تناولت في العديد من المقالات السابقة مسألة حق الفيتو باعتباره آلية من آليات إصدار القرارات في مجلس الأمن الدولي! إذ إن القائمين على شؤون العالم بعد الحرب العالمية الثانية قد اجتمعوا معًا وسنّوا القانون الذي ينظّم آلية إصدار القرارات الدولية المُلزِمة التي تكفل تحقيق السلام والأمن الدوليين. فقد اجتمعت الدول العظمى لسن قرارات مجلس الأمن الدولي، وقد سنت قرارات عظيمة إنسانية وأخلاقية وعادلة؛ ولكنها للأسف وضعت شرطًا مفاده أن أي قرار يصدر عن هذا المجلس يمكن نقضه من خلال القوى العظمى التي يكون لها حق الفيتو، أي حق نقض أي قرار يصدر من المجلس! وهذا أمر خطير قد بدأ الباحثون والمفكرون يلتفتون إليه في الآونة الأخيرة، فتعالت أصواتهم، كما أنني قد نبهت عليه كثيرًا وانتقدته مرارًا في مقالات سابقة.
لقد سنَّ الأقوياء القوانين التي تحكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية؛ ولقد سمَّى هؤلاء أنفسهم بالدول العظمى؛ وبالتالي أعطوا أنفسهم الحق في طرح القرارات للتصويت وحق نقضها أيضًا (رغم أن مفهوم «الدول العظمى» مفهوم نسبي؛ لأن الدولة العظمى لا تكون عظمى في كل عصر، وقد يتراجع نفوذها إزاء نفوذ قوى أخرى صاعدة)! والرأي عندي أن حق الفيتو ليس سوى رخصة استعمارية، أعني أنه وليد النظرة الاستعمارية للغرب إزاء كل الدول التي كانت جزءًا من المستعمرات الغربية، والتي ينبغي أن تظل في النهاية دولًا خاضعة، لا يحسم صوتها شيئًا مما يتعلق بإرساء الحق والواجب في الصرعات الدولية. يكفي اعتراض واحدة من الدول التي تمتلك حق الفيتو، لكي يتم إسقاط كل الأصوات التي تنتصر للحق والعدالة. ولا شك في أن هذا الأسلوب في إدارة أهم المنظمات الدولية لا علاقة له بالديمقراطية التي يتشدق بها الغرب في بلدانه: إذ كيف تكون دول الغرب مؤمنة بالديمقراطية في ممارساتها الداخلية على سائر مستوياتها، ولكن حينما يتعلق الأمر بالآخر نجد أن هذه النُظم المسماة بالنظم الديمقراطية تمارس كل أشكال التمييز العنصري، سواء على مستوى صياغة القوانين العالمية التي تدافع عنها حتى يومنا هذا أو على مستوى تطبيق هذه الرؤية الاستعلائية على الآخرين، خاصةً العالم العربي والإسلامي عمومًا.
ما أود قوله في هذا الصدد هو أن مفهوم «الديمقراطية الغربية» هو مجرد وهم. فالحقيقة أننا لا يمكن أن نتعامل مع مفهوم «الحق» بمعنى مزدوج: بمعنى أن نقول إننا مع الحق دائمًا وفقًا للقرارات الدولية؛ ولكن عندما توضع الأصوات على المحك، نجد أن واحدًا من الأصوات يُبطِل إصدار قرار بهذا الحق؛ لكي يمنح المعتدي مشروعية ممارسة الظلم والعدوان. يتجسد هذا الأمر بوضوح في الحالة الراهنة التي يعيشها العالم: تدمير مساكن المدنيين في غزة على رؤوس رجالها ونسائها وأطفالها، بل على الخدج منهم، من دون أن يتحرك هذا المجلس المسمى بمجلس الأمن. وحتى حينما تُرفَع قضية من جانب دولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، باعتبار أن ما يجري هو «جريمة إبادة جماعية»، وعلى الرغم من إدانة المحكمة لإسرائيل في هذا الصدد وإمهالها شهرًا تبين فيه التزامها بقوانين المحكمة، فإن كل هذا ضاع أدراج الرياح، ببساطة لأن إسرائيل لا تعترف بالمواثيق والعهود الدولية، وتعتمد في النهاية على الولايات المتحدة الأمريكية التي سوف تنقذها في النهاية بممارسة حق الفيتو في الاعتراض على أي قرار يدين إسرائيل.
بأي معنى إذن يمكننا أن نتحدث عن الديمقراطية في هذه الدول. الدول الديمقراطية الكبرى في عصرنا الراهن لا تعرف الديمقراطية إلا فيما يتعلق بالعلاقة بين السلطة وشعوبها، أما فيما يتعلق بالشعوب الأخرى، فهي لا ينبغي أن تتمتع بهذه الديمقراطية، فهي في النهاية شعوب ينبغي السيطرة عليها، وهذا ما يدعمه تاريخ طويل من إمبريالية هذه الدول في نظرتها للآخر، باعتبار أن هذا الآخر ينبغي دائمًا أن يظل تابعًا. وهذا مناط المشكلة على وجه التحديد: فالواقع أن ما يُروّج له تحت عنوان «ديمقراطية الغرب» هو في الحقيقة مفهوم وهمي، لا وجود له إلا داخل مجتمع محدود يمارس أشكال الديمقراطية المعتادة: كحرية الانتخابات والصحف والتعبير عن الرأي، وما إلى ذلك؛ أما شعوب الدول الأخرى، فلا يهم ما تعانيه من ظلم وعدوان وإبادة بشكل يجافي كل المواثيق الدولية. هذا ما نشاهده بوضوح من خلال الاعتداءات اليومية لجيش الاحتلال الإسرائيلي على شعب فلسطين. أدانت محكمة العدل الدولية هذه الممارسات باعتبارها ممارسات يمكن أن ترقى إلى إبادة حرب. فما الذي حدث؟ لا شيء! وما الذي يمكن أن يحدث برفع ذلك الأمر إلى مجلس الأمن: لا شيء! فمن المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية التي لها حق الفيتو سوف تُوقِف أي قرار يدين دولة إسرائيل التي هي ذراع أمريكا والغرب في الشرق الأوسط (ولذلك فقد استخدمت هذا الحق مؤخرًا في إبطال قرار بوقف إطلاق النار في غزة، مثلما استخدمت هذا الحق من قبل ثمانين مرة بإسراف وترخُّص لمنع إدانة إسرائيل!). ولذلك تستغل إسرائيل هذا العوار في القوانين الدولية، لتمارس كل أشكال العنف والاستبداد والإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني؛ ببساطة لأنها مطمئنة إلى أن القوانين الدولية باتت أشبه بحبر على ورق!.
ما الذي يمكن أن نقوله من راء كل هذا؟ الأمر بسيط، فما نود قوله هو أن الدساتير والقوانين العالمية التي تحكم هذا العالم، تحتاج إلى مراجعة جذرية، بحيث تؤمن بالديمقراطية وبالعدالة حقًا وصدقًا. وإلى أن يتحقق ذلك، فلا أمل من تحقيق شيء من الديمقراطية والعدالة في هذا العالم.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی النهایة مجلس الأمن حق الفیتو من الدول یمکن أن أی قرار
إقرأ أيضاً:
مصر في الصدارة.. وفاة 7 ملايين شخص حول العالم بسبب التدخين في 2023
كشفت دراسة أجراها معهد القياسات والتقييم الصحي (IHME) بجامعة واشنطن أن واحدُا من بين كل ثمانية أشخاص يتوفى نتيجة التدخين، مع ارتفاع هذه النسبة في بعض الدول مثل مصر. اعلان
وقدّر الباحثون أن التعرض للتدخين تسبب في مقتل أكثر من 7 ملايين شخص حول العالم في عام 2023. وكان السبب الرئيسي للوفيات بين الرجال، حيث توفي بسببه 5.59 مليون رجل، بينما جاء في المرتبة السابعة كعامل مسبب للوفاة بين النساء، بعد تسجيل 1.77 مليون حالة وفاة.
وأشاروا إلى أن بعض الدول شهدت زيادة كبيرة في الوفيات المرتبطة به، وعلى رأسها مصر، حيث ارتفعت نسبتها خلال عام 2023 بقدر 124.3% مقارنة بعام 1990.
وفي هذا السياق، علّق بروكس مورغان، الباحث في المعهد، بالقول: "بينما تسجل بعض الدول انخفاضًا مشجعًا في الوفيات المرتبطة بالتدخين، تسير دول أخرى في الاتجاه المعاكس."
وقد عُرض هذا البحث، إلى جانب أوراق أخرى، في المؤتمر العالمي لمكافحة التبغ الذي عُقد في دبلن يوم الإثنين.
Relatedدراسة جديدة تكشف: أدوية السمنة قد تساعد في تقليل الرغبة في الكحول والتدخينحظر التدخين.. مشروع في مهب الريح وسط انقسامات داخل البرلمان الأوروبيتقرير صحي جديد: الأزمات العالمية تعرقل جهود الملايين في الإقلاع عن التدخيندراسات أخرىحاول فريق من معهد الفعالية السريرية والصحية (IECS) في الأرجنتين دراسة تأثير التدخين في كل من بوليفيا، هندوراس، نيجيريا، باراغواي، وأوروغواي، وقد وجدوا أنه تسبب في أكثر من 41,000 حالة وفاة في تلك الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
بالإضافة إلى ذلك، تبين أن تلك الدول تتكبد خسائر مالية تقارب 4.3 مليار دولار، تشمل نفقات طبية، فقدان الإنتاجية، ورعاية غير رسمية كنتيجة للتدخين.
تجربة تبعث على التفاؤل في الصينفي المقابل، أظهرت ورقة بحثية أخرى تجربة ناجحة في الصين، حيث ساعدتأدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي المدخنين على التوقف التدريجي عن عاداتهم السيئة. وقد شملت الدراسة 272 مدخنًا، وكان معدل الإقلاع 17.6% بين مستخدمي هذه الأدوات، مقارنة بـ7.4% فقط في المجموعة الأخرى.
جميع منتجات التبع مضرةفي هذا السياق، قالت كاساندرا كيلي-سيرينو، المديرة التنفيذية للاتحاد الدولي لمكافحة السل وأمراض الرئة: "تُعد نتائج هذه الأبحاث تذكيرًا قويًا بأن التبغ لا يزال أحد أخطر التهديدات الصحية العامة في عصرنا. لا وجود لمنتج تبغ صحي، وغالبًا ما تؤدي محاولات تقليل المخاطر إلى زيادة أرباح الشركات. علينا أن نتبنى نهجًا صارمًا لا يتسامح مع هذه المنتجات."
من جهته، وصف الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، التقدم في مكافحة التبغ بأنه هش، وقال: "رغم زيادة التنظيم، تواصل صناعة التبغ تطورها، وتروج لمنتجات جديدة، وتستهدف الشباب، وتحاول تقويض جهودنا."
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة