لجريدة عمان:
2025-05-11@13:27:33 GMT

حق الفيتو غير المشروع

تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT

تناولت في العديد من المقالات السابقة مسألة حق الفيتو باعتباره آلية من آليات إصدار القرارات في مجلس الأمن الدولي! إذ إن القائمين على شؤون العالم بعد الحرب العالمية الثانية قد اجتمعوا معًا وسنّوا القانون الذي ينظّم آلية إصدار القرارات الدولية المُلزِمة التي تكفل تحقيق السلام والأمن الدوليين. فقد اجتمعت الدول العظمى لسن قرارات مجلس الأمن الدولي، وقد سنت قرارات عظيمة إنسانية وأخلاقية وعادلة؛ ولكنها للأسف وضعت شرطًا مفاده أن أي قرار يصدر عن هذا المجلس يمكن نقضه من خلال القوى العظمى التي يكون لها حق الفيتو، أي حق نقض أي قرار يصدر من المجلس! وهذا أمر خطير قد بدأ الباحثون والمفكرون يلتفتون إليه في الآونة الأخيرة، فتعالت أصواتهم، كما أنني قد نبهت عليه كثيرًا وانتقدته مرارًا في مقالات سابقة.

ومكمن الخطورة هنا هو أن آلية التصويت التي يتبعها مجلس الأمن في إصداره لقرارته هي آلية تبدو في ظاهرها ديمقراطية، ولكن حق الفيتو ينسف هذه الآلية الديمقراطية، ويبرهن لنا على أن المجلس المنوط به إقرار السلم والعدل الدوليين لا يطبق مفهوم «العدالة» على نفسه؛ وبالتالي فإنه يبرهن لنا- في الوقت ذاته- على عوار النظام العالمي.

لقد سنَّ الأقوياء القوانين التي تحكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية؛ ولقد سمَّى هؤلاء أنفسهم بالدول العظمى؛ وبالتالي أعطوا أنفسهم الحق في طرح القرارات للتصويت وحق نقضها أيضًا (رغم أن مفهوم «الدول العظمى» مفهوم نسبي؛ لأن الدولة العظمى لا تكون عظمى في كل عصر، وقد يتراجع نفوذها إزاء نفوذ قوى أخرى صاعدة)! والرأي عندي أن حق الفيتو ليس سوى رخصة استعمارية، أعني أنه وليد النظرة الاستعمارية للغرب إزاء كل الدول التي كانت جزءًا من المستعمرات الغربية، والتي ينبغي أن تظل في النهاية دولًا خاضعة، لا يحسم صوتها شيئًا مما يتعلق بإرساء الحق والواجب في الصرعات الدولية. يكفي اعتراض واحدة من الدول التي تمتلك حق الفيتو، لكي يتم إسقاط كل الأصوات التي تنتصر للحق والعدالة. ولا شك في أن هذا الأسلوب في إدارة أهم المنظمات الدولية لا علاقة له بالديمقراطية التي يتشدق بها الغرب في بلدانه: إذ كيف تكون دول الغرب مؤمنة بالديمقراطية في ممارساتها الداخلية على سائر مستوياتها، ولكن حينما يتعلق الأمر بالآخر نجد أن هذه النُظم المسماة بالنظم الديمقراطية تمارس كل أشكال التمييز العنصري، سواء على مستوى صياغة القوانين العالمية التي تدافع عنها حتى يومنا هذا أو على مستوى تطبيق هذه الرؤية الاستعلائية على الآخرين، خاصةً العالم العربي والإسلامي عمومًا.

ما أود قوله في هذا الصدد هو أن مفهوم «الديمقراطية الغربية» هو مجرد وهم. فالحقيقة أننا لا يمكن أن نتعامل مع مفهوم «الحق» بمعنى مزدوج: بمعنى أن نقول إننا مع الحق دائمًا وفقًا للقرارات الدولية؛ ولكن عندما توضع الأصوات على المحك، نجد أن واحدًا من الأصوات يُبطِل إصدار قرار بهذا الحق؛ لكي يمنح المعتدي مشروعية ممارسة الظلم والعدوان. يتجسد هذا الأمر بوضوح في الحالة الراهنة التي يعيشها العالم: تدمير مساكن المدنيين في غزة على رؤوس رجالها ونسائها وأطفالها، بل على الخدج منهم، من دون أن يتحرك هذا المجلس المسمى بمجلس الأمن. وحتى حينما تُرفَع قضية من جانب دولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، باعتبار أن ما يجري هو «جريمة إبادة جماعية»، وعلى الرغم من إدانة المحكمة لإسرائيل في هذا الصدد وإمهالها شهرًا تبين فيه التزامها بقوانين المحكمة، فإن كل هذا ضاع أدراج الرياح، ببساطة لأن إسرائيل لا تعترف بالمواثيق والعهود الدولية، وتعتمد في النهاية على الولايات المتحدة الأمريكية التي سوف تنقذها في النهاية بممارسة حق الفيتو في الاعتراض على أي قرار يدين إسرائيل.

بأي معنى إذن يمكننا أن نتحدث عن الديمقراطية في هذه الدول. الدول الديمقراطية الكبرى في عصرنا الراهن لا تعرف الديمقراطية إلا فيما يتعلق بالعلاقة بين السلطة وشعوبها، أما فيما يتعلق بالشعوب الأخرى، فهي لا ينبغي أن تتمتع بهذه الديمقراطية، فهي في النهاية شعوب ينبغي السيطرة عليها، وهذا ما يدعمه تاريخ طويل من إمبريالية هذه الدول في نظرتها للآخر، باعتبار أن هذا الآخر ينبغي دائمًا أن يظل تابعًا. وهذا مناط المشكلة على وجه التحديد: فالواقع أن ما يُروّج له تحت عنوان «ديمقراطية الغرب» هو في الحقيقة مفهوم وهمي، لا وجود له إلا داخل مجتمع محدود يمارس أشكال الديمقراطية المعتادة: كحرية الانتخابات والصحف والتعبير عن الرأي، وما إلى ذلك؛ أما شعوب الدول الأخرى، فلا يهم ما تعانيه من ظلم وعدوان وإبادة بشكل يجافي كل المواثيق الدولية. هذا ما نشاهده بوضوح من خلال الاعتداءات اليومية لجيش الاحتلال الإسرائيلي على شعب فلسطين. أدانت محكمة العدل الدولية هذه الممارسات باعتبارها ممارسات يمكن أن ترقى إلى إبادة حرب. فما الذي حدث؟ لا شيء! وما الذي يمكن أن يحدث برفع ذلك الأمر إلى مجلس الأمن: لا شيء! فمن المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية التي لها حق الفيتو سوف تُوقِف أي قرار يدين دولة إسرائيل التي هي ذراع أمريكا والغرب في الشرق الأوسط (ولذلك فقد استخدمت هذا الحق مؤخرًا في إبطال قرار بوقف إطلاق النار في غزة، مثلما استخدمت هذا الحق من قبل ثمانين مرة بإسراف وترخُّص لمنع إدانة إسرائيل!). ولذلك تستغل إسرائيل هذا العوار في القوانين الدولية، لتمارس كل أشكال العنف والاستبداد والإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني؛ ببساطة لأنها مطمئنة إلى أن القوانين الدولية باتت أشبه بحبر على ورق!.

ما الذي يمكن أن نقوله من راء كل هذا؟ الأمر بسيط، فما نود قوله هو أن الدساتير والقوانين العالمية التي تحكم هذا العالم، تحتاج إلى مراجعة جذرية، بحيث تؤمن بالديمقراطية وبالعدالة حقًا وصدقًا. وإلى أن يتحقق ذلك، فلا أمل من تحقيق شيء من الديمقراطية والعدالة في هذا العالم.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی النهایة مجلس الأمن حق الفیتو من الدول یمکن أن أی قرار

إقرأ أيضاً:

أحلام العرب في نظام عالمي يتشكل .. حديث بلا مرتكزات

قادني الحظ، وربما القدر، إلى لقاء فكري مزدوج مع أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى مرتين خلال أقل من أسبوع واحد. المرة الأولى في محاضرة محدودة الحضور ألقاها في مسقط يوم الاثنين الماضي، والثانية مع حوار مطول أجرته معه جريدة الشرق الأوسط ونشرت منه حلقتين من أصل أربع حلقات حتى لحظة كتابة هذا المقال.

والحق أن عمرو موسى قدم في محاضرة مسقط تشخيصا دقيقا لما وصفه بـ«أزمة الشرعية الدولية» التي يعيشها العالم. فالمؤسسات التي شُيّدت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، باتت عاجزة عن أداء أدوارها الأساسية المتمثلة في حفظ السلم، وحماية الدول الضعيفة، وتطبيق القانون الدولي بمعاييره الأخلاقية والحقوقية. لم يكن حديث عمرو موسى اجترارا لمقولات الانهيار بقدر ما كان دعوة للمشاركة في لحظة إعادة التشكيل الكبرى للنظام الدولي، وهي لحظة يبدو أن إرهاصاتها بدأت بالفعل.

لكن الأمر الذي شدني كثيرا في حديث موسى ولم يسمح الوقت بالتداخل حوله بعد المحاضرة لم يكن، فقط، تحليله لانهيار النظام، بل كان بشكل أخص سؤاله الاستشرافي: من سيقود العالم نحو هذا النظام الجديد؟ هل تستمر الولايات المتحدة في القيادة المنفردة رغم تآكل مشروعها العالمي؟ أم أننا ننتقل إلى تعددية قطبية ثنائية تقودها أمريكا والصين، أو ثلاثية تدخل فيها وروسيا أم رباعية تضاف لها أوروبا؟ ثم، وهذا هو الأهم بالنسبة لما كنت أريد التداخل حوله، ما موقع العرب من هذه المعادلة؟ وفي اعتقادي أن هنا جوهر الإشكالية.

نطوي رؤية عمرو موسى على افتراض بأن العالم العربي قادر ـ من حيث المبدأ على الأقل ـ على أن يكون طرفا فاعلا في تشكيل النظام العالمي القادم!! لكن مراجعة الواقع العربي على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والمعرفي، تُظهر فجوة كبرى بين الواقع والطموح، وبين ما يُقال في المؤتمرات، وما يُمارس في ساحات السياسة الداخلية والخارجية!

العالم العربي اليوم أبعد ما يكون عن تشكيل رؤية جماعية أو بناء موقف موحد تجاه التحولات الدولية. وتعيش المنطقة العربية منذ سقوط النظام الإقليمي العربي بعد الغزو الأمريكي للعراق في أبريل 2003 حالة تفكك مستمرة يمكن قراءتها من عمق التدخلات الإقليمية في الشأن العربي من أطراف غير عربية، ومن الصراعات الداخلية لا تنتهي في الكثير من الدول العربية، ومن التحالفات المتضاربة التي تضعف العالم العربي ولا تقويه، بل إنها تسير على عكس أحلام وطموحات الشعوب، إضافة إلى أزمات الهُوية التي تعصف بمفاصل الدولة الوطنية في بعض الدول العربية، أضف إلى ذلك أن بعض الدول العربية لا تزال تعاني من هشاشة بنيوية تجعلها أقرب إلى ساحات لتصفية الحسابات الخارجية منها إلى أطراف فاعلة وقادرة على المساهمة في صناعة السياسات الدولية.

التغيرات التي أشار إليها عمرو موسى في بنية النظام العالمي ـ وهي صحيحة من وجهة نظري ـ لا تعني بالضرورة أن جميع الأطراف مؤهلة لتقوم بأدوات أساسية أو حتى ثانوية في هذا التغيير. والنظام العالمي المنتظر لا يتشكل بناء على الرغبات أو الخطابات، بل على أساس موازين القوى الصلبة والناعمة المتمثلة في الاقتصاد، والتكنولوجيا، والموارد الطبيعية، وكذلك في النفوذ الثقافي والمعرفي، وفي القدرة على صناعة المبادرات. وأين العالم العربي من هذه الأدوات اليوم؟!

وإذا كانت التكنولوجيا هي التي تشكل قوة العالم اليوم سواء في صناعة المعدات العسكرية أو صناعة الإعلام وبناء السرديات القادرة على إقناع الجماهير في العالم فإن العالم العربي، في مجمله، غائب عن كل هذا، وغائب بشكل أساسي عن معارك الذكاء الاصطناعي وعن نهضة التعليم والتصنيع العالي، وعن حروب السرديات الكبرى رغم ما أحدثته حرب غزة من تحول في قوة السردية الفلسطينية على السردية الإسرائيلية. ومما يؤسف له أن الكثير من وسائل الإعلام العربي تحولت إلى أدوات أو أذرع لصراعات بينية بين الدول العربية في وقت تستخدم فيه الدول الكبرى الإعلام سلاحا ناعما لتحقيق نفوذ جيواستراتيجي عابر للقارات. ويُذكرنا هنا ما أشار إليه جوزيف ناي، من أن من لا يملك أدوات القوة الناعمة سيبقى خارج معادلات النفوذ، وهو حال العالم العربي الذي فقد السيطرة على سرديته الإعلامية والثقافية.

أما على المستوى الفكري، فإن الوعي السياسي العربي ما زال يدور في فلك الدولة القُطرية الريعية كما يقول المفكر محمد عابد الجابري دون أن يستطع تجاوز ذلك إلى فكرة المشروع الإقليمي أو الدور الحضاري العالمي. وهذا الجمود الثقافي يوازيه ضعف مؤسسي في إنتاج المعرفة وتطوير الكفاءات، وهو ما يجعل الحديث عن المشاركة في صياغة نظام عالمي جديد أقرب إلى أُمنية نبيلة منها إلى خطة واقعية.

إضافة إلى ذلك فإن بعض الدول العربية تعاني من انهيارات داخلية لا تقل فداحة عن فشل النظام الدولي نفسه.. كيف يمكن لدولة منهكة بالانقسام الطائفي، أو مثقلة بديون خارجية، أو مرتهنة لتحالفات إقليمية متناقضة، أن تدخل في حوار لرسم النظام العالمي؟ وكيف يمكن لعالم عربي ما زال يتجادل حول أولويات التعليم، وحرية الصحافة، وحقوق المواطنة، أن يقترح حلولا للمشاكل العالمية الكبرى أو أن يصلح مجلس الأمن؟!

وحين تحدث عمرو موسى عن «التغيير في الشرق الأوسط»، وأشار إلى أن ما يجري لا يمكن أن يكون لصالح إسرائيل وحدها، بدا واضحا أنه يقاوم سردية الهيمنة الإسرائيلية على حساب خمس دول عربية مركزية هي مصر والعراق وسوريا والأردن ولبنان، لكن واقع الحال يُظهر، مع الأسف الشديد، أن إسرائيل، رغم كل تناقضاتها وجرائمها، تدير صراعاتها انطلاقا من مشروع واضح لديها، بينما تعاني الدول العربية مجتمعة من غياب المشروع العربي الشامل، وغياب من يمسك بخيوطه.

لا أريد في هذا المقال أن أقلل من أهمية الطموح الذي انطلق منه عمرو موسى في رؤيته أو دعوته للدور العربي في هذه اللحظة التاريخية ولكن أريد فقط أن نتذكر في العالم العربي أن هذه اللحظة العالمية لا تنتظر أحدا أبدا. وأن النظام الدولي يتغير، وأن التحالفات يعاد ترتيبها بشكل كامل. ومن يريد أن يكون فاعلا عليه أولا أن يبني شروط الفاعلية التي نحتاجها في العالم العربي وهي وحدة الصف، وإعادة تأهيل البنى السياسية، والاستثمار في المعرفة، والأهم من ذلك أن نبدأ مرحلة مصالحة من ذواتنا.

لن يكون العرب مجرد ضحايا لتاريخ لا يشاركون في كتابته، بل سيكونون شهودا صامتين على ولادة عالم لا يعترف بوجودهم؛ فأن تفوتك فرصة المساهمة في تشكيل النظام الجديد، هذا يعني أنك تفقد لاحقا حتى حق التظلم من ملامحه ومبادئه وقيمه.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

مقالات مشابهة

  • أحلام العرب في نظام عالمي يتشكل .. حديث بلا مرتكزات
  • سايكس بيكو.. جريمة مايو التي مزّقت الأمة
  • لا توجد مدرسة واحدة في العلاقات الدولية تقول إنه عندما تعتدي عليك دولة (..)
  • «مهرجان أبوظبي» يواصل ترسيخ مكانته الدولية
  • مصر أكتوبر: ظهور الرئيس بين قادة العالم يعكس مكانة الدولة ويعزز شراكاتها الدولية
  • الخارجية السودانية: بيان نظام ابوظبي ردا على قطع السودان علاقاته معها بائس يدعو للسخرية ويعكس تجاهلًا للقوانين والأعراف الدولية المنظمة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول
  • “نصف العسل المباع في العالم مزيف”
  • حيدر كريم الغراوي: ترصين العلاقات الدولية يحقق منافع كبرى للعراق
  • مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين يدين الهجمات التي استهدفت المنشآت الحيوية والاستراتجية بالسودان
  • محكمة العدل الدولية تفجع العالم في العدالة