بعد أيام قليلة من تحذير المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من أن استمرار الحرب في السودان سيؤدي إلى تدفقات جديدة للاجئين والمهاجرين الراغبين في قطع البحر الأحمر المتوسط نحو الجانب الأوروبي عبر ليبيا وتونس، أعلنت سلطات هذه الأخيرة، الخميس، عن مقتل 13 مهاجرا سودانيا قبالة سواحلها الشرقية.

وتأتي الحادثة الأخيرة التي فقد على إثرها 27 مهاجرا آخر، في وقت يواصل فيه آلاف اللاجئين السودانيين الفرار هربا من النزاع المندلع في بلادهم قبل حوالي 10 أشهر، بحثا عن ملاذ آمن في دول الجوار، حيث لا تلوح مؤشرات التهدئة في الأفق، بعد أن فشلت الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إجراء محادثات سلام بين قائدي الجيش وقوات الدعم السريع المتحاربين، حتى الآن.

وقال المسؤول الأممي عقب زيارته مطلع الأسبوع الجاري، إلى السودان وإثيوبيا إنه “إذا لم يوقع اتفاق على وقف إطلاق النار في وقت قريب بين الأطراف المتحاربة في السودان، وتعزيز جهود الإغاثة، سيبحث اللاجئون عن ملاذ آمن في الدول المجاورة”، حيث دمرت الحرب البنية التحتية للبلاد، وترتبت عليها تحذيرات من المجاعة ونزوح الملايين داخل البلاد وخارجها.

وأضاف غراندي: “يشعر الأوروبيون بالقلق دوما بشأن المهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط، وأنا أحذر إذا لم يجر دعم مزيد من اللاجئين الفارين من السودان، أو حتى هؤلاء النازحين داخل السودان، فسنرى تدفقات جديدة تتحرك صوب ليبيا وتونس.. لا شك في ذلك”.
اللاجئون السودانيون في ليبيا وتونس

وتمثل ليبيا، إلى جانب جارتها تونس، نقطة الانطلاق الرئيسية لآلاف المهاجرين الأفارقة الطامحين في الوصول إلى الجانب الآخر من البحر المتوسط.

وإلى حدود أواخر الشهر الماضي، بلغ عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى ليبيا التي تتشارك في حدود برية مع السودان، نحو 31 ألفا، وباتوا يمثلون أكثر جنسية لاجئة في البلاد، بعد أن تجاوزوا خلال العام الأخير، القادمين من سوريا وإريتريا وإثيوبيا.

وعلى مدار الأشهر الماضية، يعلن خفر السواحل الليبي والإدارة العامة لأمن السواحل، بشكل دوري عن إحباط عشرات عمليات الهجرة نحو الجانب الأوروبي.

وتكشف آخر أرقام مفوضية شؤون اللاجئين اللاجئين والسلطات الليبية، أن عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين وصلوا من السودان، ففي آخر المعطيات الصادرة التي تخص شهر يناير الماضي، مثلا، كان من بين 429 شخص حاولوا الوصول إلى السواحل الإيطالية، 70 سودانيا.

وإلى تونس أيضا، تضاعف تدفق اللاجئين السودانيين أيضا من 513 شخصا في يناير 2023 إلى 5.850 شخصا في يناير الماضي، وفقا لسجلات مفوضية اللاجئين.
مئات الآلاف من النازحين بتشاد

ووفق أرقام الأمم المتحدة، أجبر أكثر من 7 ملايين سوداني على الفرار من منازلهم، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى دول الجوار، وتحديدا نحو تشاد ومصر وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا، وهي الدول التي تعاني بالفعل من مشاكل اجتماعية واقتصادية، وتستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين والنازحين.

واستقبلت تشاد، الدولة الواقعة في وسط أفريقيا، أكبر عدد من اللاجئين السودانيين، بعد وصول حوالي 546 ألف شخص منذ بداية الحرب شهر أبريل الماضي، بحسب آخر حصيلة صادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

واتسعت دائرة القتال الذي اندلع في الخرطوم بين الفصيلين العسكريين المتناحرين، ليصل إلى أجزاء واسعة من السودان، بما في ذلك إقليم دارفور، الذي يشهد أعمال عنف واسعة النطاق، تجدّد مخاوف اشتغال التوترات العرقية والطائفية القديمة هناك.

ودفع تحول ولاية غرب دارفور إلى بؤرة للصراع وانتشار أعمال العنف ضد المدنيين، آلاف السكان للجوء إلى شرق تشاد المتاخم للإقليم.

ويستمر وصول اللاجئين السودانيين إلى تشاد التي تعد واحدة من أفقر دول العالم، لينضافوا إلى أكثر من 180 ألف لاجئ كانت تستضيفهم قبل الأزمة الأخيرة.

وتشير التقارير الأممية، إلى أن عمليات الإغاثة ودعم الوافدين الجدد نحو شرق تشاد، تواجه تحديا كبيرا يتمثل في توفير المياه الصالحة للشرب وخدمات التطهير، مع تصاعد مخاوف انتشار أمراض وأوبئة.

وقالت لورا لو كاسترو، ممثلة المفوضية في تشاد: “إن الاحتياجات هائلة حقا فيما يتعلق بالحماية ومواد المساعدة، ومن حيث المأوى والمياه ومرافق النظافة. وقد تم حتى الآن إنجاز الكثير من العمل”، لكنها تشدد على أن “الاحتياجات لا تزال هائلة”.

وأضافت: “نحن بحاجة إلى الأموال لإنشاء مخيمات أخرى للاجئين لأنه لا يزال هناك 150 ألف شخص في إقليم أدريه ممن ينتظرون نقلهم إلى أماكن أخرى”.

من جهتها، حذرت منظمة “أطباء بلا حدود”، في نوفمبر الماضي، من أن الآلاف من الأطفال السودانيين اللاجئين مع عائلاتهم إلى تشاد، يعانون حالة “مقلقة” من سوء التغذية الحاد، داعية إلى تقديم “مساعدات غذائية طارئة”.
مصر

واستقبلت الجارة الشمالية مصر، ثاني أكبر نسبة من اللاجئين من السودان، حيث وصل منذ بداية الحرب حوالي 450 ألف سوداني، بالإضافة إلى 8827 ألف شخص من جنسيات أخرى، وفقا لأحدث الأرقام التي نقلتها مفوضية اللاجئين عن الحكومة المصرية.

ويواجه اللاجئون السودانيون في مصر صعوبات كبيرة، بعد أن استنزف الكثيرون مدخراتهم لدفع تكاليف رحلاتهم والوصول إلى بر الأمان.

ومع الصعوبات التي تمر بها البلاد في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة، يصارع اللاجئون من أجل تغطية احتياجاتهم الأساسية، وفقا لموقع مفوضية اللاجئين.

وفي يناير الماضي، ذكرت المفوضية، أنه كانت هناك زيادة ملحوظة في موجات دخول السودانيين وإقامتهم غير النظامية في جميع أنحاء مصر، وخاصة في مناطق بجنوب البلاد.

ويذكر أنه قبل اندلاع الحرب في السودان، كانت مصر تستضيف ما يصل إلى 300 ألف لاجئ، ينحدرون من 55 جنسية.

ومع نهاية شهر يناير الماضي، تجاوز عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين لدى المفوضية التي تعنى بشؤون اللاجئين 500 ألفا.

ويمثل السودانيون المسجلون أكثر من نصف العدد (232 ألف)، يليهم اللاجئون وطالبي اللجوء من سوريا (155 ألف)، ثم من جنوب السودان، وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال والعراق، بنسب متفاوتة.

وفقا لتقرير صادر عن منظمة اللاجئين الدولية، غير الحكومية ، فإن معظم السودانيين الذين وصلوا إلى مصر “يعيشون في أحياء فقيرة وغير آمنة ويعتمدون على مساعدات المنظمات الإنسانية، من أجل الحصول على حاجياتهم الأساسية.

وفي حين تدعم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “وصول اللاجئين إلى الخدمات الصحية والتعليمية وضمان قدرة اللاجئين وطالبي اللجوء الضعفاء على تلبية احتياجاتهم الأساسية”، يكشف التقرير أن “الطلب المتزايد ونقص التمويل يتركان الكثيرين ينتظرون لأشهر دون استجابة”.
إثيوبيا

وإلى إثيوبيا، فر نحو 50 ألف لاجئ من المعارك في السودان، بينهم 31 ألف سوداني، وحوالي 6700 لاجئ إثيوبي اضطروا للعودة إلى بلادهم، إضافة إلى 9741 لاجئ أو طالب لجوء من جنسيات أخرى.

وتستضيف إثيوبيا واحدة من أكبر تجمعات اللاجئين والنازحين داخليا على مستوى العالم. وباعتبارها ثالث أكبر دولة مضيفة للاجئين في أفريقيا، فهي حاليا موطن لحوالي مليون لاجئ، معظمهم من جنوب السودان، والصومال، وإريتريا، والسودان، بالإضافة إلى ما يقدر بنحو 3.5 مليون نازح إثيوبي.
جنوب السودان

يصل عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى جنوب السودان: 541 ألفا، بينهم 102 ألف سوداني و 424 ألف لاجئ من جنوب السودان، اضطروا أيضا للعودة نحو ديارهم.

وقال برنامج الأغذية العالمي، إن “مواطني جنوب السودان الذين يشكّلون تقريبا غالبية اللاجئين الذين يصلون إلى بلدهم، يعودون إلى دولة تواجه أصلا حاجات إنسانية غير مسبوقة”.

وأضاف: “الأشخاص الذين يصلون اليوم هم في ظروف أخطر من ظروف العائلات التي فرت في الأسابيع الأولى من الصراع”.

وأشارت المنظمة إلى أن الأمطار الغزيرة التي ألحقت أضرارا بالمخيمات المزدحمة والمعابر الحدودية، أدت إلى تدهور الظروف المعيشية وتفاقم انتشار الأمراض.
أفريقيا الوسطى

منذ اندلاع الحرب بالسودان، وصل 22 ألف لاجئ سوداني إلى أفريقيا الوسطى، كما عاد إلى البلاد أزيد من 6 آلاف لاجئ كانوا قد فروا نحو السودان.

وتحذر تقارير دولية من أن استمرار تدفق اللاجئين الفارين من الصراع الكارثي في السودان، سيفاقم الأوضاع الإنسانية بجنوب أفريقيا الوسطى، حيث تواجه هذه الأخيرة، بدورها مستويات عالية للغاية من انعدام الأمن الغذائي ونقص في الوصول إلى المياه والصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليم.

ومطلع سبتمبر الماضي، أكد منسق الأمم المتحدة المقيم في جمهورية أفريقيا الوسطى، محمد أيويا، أن وصول الفارين من السودان، يضع عبئا إضافيا على السكان المحليين الذين اضطروا إلى استقبالهم و”تقاسم القليل مما تبقى لديهم من الطعام والمياه والخدمات في تلك المناطق”.

وكان المسؤول الأممي، قد دعا المجتمع الدولي إلى “عدم خذلان الناس في جمهورية أفريقيا الوسطى مع اشتداد الأزمات العالمية والإقليمية”، لافتا إلى تراجع تمويل الاستجابة الإنسانية للبلاد خلال 2023.
دعوات أممية للمساعدة

والأربعاء، وجهت الأمم المتحدة نداء لجمع 4.1 مليار دولار لتلبية الاحتياجات الإنسانية للمدنيين الذين يئنون تحت وطأة الحرب في السودان، وكذلك أولئك الذين فروا إلى دول مجاورة.

وتقول الأمم المتحدة، إن نصف سكان السودان، أي نحو 25 مليون شخص، يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والحماية، في حين فر أكثر من 1.5 مليون نحو دول الجوار.

ودعا مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في نداء مشترك، مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، إلى تمويل بقيمة 2.7 مليار دولار لتقديم مساعدات إنسانية إلى 14.7 مليون شخص.

وطلبت المفوضية 1.4 مليار دولار لدعم ما يقرب من 2.7 مليون في خمس دول مجاورة للسودان في إطار النداء.

الحرة

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: اللاجئین السودانیین لشؤون اللاجئین أفریقیا الوسطى الأمم المتحدة جنوب السودان ینایر الماضی من اللاجئین فی السودان من السودان ألف لاجئ أکثر من

إقرأ أيضاً:

العاقل من اتعظ بغيره!

نسوق هذا العنوان الذي ذهب في الناس حكمة ومثلاً بين الأنام، من وحي محاضرة للبروفيسور جون ميرشايمر عن أسباب خسارة أوروبا وأمريكا للحرب في أوكرانيا. وبروف ميرشايمر هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيكاقو والذي يعد كما قالت العرب قديماً ، أشهر من نار علي علم وهو من أشجع الشخصيات الأكاديمية الناقدة للسياسة الخارجية الأمريكية في معية صنوه جيفري ساكس.

يتحدث ميرشايمر في هذه المحاضرة عن ماذا بعد هزيمة أوكرانيا وخسارة أوروبا لرهانها بكسب أوكرانيا بالكامل وهو الهدف الذي جعلته ركيزة استراتيجية لأمنها وأمانها من أي خطر محتمل ينطلق من روسيا. ابتدر الحديث بالقول إن أوروبا لم تدر بعد أنها قد خسرت الحرب ، ليس داخل حدودها ولكنها خسرتها في أوكرانيا وليس في ساحات المعارك بل علي طاولة اتخاذ القرارات، فأوروبا ولسنوات قد جعلت من أوكرانيا خطاً أحمراً لأمنها إذا تم تجاوزه خسرت أوروبا أمنها والآن تتحدث الحقائق وقليلا ما تفعل، بأنها قد خسرت الرهان فالاستراتيجيات الخاطئة يدفع ثمنها المخططون !

يدلل المحاضر علي هزيمة أوكرانيا بخسارتها لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا ومناطق أخري قد تتمكن روسيا من اجتياحها، وبذلك تكون روسيا قد حققت أهدافها في الحرب بخلق منطقة عازلة تبعد عنها خطر حلف الأطلنطي المحتمل أيضاً، الإحتمالات تلك وليدة الهواجس والتي ولدت ما يعرف بتوازن القوى الذي كان سبب حروب أوروبا جميعاً عبر التاريخ. وكانت روسيا تطالب بهذه الضمانة قبل الحرب بعقود بألا يضم حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي أوكرانيا لكي ينام الروس دون هواجس وكوابيس، وفي مقابل ذلك تتعهد روسيا باحترام سيادة أوكرانيا على أراضيها كدولة مستقلة وهو ما تعهد به الرئيس الأمريكي كلينتون للرئيس الروسي بورس يلسن تسعينيات القرن الماضي . والتعهدات اللا-مكتوبة ، تصبح كأحاديث الليل التي تمليها البهجات والنزوات العابرة فيمحوها النهار!

والذي يعرف صلة أوكرانيا بروسيا قد يستوعب ضراوة قتال الروس واستبسالهم من أجل الحيلولة دون انضمامها لحلف الاطلنطي والاتحاد الأوروبي فهي في قرارة دواخلهم جزء أصيل من الأراضي الروسية خاصة الأجزاء المتاخمة لها في الشرق و قد كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي وقبل ذلك كانت علاقاتها بروسيا علاقات ثقافة وتاريخ ودماء مشتركة فناكيتا خروشوف، أشهر رئيس وزراء للاتحاد السوفيتي، أوكراني الأصل وهو الذي أعاد جزيرة القرم إلي جمهورية أوكرانيا ، إحدى جمهوريات الاتحاد في ذلك الوقت بعد أن كان قد انتزعها منها سلفه جوزيف استالين، وميكال غورباتشوف صاحب الغلاسنوست والبروستوريكا اللتين أودتا بالاتحاد السوفيتي وبمنظومة دول الكتلة الشرقية الاشتراكية، أمه أكرانية وكذلك الروائي المنشق والمفكر الكساندر سولجنستين الحائز علي جائزة نوبل للسلام عن كتابه “أرخبيل الغولاق” الذي كشف فيه عن معسكرات العمل السوفيتية الرهيبة وغيرهم.

يقول ميرشايمر إذا انتهت الحرب بتوقيع سلام علي حال الهزيمة التي لحقت بأوكرانيا الآن، تكون أوكرانيا قد فقدت إلي جانب أراضيها تماسك نسيجها الاجتماعي المكون من هجين تمثله مسيحية أورثوذكسية في الشرق وثقافة ولغة روسية، وبين مذاهب في المسيحية أقرب للسائدة في غربها مع ثقافة هي بعض وجدان أوروبا الغربية تشظت بفعل الحرب والاستقطاب المصاحب لها وأصبحت البلاد معترك صراع بين الشرق والغرب، ويرجح الكاتب أنها ستظل ، إن ظلت باقية، مثخنة الجراح بشعب فقد الشعور المشترك بالوطن الموحد وباقتصاد ضعيف وهواجس دائمة. وفي ظل تناقص الاهتمام الأمريكي بأوروبا الذي جعل الصراع العسكري والاقتصادي والتقني مع الصين في جنوب الباسفيكي أولوية قصوي ، عاملا يحتم علي أوروبا الإنفاق الهائل علي أمنها علي حساب رفاه شعبها ونموها الاقتصادي حتي لو تلقت بعض الدعم الأمريكي وهو في حده الأدني سيكون متاحاُ.

أوردت هذا الكلام في محاولة لإسقاط مآلات ما حاق بأوكرانيا من حرب استخدمت فيها كمعتركً فقط من قبل محيطها الإقليمي ومن قبل المحيط الدولي الذي تمثله أمريكا وحلفاؤها في الاقليم ومن وراء الاقليم لتحقيق غايات بعينها لتلك الدول لا لأوكرانيا وشعبها ، آملاً أخذ العبرة بأن لا نصير في السودان إلي ما صارت إليه أوكرانيا أو ما ستصير إليه، ساحة قتال لا ناقة لها فيها ولا جمل . أوكرانيا في خط تماس بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية الذي ظل يشتعل لاعتبارات عرقية ودينية وثقافية فيتسبب في هلاك الملايين مرة باسم الخلاف المذهبي في المسيحية ومرة باسم الأيدولوجيات الشيوعية والليبرالية ولكن يظل لحمته وسداه العرق والدين والتاريخ.

حساب الأطماع الآنية أو بعيدة المدي قليل. وهذا الأخير تجريد لمخاوف الأمن . وجه الاختلاف بيننا وبين أوكرانيا في محنة الاستهداف أننا دولة غنية بالموارد يسيل بسبب خيرها الوفير اللعاب، و التي عجزنا عن الإفادة منها فنحن في ذلك أشبه ببلد مجاور هو الكونقو، غني بالثروات تداعت إليه الأكلة يحصد خراجه الآخرون يحمل علي متن الطيارات والسفائن الضخام لصناعة شاشات المرح في كلمات المفكر والناقد البريطاني الساخر ويل سيلف Will Self وأهل البلاد يعيشون المسغبة والحروب والفاتكات من الأوبئة والأمراض . ذاك مصير لا يرضاه الأسوياء من الناس في بلد واحد مهما تباينت رؤاهم حول كيفية حكمه وإدارة مؤسساته فمجرد بقائه أوجب من خلاف واختلاف، ذلك حب من جبلوا علي حب الأوطان.

والعبرة التي أريد أن تؤخذ من الآن والحرب الضروس لا تزال تحصد الأرواح وتدمر الممتلكات، مأخذ الجد الذي لا هزل فيه هو العمل المقدس لوقفها بكل السبل سوى السبل السهلة المملاة المفخخة بالوعود الكاذبة التي يبذلها موظفون دوليون سيغادرون مواقعهم غداً والتي تبقي على أهدافها القريبة والبعيدة وذلك بإعمال النظر ، بالتأمل في حجم التدخل الخارجي ومراميه والذي اهتبل الفراغ في السلطة بعد سقوط حكومة الإنقاذ فتنادى الاقليم المتربص أصلاً وحلفاء الاقليم من وراء البحار لإقامة نظام للحكمً يحقق مصالح تلك الدول.

ولا نلقي القول علي عوانه فقد قال ذلك السفير الأمريكي الأسبق ومبعوث الحكومة الأمريكية الأسبق دونالد بوث . ولهذا صممت الفترة الانتقالية وما بعدها بتدابير غاية في الدقة والإتقان لتحقق التمكين من رقبة السودان واستبعاد احتمالات أي مخاوف علي تلك المصالح.

فقد قال دونالد بوث نصاً صريحاُ لا إيماءا ولا استنتاجاً: إن مستقبل السودان لابد أن يراعي مصالح حلفاء أمريكا في الاقليم بما في ذلك أمن اسرائيل! هكذا وكأن السودان أرضا بلا شعب. وهذه أشبه باستراتيجية أوروبا في أوكرانيا بجعل السودان ساحة للموت إذا لزم الأمر لتحقيق مصالح الغير.

لذلكً جئ بالرباعية والثلاثية وشمل هذا الجمع العرمرم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والإيغاد ودول الرباعية وأمريكا تحت غطاء مساعدة السودان للانتقال من الشمولية للديمقراطية بينما اجتاز السودان هذا الامتحان مرتين في تاريخه عقب سقوط عبود في 1964وعقب الإطاحة بنميري في 1985 ودون تدخل صديق أو عدو فأصبح أستاذا في ذلك يحذو حذوه الآخرون في شؤون الانتقال من الديكتاتورية إلي الديمقراطية. ذلك ولأن الأمر في حقيقته كان فرصة لتصميم سودان جديد غريب الوجه واليد واللسان على أهله يحقق مصالح الآخرين.

ولكي لا يفلت من ذلك المصير وضع له دستور سمي انتقالي كذبا ، فقد كان ذلك المسمي ب “الإتفاق الإطاري” يحمل ملامح دستور دائم للسودان. ورغم أن كلمة اتفاق تعني أن يتواضع عليه الموقعون جميعاً طواعة واختيارا لكن جعلوا التوقيع عليه جبراً (زندية) وإلا يجب تحقيقه بالقوة عبر الحرب والتي اندلعت بالفعل في 15 أبريل 2023. وبتلك الصفة يصبح الأمر المدبر بليل من الخارج إخضاعا تاماً لإرادة السودانيين كان يجب أن يواجه من الجميع بعبارة الزعيم الأزهري في حق الجمعية التشريعية التي فرضها الاستعمار، يرفض “ولو خلا من كل عيب” .والغريب أن هذه الإملاءات البغيضة تختم بعبارة مخاتلة مستخفة بالعقول : الحل ما يصنعه السودانيون وحدهم ! وكان الأحري أن تكمل الجملة بعبارة (وفق ما تقدم!!).

علي السودانيين الآن أن يتأملوا محاولة فرض الإرادة الأجنبية المسماة بالإطاري و ما فعلته ولا زالت تفعله بالسودان من كوارث أوشكت أن تفضي لإفنائه دولة وشعباً وليحذروا كل الحذر من استمرار هذا التدخل السافر المحاط بالهدن والحيل الماكرة ، الحذر خشية أن يصبح السودان ساحة دائمة للصراع الدولي والاقليمي ومعتركاً لتصفية الحسابات فتلكً هي الوصفة التي تشبه ما حل بأوكرانيا ، نسيج اجتماعي ممزق مشتت الولاءات واقتصاد منهار أو شديد الضعف يفتح الباب واسعاً للفساد والتهريب ونهب الثروات لأن البلد الذي يصبح ساحة لصراع الآخرين، بحرص الآخرون لكي يتمكنوا من رقابه، بأن يدقوا بين مكوناته عطر منشم ليقتتلوا دونه.
صحيح أن ذلك وقع بالفعل ونعيشه الآن لكن يجب أن يتوقف بأن يتنادي العقلاء بمشاربهم المتباينة وأن يفاضلوا بين الإبقاء علي وطن يختلفون علي إدارته غداً ولكن يستميتون باذلين المهج والأرواح للابقاء علي وجوده لا تمنعهم عن ذلك البذل معتقدات ولا أعراق.
غالب أهل السودان محافظون بدرجات متفاوتة وأنا في زمرتهم تشجيني أهازيجهم وتطربني إيقاعاتهم وتمتلئ جوانحي وروحي بتلاواتهم العذب لآي الذكر الحكيم، ومنهم تقدميون تروق لهم طرائق العيش السائدة في الغرب وذلك لا يحرمهم حقاً من حقوقهم، والأوفق والأسلم أن تتناطح التوجهات و الرؤي عبر صناديق الإقتراع فنرضى جميعاً بما ينتج عن ذلك. ذلك ما نعرفه من حكم الديمقراطية . إقصاء الآخر وعزله وخيم العواقب لا يبقي أرضاً ولا شعباً . ولا يزال تيار في الحداثيين يقبل بذلك التدخل فقط لفرض نمط العيش وأساليبه السائدة في باريس ولندن ونيويورك علي شعب السودان المحافظ والمتسامح أيضاً، بالحديد والنار دون اعتبار لعواقب ذلك وإن عظمت، وربما لا يدري كثيرون كيف وصل دونالد ترامب للرئاسة . وصل لأن تيارا صغيرا في الحزب الديمقراطي يدعي التقدم ويتسمي بذلك (ديمقراطيون تقدميون progressive democrats) فرض رؤاه علي حزب عريق غدا ملاذا للأقليات وللتسامح الديني والعرقي قوامه تيار عريض من الأمريكيين المعتدلين الذين يدركون أن جل الأمريكيين يمقتون التطرف ويحترمون قيماً حسنة في شأن الأسرة والعلاقات الإجماعية مستمدة من المسيحية لا يمكن القفز عليها ، ضاعت أصواتهم في خضم صراخ تلك الأقلية (التقدمية) فانحاز الناس لترامب الذي يعانون منه مع جل العالم انحيازاً لقيم فاضلة.
ولغاية الإبقاء على السودان وعلى السودانيين باتجاهاتهم المتباينة ينبغي الإدراك بأن ذلك واجب الجميع دون فرز .

وللأسباب المعروفة التي استعرضنا بعضها في ثنايا هذه السطور أعتقد جازماً أن الكيد لن يتوقف إلا ليثور مجددا كما البراكين فلننهض له بما يلزم فسيظل قدرنا في هذا المكان من الجغرافيا، اليقظة الدائمة وذلك قدر كل الدول الغنية بمواردها ، وقد علمتنا هذه الحرب عمليا: معني التطهير العرقي بالقتل علي الهوية والإبادة الجماعية فقط بتوفير سيارات الدفع الرباعي التي تحمل أدوات الموت تتهاطل كالبرَد علي المدن والقري الآمنة فتحيلها قاعا صفصفا ومدائن أشباح كما نري بأعيينا وكما رأي ويري العالم ” المتحضر” “والإنساني” فلا يري عتاته وطغاته في ذلك إلا أضرارا جانبية (كولاترل دامج) مصاحبة لكل غاية بعيدة ترجى، خيّرة كانت أم شريرة. وأصحاب الضمائر الحية الذين خرجوا من كهف أفلاطون كالسيد جون ميرمايشر والسيد جيفري ساكس وملايين الشباب في كل مكان فاتضحت لهم الرؤية وزالت الغشاوة عن أبصارهم فذرفوا سخين الدمع علي مأساتنا وخراب ديارنا لكن ثاقب نظرهم الذي تخطى حجب التضليل والكذب البواح والألاعيب التكنلوجية لم يغن عنا بشاعة التقتيل والإخراج القسري من دورنا والإهانة وهتك الأعراض. وترياق ذلك ومنعه من التكرار نفعله نحن لا غيرنا فما حك جلدك مثل ظفرك. نفعله بمزيج من عسكرة شاملة للشباب والشابات وجيش رشيق مزود بما يلزم من العدة والعتاد والمعارف الضرورية مع حنكة وبكياسة هي السياسة تديرها المؤسسات المنتخبة المواكبة لمعارف العصر والدارية بالجيوبولتيك لتتمكن من السير الآمن في حقول الألغام والمتفجرات. تلكم هي شروط البقاء لا غيرها لبلد حباه الله بالثروات من كل نوع وله سابقة راسخة في صناعة الحضارة من قديم.

وأذكر في الختام بصيحة أطلقها شاب أسود موهوب صغير البنية عظيم الموهبة يدعي أسبايك لي Spike Lee ، قبل عقود خلت صاغها في فيلم سينمائي يعالج فيها قضية العنصرية في بلده سماه ” أفعل الصحيح Do the Right Thing لأنك إن لم تفعل فعلوا بك الأفاعيل ودموع الحزانى علينا إن لم تتحول إلي أفعال لدرء التآمر عنا تصبح كابتسامة الساخر الشامت فينا.

الدكتور الخضر هارون

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/06 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة مقترحات لبناء سودان جديد2025/12/06 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس…)2025/12/06 في البدء كانت الكلمة2025/12/05 المستوطنون الجدد… مخطط خطير يهدد ديمغرافية السودان وهويته2025/12/05 حرب مفروضة وهُدنة مرفوضة!2025/12/05 شركاء في الجريمة2025/12/04

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • تقرير أممي: 7.3 مليون نازح سوداني و4.3 مليون لاجئ عبر الحدود
  • أكثر من ألفي لاجئ وطالب لجوء دخلوا اليمن هذا العام
  • الأغذية العالمي: 20 مليون شخص يعانون سوء التغذية في السودان
  • العاقل من اتعظ بغيره!
  • زيلينسكي: أوكرانيا وأمريكا ناقشتا القضايا الرئيسية التي قد تضمن إنهاء الحرب
  • مصر: دور الأونروا يظل محورياً ولا يمكن الاستغناء عنه في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين
  • الأردن: استمرار عمل "أونروا" يعكس الإرادة الدولية لحماية اللاجئين
  • ترحيب فلسطيني بتجديد ولاية "الأونروا": حماية لحقوق 6.2 مليون لاجئ فلسطيني
  • الأمم المتحدة: عودة أكثر من 378 ألف لاجئ سوري من لبنان إلى بلادهم
  • بوتين: روسيا تريد إنهاء الحرب التي شنها الغرب