيف ستؤثر طوفان الأقصى على سياسات الشرق الأوسط؟
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، وافق الأردن على برنامج بقيمة 1.2 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي، ليحل محل ترتيب سابق كان من المقرر أن ينتهي في مارس/آذار 2024.
وتلفت الصحيفة إلى أن الحرب في غزة ستؤدي إلى تفاقم هذه المشكلات، فقد انخفضت حجوزات السياحة ليس فقط في إسرائيل، بل في مصر أيضًا، وأوقفت بعض شركات الطيران الغربية رحلاتها إلى لبنان وحتى الأردن.
كما أن هجمات الحوثيين على الشحن ستضر بإيرادات قناة السويس المصرية، وترفع الأسعار بالنسبة للمستهلكين العرب، الذين كان الكثير منهم يتذمرون بالفعل من التضخم.
وسيؤدي الصراع أيضا، وفقا للصحيفة، إلى توسيع الفجوة بين الخليج وبقية المنطقة، وسيكون من الصعب أن يشعر الزائرون لدول مجلس التعاون الخليجي هذا الخريف بأن الشرق الأوسط كان في حالة اضطراب، حيث اكتظت الفنادق والمطاعم في دبي، التي استضافت قمة المناخ التي شهدت حضورا جيدا.
فيما توافد السعوديون على المتنزهات والمباريات الرياضية وغيرها من وسائل الترفيه التي نظمتها المملكة كجزء من مهرجان ترفيهي سنوي.
ولم تقم البحرين ولا الإمارات، الدولتان الخليجيتان اللتان تقيمان علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، بقطع هذه العلاقات ردا على حرب غزة.
اقرأ أيضاً
تداعيات طوفان الأقصى.. إسرائيل توقف تصدير الغاز من حقل أنابيب شرق المتوسط إلى مصر
فالإمارات هي واحدة من الدول القليلة التي لم تتوقف شركات الطيران المملوكة للدولة عن رحلاتها إلى تل أبيب منذ اندلاع الحرب، وهو ما يمكن القول إنه بيان دبلوماسي أكثر من كونه قرارًا تجاريًا.
ولا تزال السعودية ترغب في إبرام صفقة التطبيع الخاصة بها مع إسرائيل، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يحدث ذلك قريبًا.
وخلال معظم فترة رئاسته، حاول بايدن التصرف كما لو أن أمريكا قد انتهت من الشرق الأوسط، وأراد التركيز على أوروبا، وآسيا، لكن الشرق الأوسط لم ينته منه.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت أمريكا مجموعتين من حاملات الطائرات وآلاف الجنود إلى المنطقة.
ويتنقل الدبلوماسيون الأمريكيين بين إسرائيل والدول العربية لمحاولة منع اتساع نطاق الحرب، والحديث عما سيحدث بعد ذلك، كما شكلت البحرية الأمريكية تحالفًا دوليًا لتأمين الشحن في البحر الأحمر.
ويشكل هذا إلى حد كبير عودة إلى سابق عهدها بالنسبة لأمريكا، القوة الخارجية التي لا جدال فيها في المنطقة منذ فترة طويلة، بعدما شهدت السنوات الأخيرة الكثير من الحديث عن شرق أوسط متعدد الأقطاب.
اقرأ أيضاً
الإيكونوميست: طوفان الأقصى خرب استراتيجية بايدن للشرق الأوسط
ومع ذلك، وفي خضم أسوأ أزمة تشهدها المنطقة منذ عقد من الزمن، لم تلعب روسيا والصين دوراً يُذكَر يتجاوز إغضاب الغرب بسبب نفاقه الواضح.
وفي الأراضي المقدسة، عززت الحرب اتجاهاً طويل الأمد نحو التعنت بدلاً من عكسه، ويأمل المتفائلون أن تخلق الحرب فرصة للتوصل إلى تسوية دائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أنها ستفعل العكس، فقد أظهر استطلاع للرأي نشرته مؤسسة فلسطينية رائدة لاستطلاعات الرأي في ديسمبر/كانون الأول، أن 72% من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يعتقدون أن حماس كانت على حق في مهاجمة إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، على الرغم من العواقب المروعة.
وفي استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي، وهو مؤسسة فكرية غير حزبية، قال 52% من اليهود الإسرائيليين إنه لا ينبغي لبلادهم أن تسعى إلى "حل الدولتين" بعد الحرب.
ويخلص تقرير الصحيفة إلى أنه من السابق للأوان أن نتكهن بالكيفية (أو حتى متى) ستنتهي الحرب في غزة، ولكن حتى الآن لم تتمكن من إعادة تشكيل حدود المنطقة، كما فعلت حروب الأعوام 1948، و1967، و1973.
ويختتم: "كما أنها لم تطيح بأي أنظمة، رغم أنها ربما تتمكن بمرور الوقت من إنهاء حكم حماس في غزة وحكومة نتنياهو في إسرائيل، وما فعلته هو سحق الحديث المفعم بالأمل عن شرق أوسط جديد من خلال الكشف عن مشاكل المنطقة القديمة التي لم يتم حلها".
اقرأ أيضاً
طوفان الأقصى.. هكذا قد تغير حماس الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط
المصدر | إيكونوميست - ترجمة وتحرير الخليج الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الشرق الأوسط القضية الفلسطينية إسرائيل طوفان الأقصى فلسطين الصراع العربي الإسرائيلي أکتوبر تشرین الأول طوفان الأقصى الشرق الأوسط مع إسرائیل دول الخلیج اقرأ أیضا إلى أن
إقرأ أيضاً:
ما شكل الشرق الأوسط بعد الحرب؟
في غياهبِ التاريخ وملفاته الساخنة، كانت وما زالت الحروبُ من يعيد تشكيلَ الدول ومفاصلها السياسية، وتمزّقُ الجغرافيات، وتعيدُ ترتيبَ السّرديات؛ فيكتبها المنتصر كما يشاء. اليوم، وفي قلبِ الشرقِ الذي ما هدأَ لهُ لظى، تدورُ رحى حربٍ لم تُعهد من قبل بين كيانٍ صهيوني طالما اعتبر نفسه «لا يُقهر» وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي خُنِقَت وحوصرت منذ عقود عدة؛ فقررت أن تُكشّر عن أنيابِها وتفتحَ جبهة الحساب مع عدو غادر؛ ليكون حسابًا تُدفع فيه فواتيرُ سنواتٍ من الدم والخذلان والحصار، وقبل امتشاق القلم وخوضه في تشابكات هذه القضايا، أوضح للقارئ أن هذا المقال لا يُعنى -بالضرورة- بالتحليل السياسي المحض كما تعهده موازين السياسة، ولكنه أقرب إلى جوهره الفكري؛ ليتلمّس بموضوعيةٍ ماهيّةَ الصراع في الشرق الأوسط ومآلاته المتشابكة.
لا يمكن أن نعتبر الحربَ الدائرةَ بين إيران والكيان الصهيوني بمثابة جولةٍ عابرةٍ من الصراع، وإنما هي زلزلةٌ إستراتيجية تشقُّ تربة الشرق الأوسط، وتكشفُ عن تحوّلٍ جذري في موازين القوة وسرديات التفوق؛ فليس ما نشهده اليوم اشتباكًا عسكريًّا فحسب، ولكنه انكشافٌ صارخٌ لوهمِ الردع الإسرائيلي، وانهيارٌ تدريجيٌّ لصورة الكيان التي قيل لنا طويلًا إنها «لا تُهزم».
حربٌ تُستعمل فيها التقنيات الفائقة، والصواريخ الدقيقة، والطائرات المُسيّرة، لكنّ خلف كل ذلك: إرادة تتكلم باسم المستضعفين وتصرخ بوجه قرنٍ من الظلم. رغم ما أمطرت به إيرانُ سماءَ الكيانِ الصهيوني من لهب الردع عن طريق ترسانتها الصاروخية، وما ألحقته به من وجعٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ قلّ نظيره، إلا أنّها -هي ذاتها- لم تكن بمعزلٍ عن شراك الاستنزاف وأفخاخ التقييد الإستراتيجية التي حيكت ضدها بإحكامٍ مريب منذ سنواتٍ طوال؛ فمشروعات الردع الصاروخي التي ظنّت أنها كافية لترسيخ حضورها؛ لتكون قوةً إقليميةً مهابةً، تبيّن لاحقا أنها لم تُحصِّنها بشكل كامل من الاختراقات الاستخباراتية والعسكرية التي شكلت صدمةً مع أول هجوم إسرائيلي مباغت، وكذلك التفكك المتدرج الذي مارسه الكيان الصهيوني ومعه الحليف الأمريكي بدهاءٍ لا تخطئه العيون؛ فكانت البداية في حرب مع العراق تحوّل إلى صراعٍ استنزافي أنهك الجميع، ولكن الفائز غير المعلن كان الطرف الصهيوني-الأمريكي الذي أحسن تقليب نار المنطقة لمآربه، ويكفي أن نفتح صفحات التاريخ؛ فنجد شهادة محمد حسنين هيكل في كتابه «مدافع آية الله»؛ حيث كشف الستار عن كثيرٍ من تلك التداخلات السوداء.
أما الأشد مضاضةً، فهو ذلك التآكل الذي طال أذرع إيران الحيوية، لا سيما حزب الله الذي كان -بالأمس- قبضةَ الرعب في وجه العدو، ولكنه اليوم فقد من قادته ما جعله جسدًا منهكًا، ومن قدراته ما جعله أقلَّ فاعلية في ميزان القوى، وبموازاة هذا الإنهاك، كان ملف المفاوضات النووية يُدار كما تُدار المرايا الخادعة؛ فسعت إيران بواسطته لبلوغ قبة الردع النووي، ولكنها ما لبثت أن أدركت أن تلك المفاوضات لم تكن سوى فقاعة سياسية، امتصّت الوقت والفرص، وسرّبت أوراق القوة إلى يد الخصوم الذين ضمنوا -بذكاء ماكر- ألا تُولد قنبلةٌ تغيّر قواعد اللعبة.
تؤكد لنا قوانين الحياة أن التاريخ لا يمضي محايدًا؛ فلا تبقى الأحداث محليةً بين حدود تل أبيب وطهران؛ فسرعان ما ترتفعُ ألسنةُ اللهب لتطال الجوار، ولعلّ اللهب سيطال العالمَ كلّه؛ فها هي الولايات المتحدة، راعيةُ إسرائيل وحارسةُ عرشِها، تقفُ على أطرافِ أصابعها، تتهيأ للتدخل المباشر؛ لتنتشلَ حليفتها من براثن الانهيار، وإذا ما دخلت واشنطن الحربَ؛ فإنّ بواباتِ الاحتمالات ستفتحُ على مصراعيها: فهل تبقى الصين صامتة؟ أم تُدرك أن سقوط إيران سيعني تمدّد الهيمنة الأميركية نحو حدودها؟ وهل ترضى باكستان النووية أن يأتيها الدور كما صرّح نتنياهو مرارًا؟ وأيّ شرقٍ أوسطٍ سيتشكّلُ بعد أن تُسحقَ طهران أو تنتصر؟
لسنا هنا أمام حالة نزاع وحسب، وإنما أمام مشروعٍ كاملٍ لإعادة قولبة الشرق الأوسط؛ لإخضاعه للمنطق الصهيوني الجديد، منطقِ التطبيع أو التهديد، منطقِ السلم الخانع أو الحرب الساحقة؛ فبعد أن فشلَ مشروع التطبيع في اختراق بعض العواصم الصُلبة، ها هو الترهيب يأتي بديلًا؛ فنتنياهو، بصلفٍ مدوٍّ، لا يخجل من ترديد فكرة «إعادة تشكيل الشرق الأوسط»، ليس باعتباره تصوّرًا سلميًّا تنمويًّا، ولكنه بصبغةِ حربٍ توراتية توسعيّة، يهدف بواسطتها إلى تشييد ما يُسمى ب»إسرائيل الكبرى»، لا عبر خريطة سياسية ونظريات مؤامرات فارغة، ولكن عبر سطوة السلاح ومشروعات التمزيق.
لهذا، تبدو الحرب الحالية مفتاحًا لبابٍ مظلمٍ أو بابٍ للخلاص؛ فإن سقطت إيران ونظامها؛ فإن المشروع الصهيوني سيتقدّم بثقةٍ إلى عمق العالم الإسلامي، وستكون العواصم الكبرى التالية، ولا سيما باكستان ومصر ضمن المخطط لا محالة، ولهذا جاءت تحذيرات وزير الدفاع الباكستاني ومواقف بعض المفكرين في مصر تؤكد أن التهديد ليس نظرية مؤامرة بل حقيقةٌ تستعدّ للهبوط على الأرض، وستغدو كل عاصمة لم تُطع الكيان -عبر اتفاقيات سلام أو صفقات خنوع- مرشحةً للانكسار، باسم الأمن، وباسم الشرعية الدولية، وبسيوفٍ تُشحذ من خارج الحدود.
لكن وسط هذا المشهد المشتعل؛ ثمة زاوية لا تُرى إلا بنور البصيرة: زاويةٌ دينيةٌ لا تغفلها سنن الله في كونه، تلك السنن التي لا تتغير مهما عتت قوةٌ وطغت، ومهما توحّشت آلةُ القتل وجبابرتها؛ فإن الظلم لا يُخلّد، والطغيان لا يُثمر إلا خسرانًا؛ فما يحدث اليوم من دمارٍ في تل أبيب، ومن انهيارٍ في الاقتصاد الإسرائيلي، ومن شللٍ في الجبهة الداخلية، ليس إلا ارتدادًا طبيعيًّا لقانون تلك السنن الكونية التي أرادها الله؛ فالأنينُ الذي خرج من أطفال غزة، والدم الذي جرى في شوارع جنين وخان يونس وجباليا ورفح لم يذهب سدى؛ فيُترجمُ صواريخَ دقيقةً، وطائراتٍ مسيّرة تنقضُّ على رموز الاستعلاء، ودمارًا في مدنٍ لطالما نُسجت حولها هالةُ اللاهزيمة.
لا أتصور أن الأشهر القادمة -إن لم تكن الأيام القادمة- ستكون عادية؛ إذ ستكون فاصلةً في تاريخ الشرق الأوسط؛ فنحن إما أمام ولادة كبرى لمشروع الصهيونية النهائي بشكلِ نكبةٍ جديدةٍ تطحنُ ما تبقّى من الهُوية العربية والإسلامية؛ فتحوّل المنطقة إلى محمياتٍ تابعةٍ للهيمنة الصهيونية، وإما أننا على مشارف تصدّع سردية «إسرائيل لا تُهزم»، وانهيارٍ مدوٍّ لكيانٍ جثم طويلاً على صدرِ الأمة، ولهذا فإن التجارب توحي بأن سقوط إسرائيل -إن حدث- لن يكون بمنزلة الانتصار العسكري وحسب، ولكنه سيكون زلزالًا في بنية المفاهيم ونمطية العقل الجمعي العربي والعالمي، وسنرى تفكك السرديات الطائفية التي غذّتها أموالُ المخابرات ومختبرات الفتنة، وسنشهد انبعاث روحٍ جديدةٍ تتجاوز الأيديولوجيا؛ لتستعيد المعنى الكبير: أن ما يجمعنا باعتبارنا أمة أكبر من خلافاتنا، وأن فلسطين ليست قضية جغرافيا، وإنما اختبارُ ضمير، وأن الانتصار ممكن، وأن الشعوب إذا ما أرادت التحرر، لا توقفها لا دباباتٌ ولا طائرات.
وسيُكتب -ولو بعد سنين- أن حرب إسرائيل وإيران -وقبلها طوفان الأقصى- كانت بوابةً لتغييرٍ تاريخي شامل، لا لأنها حسمت المعركة في الميدان وحسب، ولكن لأنها أعادت تشكيل الوعي؛ حيثُ علّمتنا أن الخوفَ أكذوبةٌ، وأن الاستسلام خيار، وأن التحرر يبدأ حين نكفّ عن تقديس عدوٍّ ينهار من الداخل؛ فنعيد طرح سؤالِ مقالنا: ما شكلُ الشرق الأوسط بعدَ هذه الحرب؟ وجوابنا: أنه سيُحدده من يصمدُ أكثر، لا من يملك السلاح الأثقل، وسيكتبه من يؤمنُ أن الأرض لمن يزرعها، لا لمن يقصفها، وسيكون إما زمن الانكسار الكلّي، أو فجرًا جديدًا يخرج من بين الأنقاض؛ فيُعيد للعرب كرامتهم، وللمسلمين وحدتهم، وللأرض قدسيتها.
فليكن ما يكون، لكن اعلموا أنّ للتاريخ ذاكرةً، وللعدل ساعة وإن تأخرت؛ فالله غالب على أمره.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني