البطلة "مُنى الجحفلي"
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
الطليعة الشحرية
في عالمنا أبطال لا يصرعون الفضائيين والوحوش لإنقاذ كوكب الأرض، ولا يملكون قوى خارقة كالتخفي أو مقذوفة نارية يطلقها بفرقعة أصبع فيردي أعداءه صرعى؛ ليتها كذلك فهي حتمًا أسرع وأسهل.
تسقط همومك ومشاكلك وتتضاءل وتضمحل، عند مقارعتها ما يجابه به غيرك، أفهم أنَّ بعض الأمور في حياتنا ذات جدوى وإن بدت غير ذلك فحتمية السلبيات والإيجابيات في كل شيء لا تقبل الجدلية؛ ولكن ذاك "الألم" الذي يكرهه الجميع، الشعور بأنك تُسحق ذاتياً وتبحث عن مُتكأ في كلمة "الحمد لله"؛ فالحمد لله على المكروه والألم والمرض.
عندما نلمس شيئًا ساخنًا، نسارع إلى وضع اليد تحت ماءٍ بارد لإيقاف الألم، فما هو حال من يرى من يُحب يُعارك المرض. صراعٌ ليس به شيءٌ من العدالة؛ فأنت تجابه المجهول مع كل إبرة ومصل متصل بالأوردة، هناك من يقف بصمت مبتسماً ومتأملاً ويضرع ويناجي ربه أن يخفف وطأة الألم، وهناك أبطال بأجسادهم الصغيرة يحاكون بقوة الصبر والإيمان أبطال من ورق صنعتهم هوليوود.
إنها "منى" الصغيرة " منى" البطلة العظيمة.
العظماء لا يُقاسون بأحجامهم.. منى سالم الجحفلي، الفنانة الصغيرة، وهكذا تعرفت عليها من خلال لوحاتها ورسماتها ذات اللمسة الإبداعية الفنية. أعادت بيّ الذاكرة إلى الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو، ومثل فريدا تستلقِ مُنى الجحفلي على سيريها في عناية الأطفال في مستشفى السلطان قابوس بصلالة تناظر السقف ووجه أبيها معظم الوقت، فهي تعاني من ضمور في العضلات وتحتاج لأجهزة لمواصلة رحلتها في الحياة، شُخصت بالمرض في عُمر الثالثة. تقلص العالم الرحب وحُشر في ثقب إبرة مع ظهور العلامات الأولى للضمور بارتخاء عضلات العنق ثم الظهر.
عندما يصاب المرء بالمرض وهو بالغ فذلك أهون وأخف، حصاد ذكريات الطفولة بشقاوتها قد اُختبرت بكل عفوية، أشبعت مخزون الوجدان للمرء؛ لكن حين تصارع المرض في سن الثالثة وتقلِّب البصر ولا تجد غير صفحة أسمنتية بيضاء؛ قد يثبط ذلك العزم ويثير تساؤلات صغيرة وعميقة، لما لا ألعب كغيري من الأطفال؟ لما ليس ليّ أصدقاء وزملاء صف ودراسة؟
لا أتكئ وحيدة..
لم تتكئ البطلة الصغيرة منى، على ظلال الوحدة ولا غروب شموس الأمل والاستسلام لألم اليأس، فبدعم من أسرتها مُتمثلةً في والدها سالم الجحفلي والطبيب المشرف على حالتها هاشم قطون، بزغت فكرة إلحاق منى بالتعليم. وتبدأ أولى الخطوات بالتواصل مع قسم التربية الخاصة بالمديرية العامة للتربية والتعليم في محافظ ظفار.
اتسعت دائرة الأصدقاء من سقف أبيض وأجهزة نابضة وأبٍ وعائلة داعمة، الى مُعلمة وأخصائيين من قسم التربية الخاصة: صفاء عبد الجليل وعلي جعبوب، وأصبحت لها مدرسة ومقعد، وإن كان لا يُستخدم اليوم، فسيُستخدم غدًا والأمل مقرون بالدعاء.
أبهجت الأقلام والورق والألوان قلب منى، وصارت تطلب أوراقًا لترسم، وأصبح الرسم متنفسَ شغفٍ، تنقل به تجربتها الخاصة وعالمها الخاص. لوحات منى واقعية بها بهجة الطفولة وطموح المستقبل وأملُ الغد.
أصل الحياة ألمٌ..
يقول الدكتور مصطفى السباعي "لولا الألم لكان المرض راحة تُحبب الكسل، ولولا المرض لافترست الصحة أجمل نوازع الرحمة في الإنسان، ولولا الصحة لما قام الإنسان بواجب ولا بادر إلى مكرمة، ولولا الواجبات والمكرمات لما كان لوجود الإنسان في هذه الحياة معنى".
ماذا لو توسعت دائرة أصدقاء منى؟ ماذا لو أُقيم للوحاتها معرض ووضعت رسماتها جنبًا الى جنب مع فنانين تشكيليين آخرين في معرض الخريف؟ وماذا لو ....!
لن نُكثر من كلمة "لو"... بل نتمنى المبادرة، فلا معنى للحياة بلا إنسان لا يُحبِّذ فن المكرمات والواجبات.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المتقاعد.. مواطن لم يُغادر الحياة
سعيد المالكي
مُمَثِّلينَ جمعًا كبيرًا من نظرائهم، ممن صقلتهم النهضةُ المباركة علمًا وتجربةً، تقدّمت مجموعة من أبناء الوطن منذ سنوات بطلب إشهار الجمعية العُمانية للمتقاعدين؛ جمعية إنسانية بسيطة، مهمتها الاهتمام بفئة خدمت الوطن عقودًا طويلة. جمعية لا علاقة لها بالسياسة، ولا تتدخل في شؤون الدولة، ولا تطمح لإدارة مجلس الأمن وليست لديها خطط خمسية موازية. فقط جمعية للمتقاعدين. ومع ذلك، لم تُشهر حتى اليوم!
وعندما نقول إن سنوات عدة مضت، فليس الهدف الشكوى من طول المدة فحسب؛ فربما إشهار جمعيات أخرى استغرق وقتًا طويلًا كذلك وقد تصاحب إجراءات إشهار كل جمعية عوامل مختلفة. لكننا نقولها لأن المتقاعد ليس حدثًا جديدًا ولا طارئًا على المجتمع؛ فهو مواطن خدم بلاده، وقد تقاعد كثيرون قبله، وهي سنة الحياة. فلماذا إذن يأخذ الأمر وقتًا لا يتناسب مع أهمية الموضوع ولا مع قدم الحاجة إليه؟
الغريب أن الطلب ظلّ وما يزال ينتظر في طابورٍ طويل من الأوراق، طابور لا ندري أين يبدأ وأين ينتهي، بينما نشهد بين حين وآخر إشهار جمعيات أخرى، بعضها مهم بلا شك، لكن بعضها لا يبدو أكثر أهمية من جمعية تهتم بآباء وأمهات هذا البلد.
متقاعد، أم مُعلَّق بين الحياة والموت الإداري؟
لماذا يُعامل المتقاعد وكأنَّه خرج من الحياة لا من العمل؟ فبمجرد تقاعده تتوقف عنه علاوة المعيشة، وتتوقف الزيادات السنوية، كأن الأسعار تُخاطب البائع وتقول له: لا تطلّب من المتقاعد، هو الآن خارج اللعبة!
أسعار السلع ترتفع، لكنها لا تسأل عند الدفع إن كان المشتري متقاعدًا لتُخفّض له السعر. المرض لا يقول: أنت متقاعد، سأخفف عليك. والحياة لا تعطيه خصمًا لأنه خدم الوطن عشرات السنين.
المتقاعد لم يتقاعد عن الحياة، فقط توقف عن عملٍ روتيني كان يؤدّيه بعقد. أمّا العمل الحقيقي، عمل الخبرة، الحكمة، المعرفة، التربية، فهم الحياة، فهذا لا يتوقف إلا بانقطاع الأنفاس. هؤلاء كنوز، لا أعباء. أليسوا آباءنا وأمهاتنا؟ أليسوا شباب الأمس؟ فهل يهمل الإنسان العاقل والديه إذا كبرا؟
لماذا يبدو طريق جمعية المتقاعدين غير معبّد؟
السؤال الأكثر إيلامًا: لماذا يتأخر إشهار جمعية إنسانية بحتة؟ هل لأن هدفها العناية بالمتقاعدين وعائلاتهم؟ هل تحسين حياة هذه الفئة يشكل خطرًا سياسيًا أو اجتماعيًا؟ لا نعلم. وربما ينقصنا الخيال لفهم الأسباب.
نشهد، بكل احترام، إشهار جمعيات مهمة، ومنها الجمعية العُمانية للرفق بالحيوان. ونحن هنا لا نقلّل من شأن الحيوان، فهو مخلوق من مخلوقات الله وله حقه علينا، لكن من باب السخرية المهذّبة نتساءل: هل أصبح المتقاعد أقل أولوية من القطط والكلاب؟ هل تحتاج معاملة البشر إلى جمعية أصدقاء الإنسان مثلًا؟
عشرات الآلاف أحيلوا للتقاعد، أين الملاذ؟
في عام 2020، تمّت إحالة أعداد هائلة إلى التقاعد في إطار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، لكن عشرات الآلاف خرجوا من وظائفهم فجأة. بعضهم لم يصل إلى السن القانونية، وبعضهم كانت لديه خطط مالية، أسرية، التزامات، أحلام مؤجّلة، ثم تلاشت تلك الخطط فجأة في لحظة واحدة.
وإذا لم يكن هذا سببًا كافيًا لإشهار جمعية للمتقاعدين، فماذا إذن؟ ألا تحتاج هذه الفئة إلى أمل؟ إلى جهة تدعمهم، تخفّف عنهم، تقدّم لهم ما يمكن تقديمه من خدمات، وتُمكّنهم من مواصلة حضورهم ودورهم في خدمة المجتمع كما اعتادوا؟
سؤالٌ مغلفٌ بالاحترام!
لماذا يُترَك المتقاعد معلّقًا بين ذاكرة العمل وواقع الحياة؟ ولماذا يتم تأجيل إشهار جمعية لا تطلب من الدولة مالًا ولا سلطة؛ بل فقط تصريحًا ليمسك المتقاعدون بزمام أمرهم ويدعم بعضهم بعضًا؟
نحن لا نسأل من باب النقد؛ بل من باب الوفاء. فمن خدم الوطن، يستحق أن يشعر أن الوطن لا يزال يراه. أليس هذا أقل حقوق الإنسان، قبل أي شيء آخر؟