بعد فترة هدوء في إطلاق أحكام الإعدام وتنفيذها في مصر بالعام الماضي، عاد الملف الحقوقي الأشد قسوة طيلة نحو 11 عاما بحق المعارضين للواجهة مجددا، وذلك بعد تثبيت "محكمة النقض" المصرية، حكما بالإعدام شنقا بحق 7 من المعتقلين المصريين منذ عام 2015.

المحكمة الأعلى بمصر، والوحيدة على مستوى البلاد، بدار القضاء العالي بالعاصمة القاهرة، رفضت الطعون المقدمة من المعتقلين السبعة، وأيدت أحكام الإعدام الصادرة بحقهم، لتصبح نهائية وقابلة للتنفيذ، ولا يمكن التراجع عنها إلا بعفو من رئيس الجمهورية.



ويأتي الحكم ببلد يصنف الثالث عالميا بتطبيق عقوبة الإعدام، بعد الصين وإيران، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية 2021، العام الذي شهد تنفيذ سلطات رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، أكثر عدد لأحكام الإعدام بحق المصريين بـ(83 حكما).

وفي 23 كانون الثاني/ يناير الجاري، ثبتت محكمة النقض، أحكام الإعدام الصادرة في حزيران/ يونيو 2022،  من القاضي محمد شيرين فهمي، ضد المعتقلين: مجدي محمد إبراهيم، ومحمود عطية أحمد عبدالغني، وعبدالوهاب مصطفى محمد، ومصعب عبدالحميد خليفة، وعبدالله نادر الشرقاوي، وعبدالرحمن عيسى عبدالخالق، ومحمود السيد أمين.



ويعد هذا القرار الأول من المحكمة (أنشأت 2 أيار/ مايو 1931)، بحق معتقلين مصريين بعد فوز السيسي، بولاية رئاسية ثالثة حتى 2030، في انتخابات خلت من المنافسين.

أرقام مفزعة
وبهذا الحكم يرتفع عدد المعتقلين الذين صدرت بحقهم أحكام إعدام نهائية باتة واجبة النفاذ 211 مصريا، منهم 105 تم تنفيذ حكم الإعدام في حقهم بالفعل، فيما يواجه 106 معتقلين آخرين تنفيذ الإعدام في أي لحظة، وفقا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا.

وفي تعليقها، قالت المنظمة الحقوقية إن "النظام يمهد لتنفيذ جريمة قتل عمدي جديدة بحق 7 من معتقلي الرأي عبر استخدام القضاء المسيس"، مشيرة إلى إحالتهم في شباط/ فبراير 2015، للمحاكمة الجنائية بتهم هزلية وغير منطقية، واستنادا لتقارير أمنية ملفقة، تتهمهم بـ"وضع مخطط إرهابي من داخل محبسهم بهدف إسقاط نظام الحكم".

وعقب تنفيذ السلطات حكم إعدام بحق 7 معتقلين، مارس/ آذار 2022، قالت منظمة "كوميتي فور جستس"، إن الصمت الدولي عن الانتهاكات الحقوقية في مصر؛ جعل السلطات تتمادى بتنفيذ أحكام إعدام جماعية صادرة عن محاكمات استثنائية افتقرت لأدنى مقومات المحاكمة العادلة.

ورصدت "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" صدور 538 حكما بالإعدام خلال العام 2022، من محاكم الجنايات المدنية، مقابل 403 أحكام في 2021، و295 في 2020.



ووفق رصد "كوميتي فور جستس"، من (2015 إلى 2021)، جرى تنفيذ 105 حكما بالإعدام، بـ23 قضية، 7 منها عام 2015، وحكم واحد في 2016، ليتصاعد تنفيذ الأحكام ليصل 15 حكما في 2017، ثم 14 في 2018، و18 في 2019، ليشهد 2020 تنفيذ 25 حكما بالإعدام، ثم 18 حكما في 2021، ليظل العام 2022 هو الأكثر في تنفيذ الأحكام بـ83 حكما.

وحكمت المحاكم المصرية على ما لا يقل عن 356 شخصا بالإعدام في عام 2021، وهو أعلى عدد من أحكام الإعدام تمكنت "منظمة العفو الدولية" من تسجيله في جميع أنحاء العالم في عام 2021، باستثناء الصين.

ومنتصف 2021، جرى تأييد الحكم الصادر بإعدام 12 من قيادات جماعة الإخوان، هم: "عبدالرحمن البر"، و"محمد البلتاجي"، و"صفوت حجازي"، و"أسامة ياسين"، و"أحمد عارف"، و"إيهاب وجدى"، و"محمد عبدالحي"، و"مصطفي عبدالحي"، و"أحمد فاروق كامل"، و"هيثم السيد العربي"، و"محمد محمود زناتي"، و"عبدالعظيم إبراهيم".

وأدانت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ميشيل باشليت قرار المحكمة في حينه قائلة إنه "نتاج محاكمة غير عادلة".

ووفق رصد "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" فقد تراجع إصدار أحكام الإعدام وتنفيذها بالنصف الأول من 2023، في قضايا جنائية وعلى خلفية سياسية بالمقارنة بالسنوات الماضية، حيث صدر 193 حكما من الجنايات، أيدت محكمة النقض 12 منها، فيما تم تنفيذ 3 منها.

وهو ما يدعو للتساؤل حول دلالات عودة أحكام الإعدام للواجهة بعد فترة هدوء في الأحكام والتنفيذ خلال 2023، وحول علاقة هذا التصعيد بحصول السيسي على الولاية الثالثة 6 سنوات حتى 2030، وما إذا كان النظام يعيد استخدام ملف الإعدامات للضغط على جماعة الإخوان المسلمين.

ينتظرون الإعدام
وفي تعليقه، قال الحقوقي والمحامي المصري محمود جابر فرغلي، إن "أحكام الإعدام لم تغب عن مصر؛ ما زالت السلطة المصرية مستمرة في إصدار الأحكام بالمخالفة لضمانات المحاكمة العادلة، وأبرز الضمانات المفقودة ‏ضمانة المحاكمة أمام القاضي الطبيعي".

مدير "مؤسسة عدالة لحقوق الإنسان"، أضاف لـ"عربي21"، أن "تلك الضمانة التي نص عليها الدستور المصري، حينما قال: لا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي -ومنذ 3 تموز/ يوليو 2013، لا يحاكم السياسيين أمام القضاء الطبيعي".

وأوضح أنه تجري محاكمتهم "أمام القضاء الاستثنائي، المتمثل في القضاء العسكري، وقضاء محاكم أمن الدولة طوارئ، ‏ودوائر الإرهاب التي تشكلت بالمخالفة للدستور المصري، وكذلك خالفت قانون السلطة القضائية".

وأكد أنه "إذا قلنا أننا أمام هدوء فيما يخص أحكام الإعدام، فلا هدوء في ذلك وإنما الهدوء النسبي هو في تنفيذ الأحكام -‏أعتقد أن الظروف الاقتصادية والسياسية المتدهورة في مصر كانت سببا في التأجيل وإرجاء تنفيذ الأحكام".



وأعرب عن أمنيته في عدم تنفيذها قائلا: "نرجو من الله أن لا يتم تنفيذها، وأن يعود هذا النظام إلى عقله وإلى إنسانيته وإلى ضميره وإلى القانون وقواعد العدالة مرة أخرى، ‏لمراجعة تلك الأحكام ‏الجائرة التي صدرت في غيبة من العدالة والقانون".

‏فرغلي، لفت إلى أن "لديه إحصائيات تقول إن أكثر من 100 مواطن ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام، كلهم متهمون في قضايا ذات طابع سياسي، وكل الأحكام التي صدرت لهم بالإعدام  على أساس باطل".

‏وأكد أن "السلطة المصرية أساءت استعمال عقوبة الإعدام، وهي كما نقول استخدمتها لأجل تصفية الخصومات السياسية، ولجأت إلى أحكام الإعدام لأجل أن تقتل المعارضين وتتخلص منهم من خلال أحكام قضائية شكلا، ولكنها ليست عادلة بالمرة".

استباق للفوضى
ويعتقد القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور جمال حشمت، أن "ما يحدث في مصر استباق لأي فوضى قد تحدث في البلاد، لترهيب الجميع، كما أن ما بعد طوفان الأقصي  ليس كما قبلها".

السياسي المصري والبرلماني السابق، أكد لـ"عربي21"، أن "هناك توجه دولي لمحاصرة الحاضنة الشعبية لحركة المقاومة الاسلامية (حماس)، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين".

وأضاف: أنه "رغم كل ما فعله لمواجهة الإخوان، والذي بدأ بالقتل في الشوارع والسجون، وينتهي بالإعدامات في السجون، وبينهما حصار واضطهاد واستيلاء على الأموال، والحرمان من حقوق المواطنة بقوائم الإرهاب؛ إلا أن النظام مازال يضع الإخوان على رأس قائمة أعدائه".

وبين أنه "لا يترك فرصة لحوار أو مراجعة، حيث أن ظروف مصر الاقتصادية والسياسية تضعها على فوهة بركان، ولن يستطيع أحد بالعنف والقهر أن يضمن الهدوء والاستقرار في وطن ضاعت آماله، وتعذب حاله، وأهدرت كرامته، وساءت سمعته في العالمين".



وخلص حشمت، للقول: "ومازلنا نبحث عن عقلاء يدركون حجم الخطر الذي يواجه مصر بهذه الفترة الحرجة، بعد أن استنفذ النظام كل تجاربه التي أهدرت ثروات البلد، وضيعت مقدراته التاريخية، وأفسدت الحياة، ومرغت كرامة الشرفاء، علي أيدي من لا يخافون من الله ولا يستحون".

الموت الحقيقي
وفي رؤيته، قال القيادي في جماعة الإخوان المسلمين والحقوقي المصري الدكتور أشرف عبدالغفار، إن "السيسي، ونظامه لن يتغيروا، فمنهجم منهاج قسوة وكراهية للشعب".

وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف أن "السيسي لم يجد نفسه يوما محبا للشعب أو يرغب بالتعاطف معه، وبكل مناحي الحياة لا يعامل الشعب بتعاطف أو محبة، فلا طعام ولا احتياجات أساسية وانهيار اقتصادي تام، وهدم لكل مقدرات الدولة".

وعن أحكام الإعدام، يرى عبدالغفار، أن "بقاءه بالحكم مرتبط بالقسوة والشدة والترويع والخوف، ولقد تحولت مصر منذ انقلاب 2013، لجمهورية وأرض الخوف، فلا أحد يأمن على نفسه، والقضاء مطية بقدم الحاكم، والشرطة والجيش يعيشون العداء مع الشعب والاستعلاء عليه".

ولفت إلى أن مصر السيسي، التي تنفذ أحكام الإعدام بحق أبنائها "أصبحت لا قيمة لها ولا وزن بين الدول، واعتادت تجويع شعبها ولم تجد غضاضة بتجويع الفلسطينيين"، مبينا أنها أفعال تأتي في ظل "غياب محاولات المعارضة الكرتونية لفعل أي شيء حقوقيا أو سياسيا، فقد صارت جزءا من حالة البؤس التي تعيشها مصر".

وكحقوقي مصري، قال: "منذ بداية الانقلاب نطالبها بالتوجه للمحاكم والمحافل الدولية لعل وعسى، ولكنها معارضة وجدت ليستمر الانقلاب، ولا دليل على غير ذلك".



وأكد: "من أمن العقوبة أساء الأدب والخلق والفعل"، متسائلا: "هل اعترض أحد على من أعدموا قبلا؟"، مجيبا: "للأسف لا"، مضيفا: "فما الذي يمنعه من إعدام الآخرين، أو حتى إعدام الشعب نفسه".

وختم بالقول: "هو فعلا يعدمهم بالبطئ، فيموتون جوعا وفقرا وقهرا، ومع غياب أي مستقبل لهم، وإغلاق منافذ الأمل وهدم القيم، إنه الموت الحقيقي، ولعل الله يبعث فيهم وفينا الحياة والنخوة والغضب من جديد".

رهائن للمساومة
وفي تعليقه، قال السياسي المصري الدكتور عزالدين الكومي: "النظام يستخدم المعتقلين كرهائن لديه، ليس من جماعة الإخوان المسلمين فقط، بل حتى من الاتجاهات الأخرى، من أمثال محمد عادل، وعلاء عبدالفتاح، ليساوم بهم كلما سنحت فرصة للمساومة".

عضو لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان المصري سابقا أضاف لـ"عربي21": "وبالفعل إصدار أحكام الأعدام النهائية بهذه الصورة ليس لها إلا تفسيرا واحدا، وهو أن النظام يستدعى التنفيذ إذا لزم الأمر، أو يُبقى التهديد بالتنفيذ عصا مسلطة على رقاب من يفكر فى المعارضة، ليضمن استمرار حالة الصمت سيدة الموقف، اليوم".

وأكد أنه "من المعلوم، أن هذه القضايا ما هي إلا نوع من الانتقام السياسي ضد من يفكر في المعارضة، لأنها تفتقد لأبسط مقتضيات العدالة، ويتم نزع الاعترافات من المعتقلين تحت التعذيب الممنهج".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مصر النظام السيسي الإخوان مصر السيسي الإخوان الاعدام النظام المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جماعة الإخوان المسلمین أحکام الإعدام حکما بالإعدام لحقوق الإنسان تنفیذ الأحکام هدوء فی فی مصر

إقرأ أيضاً:

الانتظار بوصفه فكرة أو ذاكرة

قد يجد القارئ فـي قراءاته المتعددة موضوعات يعبّر عنها الكاتب بأسلوب أدبي يوظف من خلالها الفكرة التي يدعمها. يمكن أن يتمثل الموضوع فـي لحظة طارئة تسيطر على الكاتب لحظة الكتابة، أو فكرة يستعيدها عبر ذاكرة معينة. كثيرا ما نجد موضوعات تشغل الكُتّاب فـي كتاباتهم الإبداعية كالموت، والرحيل، والحب، والوداع، والحزن، وغيرها. ومن الموضوعات التي نلمسها عند غير كاتب موضوع «الانتظار»؛ إذ يخرج من كونه لحظة وقتية إلى تعبير فني، أو صورة مبتكرة، أو استعادة لذاكرة مرّت ببال الكاتب. ولو تتبعنا موضوع الانتظار فـي الكتابة الإبداعية لوجدناه موضوعاً شائقاً، متعددة طرق التعبير عنه؛ لذا سأقف فـي قراءتي هذه على نماذج (شعرية وسردية) من الأدب العماني.

ففـي قصيدته (انتظار) ضمن مجموعته (غيابات الجُب: 2000) يستخدم علي المخمري دلالات المخاطب الأنثى فـي تعبير يدل على أفعال المجيء، ودلالات الانتظار. ولعل دلالات الانتظار هنا تحمل بُعداً زمنياً متسعاً يقابله فعل الانتظار هذا؛ فالمخاطب هنا منذ لحظة المجيء لا يحمل سمة ظاهرة، ولا يعبّر عن كيان واضح إلا أنّ فعله يدلّل على معادل الحفر والنقش داخل منطقة الذاكرة.

تأتين من وقت كثيف بالأشياء

تهمزين أفلاك الأحلام الدائرة

لا أسماء لكِ ولا عناوين

تأتين كريح صلبة

تنحت فـي جدران قلوبنا

طرق معاول الفلاحين

فـي أرض متعبة

تأتين لتبحثي عن قصبة

فـي رأس رئة مفقودة.

يعد الانتظار عند المخمري تعبيراً داخلياً نبش الذاكرة واستقر بها؛ نجد دلالات الفعل «تأتين» المتكرر ثلاث مرات فـي النص تقابله الأفعال «تهمزين»، و«تنحت» و«تبحثي» التي تضمر تعبيراً عميقاً فـي الذات.

كذلك؛ فإن تزاحم اللحظة بالأشياء والأحلام يجعل المُنتظِرَ فـي دوامة الحيرة والشك دون «أسماء ولا عناوين»، و«كريح صلبة»، و«كطرق معاول الفلاحين فـي أرض متعبة»، فكلها إحالات على لحظات مفتوحة للحيرة. إنّ الانتظار غامض، والمُنتَظَرُ كسراب لا يمكن الحصول عليه، هكذا تبدو دلالات الانتظار فـي النص.

ويعيد المخمري رسم صورة (الانتظار) مرة أخرى فـي مجموعته (نفاث: 2013). إنها صورة متداخلة مع الأشياء، عميقة فـي تناولها، تتّحد الصور فـيها لتشكّل لحظة مرتقبة يحاول النص الإفصاح عنها:

هناكَ..

مكانٌ للانتظار

فـي زاويةٍ ما

لم تُوصِلني جميع الطرق إليه

يمكن القول: إن المخمري يُعدّد الصور، ثم يبعثرها باحثاً عن دلالات مؤقتة للصورة الرئيسة، فمكان الانتظار موجود، ولكنّ الطرق لا توصل إليه، هذا تعبير بسيط لمفهوم الانتظار، لكن الصور تتوالد بعد ذلك:

غَسَلتُ قَدَمِي بِطِينِ الأَسْمَاك

وواصلتُ المسير

التاريخ قمر صناعي

والخوف شَحَاذٌ فـي الطريق

بأكياسٍ مِنَ المَطرِ

عَبَرْتُ غَابات الحُب

هلّلتُ لقرونٍ أُنثوية

أَسْنَدْتُ رأسي لأكتاف الصورة

وَعَقَدْتُ مَعَ أَشْجَارِ الآسِ

مُعَاهَدَاتِ الضَّبَاب

لكن الأشباح

أَرْسَلت العاصفة.

توالد الصورة هنا لا يقتضي إلا لحظة مرتقبة يحاول الشاعر العثور عليها، ولعلها لحظة هلامية لم يصل إليها الشاعر بعد، وخاتمة النص تشير إلى ذلك:

الأجُوبَةُ تَتَقاطرُ دَماً

ومَا زَالَ الجِنْسُ البشري

يُصرُّ على الأسئلة.

ويستخدم صالح العامري ضمير المتكلم فـي نصه السردي (انتظار) ضمن مجموعته (منطاد دائخ: 2020) معبراً عن مدة زمنية تطول، مفتتحاً نصه بـ«عشرون عاماً، دون أن أكون موجوداً أبداً، علقني الغيب فـي جوفه. عشرون عاماً قاس بفرجاره الهندسي هطول قطرتين من بين تجاويف السحب المتراكمة الصخّابة فـي الأعالي، عشرون عاماً اضطلع كيهوذا بأن لا يرتعش ولا يتململ، وأن يصبر على شهوته الأنانية، منطوياً على أكاذيبه وخدعه التي سوف تنفجر -وا أسفاه- تحت طعنات الغواية التي لا تُحتمل، الغواية التي لا تكل ولا تحنث بوعدها على مرأى من النجوم، والحشرات الطنانة، والأعشاب السائبة التي لا تعرف لها بذور». هنا يشتغل العامري على لغته العميقة مولداً الخيالات التي يسوقها اللفظ، ومعبراً بلسان المتكلم عن الذات المنعتقة من ألم الانتظار الذي يفتح رؤية الآخر العميقة «كنت هناك فـي تلك السنين الخوالي، متعاطفاً مع العدم، مؤازراً عضد الغيب؛ كي يكون حروناً وجافلاً مثل طينتي العصية».

يحاول العامري أن يجعل من الانتظار لحظة غيبية، يتشكل منها النص السردي، وينفتح على المستقبل المنتظر؛ لذا نجد الأفعال تتوزع بين زمنين: الماضي والحاضر، وبينهما تطول المدة، وتظهر الذات منكسرة، محملة بتبعات الزمن الطويل، ومقيدة بدلالات الرموز البارزة فـي الكلام. نجد الدلالة الزمنية الحاضرة تغرق فـي اشتغالات اللغة، والخيال، والرمز معبّرة عن اللحظة الآنية المتشكل منها الحاضر: «أرخيت حبالي للغيب كي يسرف فـي الانتظار، وينحسر مد النبوءة. بالغت فـي أن أعلف النوق كي أغويها؛ لكي تتشرد فـي التيه والصحارى عوض أن تبرك فـي مناخاتها المزرية. نفخت فـي رحم القرية أن لا تلد أي حطام أو أية بذرة سقيمة مثلي. رجوتُ السماء أن تتمدر، والأرض أن تتعطش؛ كي تلد خلقاً آخر، وحدائق، وحيوانات، وحشرات لائقة منذورة للفرح.

لكن رجلاً قروياً وامرأة قروية لم يكن باستطاعتهما أن يسكتا عن شرّي وعن نشيدي، خصوصاً وأنّ البحر يركلهما كل مساء بموجاته الهائجة، وأنّ الصيف يلفهما فـي حُرَقِهِ وشهواته، وأن الغرائز العارية لا تقوى على القبر والدفن. ولهذا كان على الانتظار أن ينفجر، وعلى الصبر أن يندك كأي قلعة تافهة».

أما سعيد الحاتمي فـيقدّم قصته (انتظار) فـي مجموعته (عصفور أعزل يضع منقاره فـي وجه العالم: 2016) عن مكان محدد ولحظة محددة، يحاول معها صنع فكرة واقعية للحظة الانتظار؛ فالحشود التي اجتمعت فـي رأس الحد كانت تنتظر لحظة مختلفة على غير العادة. الوقت كان ممتداً منذ العصر. أناس تختلف طبائعهم وأمكنتهم جعل منهم الانتظار هدفاً لمشهد درامي متكامل استطاع السرد أن يصف النفسيات، ويوضح الهيئات:

«فـي رأس الحد كان البحر يؤرجح قمراً جذلاً بالقرب من الشاطئ.

الالتواءات الصخرية التي نبتت فـي الماء تلمع بهدوء. بشر قليلون توزّعوا على الرمل منذ العصر. الرجل الذي جاء من أدم فرش لأبنائه الثلاثة وأمهم بجانب السيارة التي أوقفها قريبا من المكان. زوجان هنديان قضيا نهارهما فـي الفندق الصغير الموجود فـي المحمية، وخرجا بعد أن غربت الشمس. ثمة عائلتان صغيرتان وصلتا للتو. بين فترة وأخرى ينظر أحد الموجودين إلى ساعته، ثم يتحدث مع حارس المحمية الذي يتردد على السياح القليلين. يظهر تعجبه ولكنه يطلب منهم الصبر والتريث.

كل الأعين مصوّبة على الشاطئ حيث تدفن سلحفاة صغيرة نفسها فـي الرمل، ولا تفكر فـي الخروج هذه الليلة. يوغل الوقت فـي الظلمة، ويبدأ الأطفال الذين وصلوا قبل المغرب فـي التململ. كان غيلما شابا لا يراه أحد يسبح فـي المياه الضحلة، وسئم هو الآخر من انتظار سلحفاة تعود من الشاطئ كي يرافقها إلى المحيط. حين بدأ القمر الذي كان يتأرجح على الشاطئ ينسحب إلى العمق قرر زوجان هنديان خمدت حماستهما أن يعودا إلى الفندق، ويكملا ما بدأه منتصف نهار هذا اليوم...».

تتكشف حالة الانتظار عن مشهد طبيعي لسلحفاة ترفض الخروج أمام الناس. إن لحظة الانتظار هنا تمتد وتُدخل السأم إلى النفوس، فـيما حارس المحمية يطلب منهم الصبر والتريث. لم يكن الانتظار إلا شغفاً ينشده المتجمهرون لرؤية بصرية، السلحفاة محور الانتظار، والتجمهر حدثٌ يتشكّل إثر واقعة ينتظرها الجميع. السارد يتلاعب بعنصر التشويق، ويشد القارئ إلى حكايته.

ماذا بقي؟ لحظة الانتظار تبخّرت، أصبحت سراباً، فالسلحفاة ذات تأثير كبير فـي صنع حدث الانتظار.

يمكن القول: إنّ حالة الانتظار تدفعنا أحيانا إلى التعبير عن الأشياء، ووصفها وصفاً متخيلاً يثير الحالة الشعرية عند القارئ، وهي تختلف باختلاف الأمكنة والهيئات والزمان، وهذا ما يجعل من هذه اللحظة فكرة يمكن أن يطاردها الكاتب، ويصنع منها إبداعاً مختلفاً.

مقالات مشابهة

  • 14 يونيو.. نظر الدعوى المطالبة بوقف إعدام نورهان خليل «المتهمة بقتل والدتها»
  • بعد أحكام الإعدام والمشدد.. ما الموقف القانونى للمتهمين فى قضية داعش قنا؟
  • الانتظار بوصفه فكرة أو ذاكرة
  • لا للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الأحكام الشرعية بماليزيا
  • الرئيس السيسي يتابع مُستجدات تنفيذ المشروع القومي لتطوير صناعة الغزل والنسيج
  • بعد أحكام الإعدام والمشدد.. محطات مهمة فى قضية داعش قنا
  • أندية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدعم ابن سليم في «ولاية جديدة» لرئاسة «دولي السيارات»
  • العوفي: بدء تنفيذ 6 مشروعات جديدة لإنتاج الطاقة المتجددة من الرياح والشمس
  • قصة نجاة حاج سوري من الموت قبل نصف ساعة من تنفيذ الإعدام.. فيديو
  • النقل: تشغيل أبراج إشارات جديدة ورفع كفاءة 190 كم من خط "بنها - بورسعيد"