{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].. في هذهِ الآيةِ الكريمةِ يأمرُ اللهُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ بالصدقِ، ولكنْ لم يأتِ الأمرُ به مباشرًا (اصدُقُوا)، وإنما أمرَهُم سبحانه وتعالى أولًا بالتقوى، فالصدقُ والتقوَى لا يفترقانِ، وهل يُوجدُ تَقيٌّ كذوبٌ؟! أو يوجدُ صِدِّيقٌ غيرُ تَقيٍّ؟!
ثم جاءَ الأمرُ بعدَ ذلكَ بالصدقِ بصورةٍ أبلغَ مِن الأمرِ المباشرِ (اصدقوا) فقال سبحانه: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وليسَ هذا مجردَ أمرٍ بتحرِّي الصدقِ فقطْ، وإنما هو أمرٌ بأنْ يلتزمَ المؤمنُ صحبةَ الصادقينَ كما يلتزمُ الصدقَ، وهذا معناهُ أنْ يتشاركَ الصادقونَ في بناءِ المجتمعِ، وأنْ يُنحَّى الكَذَبَةُ المفسدون فلا يكونُ لهم دورٌ يفسدونَ مِن خلالِهِ في المجتمعِ، وهل يَثبتُ بناءٌ أُقيمَ على غيرِ الصدق؟!
فالصدقُ إذنْ فرضٌ مُلتزَمٌ حتى قالَ بعضُ الصالحين: مَن لم يُؤدِّ الفرضَ الدائمَ لا يُقبلُ منهُ الفرضُ المؤقتُ.
والصدقُ كما يكونُ في الأقوالِ يكون أيضًا في الأعمالِ، لا كما يظنُّ البعضُ أنَّ نطاقَ الصدقِ هو الأقوالُ فقطْ، فليسَ هذا الظنُّ صحيحًا، ومما يدلُّ على هذا قولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ففي هذه الآيةِ بيَّنَ سبحانه وتعالى أنَّ البرَّ يبدأُ مِن الإيمانِ.
ثمَّ يدخلُ فيهِ أعمالُ خيرٍ عظيمةٌ تشملُ عباداتِ المرءِ ومعاملاتِهِ ونفعَهُ لِمَن حولَهُ، ثمَّ بعدَ أنْ ذكَرَ اللهُ سبحانه وتعالى هذه الأعمالَ أشارَ إلى القائمِينَ بها بقولِهِ سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، فبيَّنَ أنهم حَصَّلوا الصدقَ بأعمالِهِم الصالحةِ.
وإذا تساءلَ البعضُ عن كيفيةِ الصدقِ في العمَلِ، فنقولُ: كما يكونُ الصدقُ في القولِ بأنْ يكونَ الكلامُ موافقًا للواقعِ المخبَرِ عنهُ دونَ كذبٍ، فإنَّ الصدقَ في العملِ بأنْ يكونَ العملُ موافقًا للوجهِ الذي يرضاهُ الله تعالى غيرَ مخالفٍ له.
فيتمثلُ الصدقُ في القيامِ بواجبِ العِلْمِ واتباعِ أخلاقِ المهنَةِ، وعدمِ التهاون والتقصير في المسئولياتِ، وإذا كان هذا القدرُ قد يُشاركُ المؤمنِينَ فيه غيرُهُم حتى مِن أتباعِ الدياناتِ الوضعيةِ، فإنَّ الصدقَ في الإسلامِ لا يَقِفُ بالمسلمِ عند هذه الحدودِ، وإنما يرتفعُ به إلى معاملةِ اللهِ تعالى، فالصدقُ -كما يقولُ السَّلَفُ الصالحُ- هو الوفاءُ للهِ عزَّ وجلَّ بالعملِ.
والصادقُ -كما يقولون أيضًا- لا تراهُ إِلَّا في فرضٍ يُؤدِّيهِ، أو فضلٍ يَعملُ لربِّهِ فيهِ.
وقد تفضَّلَ اللهُ تعالى على عبادِهِ بأنْ جعلَ دواعِيَ الصدقِ أقوَى وأرسخَ وأصدقَ مِن دواعِي الكذبِ، فالشرعُ يأمرُهُ بالصدقِ وينهاهُ عن الكذبِ، والعقلُ السليم يحضُّ صاحبَهُ على الصدقِ ويبينُ له منافعَهُ في مقابلِ ما يُؤدِّي إليه الكذبُ مِن مهالكَ، والفطرةُ النقيةُ تعرِفَ الصدقَ وتُنكرُ الكذبَ، ومُروءةُ ذِي المروءةِ تمنعُ صاحبَهَا مِن الكذَبِ وتَبعثُهُ على الصدقِ...، فهل بقيَ لغيرِ الصدقِ مِن شيءٍ؟!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الصدق التقوى البر العمل الصالح
إقرأ أيضاً:
حكم بر الأم التى تحرض أبناءها على الأب بعد الطلاق.. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه:"ما حكم بر البنت بأمها التي لم تطالب بحضانتها عند الطلاق، ثم طالبت بالرؤية بعد فترة، وفي أثناء الرؤية تحرضها على الأب وتوقع بينهما، ويحاول أهل الأم لسوء أخلاقهم وانعدام الوازع الديني لديهم تحريضها على خلع الحجاب وفعل كل ما هو غير أخلاقي؟
بر الوالدين
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: إن البر بالوالدين وصلتهما والإحسان إليهما فرض على ولدهما؛ سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وذلك في حدود رضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فالبر لا يعني الطاعة العمياء، وعلى الولد أن يجتنب مواطن الشُّبهة، وألَّا يطيعَ أيًّا منهما في أمره له بالمعصية؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ».
وأضافت: أنه إذا كانت أحوال الأم وأهلها على الوجه المذكور، الذي يجعل البنت تخاف على نفسها من أن تتأثر أخلاقها به؛ فيمكنها أن تكتفي ببر أمها والإحسان إليها والزيارة الخاطفة من غير أن تطيل المكث أو المبيت.
وأشارت الى أن الشرع حرص على صلة الأرحام على وجه العموم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ»، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾» متفقٌ عليه.
ونوهت أن علاقةَ الولد بوالديه مسألةٌ تتعلق بالإنسانية المَحْضَة، فضلًا عن أن تكون مسألةً تحث عليها الشرائع؛ فليس هناك نظامٌ اجتماعيٌّ على مَرِّ التاريخ لم يتمسك بهذه القيمة؛ لذا قال تعالى محذِّرًا مِن المَسَاس بهذه العلاقة مهما يكُن مِن شيءٍ: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾.ونوهت إلى أن البر بالوالدين فرضُ عينٍ؛ فهو عبادةٌ لا تقبل النيابة؛ قال العلَّامة برهانُ الدين ابنُ مازه البخاري الحنفي في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"(5/ 386، ط. دار الكتب العلمية): [وطاعةُ الوالدين وبِرُّهُما فرضٌ خاصٌّ لا يَنُوبُ البعضُ فيه عن البعض] اهـ. بخلاف رعايتهما؛ فإنها فرضُ كفايةٍ.
وبينت أن الإسلام أوجب على الآباء حقوقًا للأبناء تتمثل في تعليمهم وتأديبهم وتوجيههم إلى عملِ كلِّ خيرٍ والبُعدِ عن كلِّ شرٍّ؛ أخْذًا مِن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، لكن هذه المقابلة لا تعني سقوطَ أحدِ الواجبين حال انعدام الآخَر، بل إن هذا الحُكم ثابتٌ حتى في حال أَمْرِهما ولدَهما بالكفر؛ كما سبق في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 15] في توجيهٍ صريحٍ إلى أنَّ الأمر بالبِرِّ مجردٌ عن دِين الوالدين وسلوكهما، وتنبيهٍ إلى عدم التدخل فيما بين العبد ورَبِّهِ.