مع اقتراب الانتخابات في تركيا لتحديد من سيحكم مدننا وكيف، من المفيد أن نغتنمَ الفرصة للتفكير فيما تعنيه كلمة "مدينة" لبعض الوقت.

وقبل أن أعيد نشر اقتباسٍ طويل من مقال كتبتُه من قبلُ عن هذا الموضوع، دعونا لنلقي نظرة على أسئلة الامتحان الحالية حول "المدينة":

على مدينة غزة – التي يسكنها أناس أحرار تمامًا، وربما من أكثر الناس حرية في العالم، والذين أظهروا شجاعة عدم الخضوع لطواغيت العالم- تُلقى القنابل منذ 137 يومًا.

مع ما يقرب من 30 ألف قتيل، ثلاثة أرباعهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 70 ألف جريح، ومدينة أصبحت غير صالحة للسكن، كيف يمكننا أن نتخيل أن شعبًا تربطنا به روابط كثيرة يواجه إبادة جماعية، ثم نواصل حياتنا كأن شيئًا لم يحدث؟

ألا يجب أن يتوقف كل شيء أثناء حدوث إبادة جماعية، وأن يبذل النّاس والجماعات والمجتمعات والشركات والدول والقادة كل جهودهم وأولوياتهم أولًا لوقف هذه الإبادة الجماعيَّة؟

هل وصلنا إذن إلى المحطة الأخيرة؟ هل هذه هي نهاية قصة الإنسان في هذا العالم؟ ألا يعني اندماج جميع البشر وقتل فرديتهم، نهاية الإنسان؟

حين يفكّر الإنسان في معنى "المدينة"، فإنّه يفكّر في نفسه، بل إنه يصل إلى مرحلة متقدّمة من هذا التفكير.

والإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التفكير في نفسه بطبيعته. لكن قدرته على التفكير شيء، واستخدامُه تلك القدرة شيء آخر. تمامًا كما أنّ القدرة على التفكير لا تعني بالضرورة أن كل ما يفكر فيه صحيح أو سليم.

ينبغي على الإنسان أن يفكر في نفسه، وأن يكون واعيًا بذاته، يعرف حدود عقله، ويتعرّف على نقاط القوة والضعف في شخصيته، وينتبه إلى عواطفه السيئة، كما يعرف مشاعره الطيبة؛ فيرصد اللحظات التي تنبض بغطرسته وجحوده وغيرته وحسده وأنانيته وساديّته وعقده الداخلية، فيسيطر على نفسه.

فهل نبحث عن "عمران" أو مدينة تساعد الإنسان على تحقيق كل هذا الوعي؟

في الواقع، إدراك كل هذه المشاعر التي يعيشها الإنسان داخل المدينة بشكل أكثر وضوحًا وكثافة، هو فضيلة من فضائل التفكير في النفس. الإنسان ليس مجرد عقل بالطبع، وهو ليس أيضًا ذلك الكيان المجرد الذي نذكر اسمه كثيرًا في النصوص الفلسفية بحروف كبيرة "إنسان". الواقع لا يشبه ذلك الاختزال.

كل إنسان هو قصة فريدة وحقيقية، فقد خلق من أب وأم، وتشكل من دم ولحم وعظم، له صفاته الخاصة التي تميزه، له عمره الخاص، وجنسه ومهنته، ووطنه، ونوعه، وجسده الفريد، ولغته، وجماعته، وعلاقات قرابته، وبيئته الاجتماعية.

والمدينة هي مجموع هؤلاء الأشخاص المتفردين. وعندما يؤسس مجموعة منهم مدينة فإنها لا تشبه المدن التي أنشأها آخرون في أماكن أخرى. المدن هي أماكن يصنعها وينظمها أناس يضفون عليها ألوانهم وشخصياتهم وحيويتهم.

كنّا في مناسبة سابقة، تساءلنا عن مستقبل العمل الأدبي المميز: "خمس مدن"، للكاتب التركي أحمد حمدي طنبير، الذي رسم فيه صورة رائعة للروح المتفردة التي تمثلها كل من هذه المدن التركية الخمس، وتجعل كل مدينة مختلفة عن غيرها، مثل كوكب مختلف في تنوعه وحيويته وهُويته.

اليوم يبدو كل شيء مستنسخًا من الآخر في جميع أنحاء المدن الحديثة: المباني الخرسانية والشوارع والطرق ومراكز التسوق.. إلخ.

لم يعد هناك داعٍ للفضول حول مدينة ما في الأناضول، فإذا رأيت واحدة فقد رأيت جميعها. كلها متشابهة في مبانيها وأماكنها المتناثرة.

هل وصلنا إذن إلى المحطة الأخيرة؟ هل هذه هي نهاية قصة الإنسان في هذا العالم؟ ألا يعني اندماج جميع البشر وقتل فرديتهم، نهاية الإنسان؟

لا يمكن أن يكون الأمر كذلك تمامًا، ولكن في هذا العالم صاحب الحداثة المزعومة، هناك مقاربة تتجاهل بُعد الحياة في الممارسات الحضرية، تهدف إلى جعل جميع المدن متشابهة، وتقوم بتدمير حياة المدينة نفسها في النهاية.

مَن جعل المدن على هذه الصورة اللاإنسانية، هو الإنسان نفسه في النهاية. لقد كان اختياره هو تجميد شيء متحرك ونابض بالحياة. ولو كان اختار أمرًا آخر لأمكن أن يتطور في اتّجاه مختلف.

على مدار التاريخ، حاولت جميع الحضارات إظهار عظمتها وبصمتها من خلال المدن التي بنتها. ولكن تلك المدن لم تكن مجرد تعبير عن عظمة الحضارات المؤسسة، بل كانت أيضًا مكانًا للحياة والنشاط.

وبالطبع، كان هناك أيضًا مدن أُنشئت فقط لتحدّي الآخرين، أو حتى لتحدّي الله سبحانه، ولكن إذا لم تقم المدينة إلا على هذه الأسس الواهية، فإنها تموت مع موت الإرادة التي بنتها؛ لأن المدن، كما قال ابن خلدون؛ إذا لم تكن هناك بادية تغذيها، وواقع يدعمها، فإنها تضعف أولًا ثم تختفي.

لا ينبغي، إذن، أن نتعامل مع المدن من خلال الإجابة عن هذا السؤال البسيط والاختزالي: من الذي سيتولى سلطة حكمها؟

المدن أكبر من ذلك؛ لأنها المكان الوحيد الذي يمكن للناس من خلاله إظهار خصوصياتهم الحضارية.

لم أكن أبدًا من المعجبين بمصطلح: "مظاهر الحضارة"، ولكن إذا اتّفقنا على أن ما بداخلنا ينعكس على الخارج، فلا ينبغي لنا تجاهل أن كل ما نشكو منه في مدننا اليوم هو انعكاس لما بداخلنا.

ولكن ربما يجب أن نبدأ التفكير في أنفسنا من خلال التفكير في المدينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التفکیر فی فی هذا

إقرأ أيضاً:

هل حان وقت إعادة التفكير ببطاقتك الائتمانية؟

 

أبوظبي – الوطن:
في كل مرة تقوم فيها بسداد الحد الأدنى من رصيد بطاقتك الائتمانية، قد تكون في الواقع تزيد من عبء دينك لا تُخففه. ومع تجاوز الفوائد الشهرية في بعض البطاقات نسبة 3% شهرياً، أي ما يقارب 50% سنوياً عند احتساب الفائدة المركبة، يجد العديد من المواطنين الإماراتيين أنفسهم عالقين في دوامة استهلاك لا تنتهي، حيث تتحول البطاقة من أداة تسهيل إلى أداة إنهاك مالي.

مقاربة مختلفة لبطاقات الائتمان
في ظل هذا الواقع، بدأ البعض يبحث عن بدائل توازن بين القدرة على الإنفاق والحرص على الاستقرار المالي. وهنا تبرز خيارات مختلفة، من ضمنها بطاقة سند الائتمانية من دار التمويل، التي لا تعد بحلول سحرية، لكنها تطرح نموذجاً مغايراً للمواطنين الإماراتيين يقوم على تقليل العبء المالي والحد من تراكم الفوائد من خلال سعر فائدة 1.25% شهرياً، وهو الأدنى في السوق الإماراتية، مع التزام بالشفافية وخلوّ من الرسوم السنوية.

أبرز ما تقدمه البطاقة:
• أدنى فائدة شهرية في الدولة
بسعر فائدة يبلغ 1.25% شهرياً، تختلف البطاقة عن معظم بطاقات السوق التي تفرض ما يقارب 3% شهرياً. هذا الفارق يمكن أن يؤدي إلى تقليل الفوائد المدفوعة شهرياً بنسبة تصل إلى 70%، ما ينعكس على راحة المستخدم وقدرته على السداد.
• خفض الدفعات الشهرية
مع تقليص العبء الشهري بنسبة تصل إلى 30%، تمنح البطاقة للمستخدمين فرصة لإعادة التوازن إلى ميزانيتهم، خاصة في ظل الالتزامات المتزايدة.
• بطاقة مجانية مدى الحياة
في ظل رسوم سنوية خفية تفرضها بعض البطاقات الأخرى، تبرز بطاقة سند بخلوّها من هذه التكاليف، وهو عنصر قد يعني الكثير للبعض من حيث الشفافية.

لماذا تعد خياراً مناسباً للمواطن الإماراتي؟
•  تخفيف الضغط المالي: انخفاض الفائدة الشهرية يعني التزامات أقل، ما يسمح بتوجيه جزء من الدخل لأغراض أخرى.
• التحكم بالديون: من خلال توفير على الفوائد، يسهل السداد والابتعاد عن تراكم المستحقات.
• استقلالية مالية أكبر: غياب الرسوم الإضافية وانخفاض الكلفة الشهرية يسهمان في تمكين الفرد من إدارة نفقاته دون الحاجة إلى حلول قصيرة المدى أو قروض إضافية.

كيفية التقديم؟
1. زيارة الموقع الإلكترونيwww.financehouse.ae للاطلاع على التفاصيل والمقارنة.
2. استخدام حاسبة التوفير الخاصة ببطاقة سند لحساب مقدار التوفير المحتمل.
3. تقديم الطلب إلكترونياً أو عبر الاتصال المباشر على الرقم 600511114
في ظل بيئة اقتصادية تتطلب قرارات مالية مدروسة، تقدم بطاقة سند نموذجاً يمكن النظر إليه كأحد الحلول المتاحة لمن يسعى إلى التوازن بين الاستفادة من الائتمان وتجنب تبعاته الثقيلة.


مقالات مشابهة

  • المرحلة الثانية.. رئيس مدينة دسوق يتابع تطوير الميدان الإبراهيمي
  • محافظا إدلب واللاذقية يشاركان في مؤتمر منظمة المدن المتحدة بمدينة أكسراي التركية
  • لِمَ نخاصم التفكير الاستراتيجي؟
  • على هامش افتتاح معرض "العمران إكسبو".. أزيد 51 ألف شخص استفادوا من دعم السكن من أصل 136 ألف طلب (فيديو)
  • بعد بلوغ نسبة الإشغال 100%.. تنظيم رحلات إضافية بين المدن التركية
  • عاجل | مراسل الجزيرة: شهيدان ومصابون إثر قصف إسرائيلي مركبة مدنية في بلدة عبسان الكبيرة شرقي مدينة خان يونس
  • ملتقى فني عن الإنسان والطبيعة في مدينة شهبا
  • هل حان وقت إعادة التفكير ببطاقتك الائتمانية؟
  • “بشر الوالي بعودة مدينة الفولة” .. عضو السيادي الفريق أول كباشي يؤكد حرص الحكومة على تذليل التحديات التي تواجه غرب كردفان
  • وزير التعليم يلتقي رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج على هامش زيارته للمملكة المتحدة