بقلم : أحمد عصيد

يثير النقاش حول مدونة الأسرة بين التيارين الديمقراطي الحداثي والإسلامي المتشدّد،  مجموعة من الملاحظات التي ينبغي التذكير بها من أجل تدقيق نقط الخلاف وبيانها لمن ما زال يجد غموضا والتباسا في فهمها، وعلينا قبل ذلك التنبيه إلى أننا لا نقيم وزنا ولا اعتبارا لخطاب التهديد والوعيد الذي يمارسه بعض كهنة المعبد القديم، معتقدين أن الإرهاب الفكري يمكن أن يُعوّض الحوار الوطني الجاد والمسوؤل.

ويمكن إيراد الملاحظات على الشكل التالي:

1) إن المراجعة المقصودة لمدونة الأسرة ليست مراجعة فقهية معزولة يقوم بها فقهاء مختصون في الدين ولهم الكلمة الفصل في إقرار ما ينبغي أن يكون في نص المدونة، بل هي مراجعة شاملة تقوم بها مؤسسات دولة حديثة لنص مدني تجاوزه دستور البلاد منذ سنة 2011، وتجاوزه المجتمع المغربي بتحولاته المتلاحقة. ومن تم لا معنى لما صرح به البعض من أنّه لابد من منهج فقهي ضابط وقواعد ولا يمكن أن يخوض في النقاش “كل من هبّ ودبّ ؟”، فالأطراف التي استُدعيت للمشاركة في عملية المراجعة الشاملة ليست “من هبّ ودبّ”، بل هي جميعها مختصة في مجال عملها، الذي له صلة بموضوع الأسرة، ولكنها أطراف مختلفة في مرجعية العمل ومناهج النظر والبحث والتفكير، وفي منطق التعامل مع المؤسسات، ومحاولة الفقيه جعل المنهج الفقهي القديم هو المنهج الناظم لعملية المراجعة ككل تقتضي أن يكون نص المدونة نصا دينيا خالصا وهو ليس كذلك، كما تقتضي أيضا أن يكون منهج الفقهاء في القياس الشرعي ناسخا لكل مناهج العلوم وهذا غير ممكن، لأن لكل علم ومجال منطقه الخاص.

2) أن جميع الأطراف التي تم استدعاؤها من مكونات المجتمع المغربي ومنها المجتمع المدني والباحثون المختصون والأحزاب السياسية، والفقهاء المختصون في الشريعة والفقه الإسلامي كلها أطراف معنية بالموضوع ومطلوب منها الإدلاء بدلوها انطلاقا من زاوية اختصاصها، غير أنها مطالبة أيضا ـ وهذا هو الأهم ـ بإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة في الأسرة المغربية، وللثغرات التي أبانت عنها الممارسة طوال السنوات الـ 19 الأخيرة، ومن تم فإن “المنهج الضابط” الذي يقترحه الفقيه إن كان يتعلق بمنهج عمل الفقهاء الذين يشاركون في عملية المراجعة، فإنه منهج إن استطاع أن يقدّم الجديد وأن يأتي بالحلول الناجعة فستُعتبر نتائجُه من طرف المكونات الأخرى، وستكون محلّ ترحيب من الجميع بلا شك، لأن الهدف هو الإصلاح وليس صراع المرجعيات، وأما إذا ظل الفقيه يلتمس العذر بـ “ضوابط الاجتهاد” القديمة من أجل وضع المتارس والخطوط الحمراء لعملية المراجعة، فلن يكون فاعلا في مستوى اللحظة التاريخية التي نجتازها اليوم، كما أنه في غياب مراجعة لقواعد الفقه القديم نفسها وضوابط الاجتهاد التي تم إرساؤها منذ قرون طويلة، فسيصل الفقيه بلا شك إلى نفس نتائج الفقهاء القدامى، وهذا لا جدوى منه بتاتا.

3) أن ما كان يسمى علم “المراجعات الفقهية”، هو مجال مهم إذا تمّ تطبيقه خارج الضوابط القديمة، لأن معضلة الفقه عموما ليست في نتائجه وأحكامه وفتاواه التي أصبح الكثير منها خارج عصرنا، بل هي في جمود منطق التفكير ومنهج العمل وقواعد الاشتغال التي تؤدي دائما بسبب  الحفاظ عليها ثابتة إلى نفس النتائج بدون تغيير. حتى أن “ضوابط الاجتهاد” صارت ذريعة لعدم الاجتهاد، بينما الذي يهمّ الناس ليس الإغراق في نقاش نظري حول مفهوم الاجتهاد ومناهجه وحدوده بل ينتظرون إنصافهم بحلول تمكن من إحقاق الحقوق ومنع الظلم والتمييز في مجتمع اليوم.

فمشكلة قواعد التفكير الفقهي القديم هي في كونها ضوابط وآليات اشتغال ظلت في حدّ ذاتها جامدة لا يطالها التغيير، والمنهج كما هو معلوم ليس مفصولا كليا عن المضمون وعن الموضوع والواقع العملي أيضا وبنياته وتحولاته، ومن يحاول وضع ذلك الفصل ينتهي إلى إفراغ كل اجتهاد من مدلوله الحقيقي.

ولهذا آن الأوان أن يطرح الفقهاء السؤال الهام التالي: هل هناك “علوم” تحافظ على نفس القواعد والضوابط والمناهج لمدة 1200 عام بدون تغيير ؟

هذه النزعة الشكلانية الصورية التي تعطي الأولوية للقواعد النظرية على حساب الواقع الإنساني ومصلحة المواطن يقع فيها بعض دعاة التقليد والاجترار بسبب مبدأ نظري يؤدي إلى شلل العقل الفقهي وعقمه، وهو المبدأ الذي يعتبر الدين الإسلامي كلا لا يقبل التجزيء، وأن الأسئلة والقضايا والأحكام المتعلقة بالأسرة ينبغي أن تؤخذ في إطار الدين الشمولي بوصفه نسقا عاما. هؤلاء لا ينتبهون إلى أنّ الدين بوصفه نسقا عاما كان مرتبطا بنظام للدولة وببنيات اجتماعية محدّدة، فوحدها الدولة الدينية تستطيع الحفاظ على الإسلام كنسق شمولي غير قابل للتجزيء، أما في ظل الدولة الحديثة التي تقوم على قوانين وضعية مدنية لا دينية ولا عسكرية، وعلى مفهوم المواطنة والجنسية فلا يمكن اعتبار الدين في مجال الأسرة نظاما عاما أو نسقا شموليا يؤخذ كله بحذافيره، لأن ذلك يقتضي أن يكون نظام الدولة ونسقها السياسي دينيا خالصا، بينما يعلم هؤلاء جيدا بأن مدونة الأسرة المغربية هي خليط غير متجانس من مرجعيات متعددة ولا تخضع كل موادها للمنطق الفقهي والديني، فالمراجعة التي تمت سنة 2004 لم تكن كلها بمنطق الفقه القديم بل إن الكثير من التعديلات جاءت استجابة لمطالب تستقي رؤاها من مرجعيات حقوقية حديثة، بل علمانية بتعبير أدق. ولا شك أن الكثير من التعديلات القادمة ستكون أيضا من مرجعية حقوقية يقرّ الدستور المغربي اعتمادها بوصفها “كلا غير قابل للتجزيء” وأسمى من التشريعات الوطنية. 

4) نفس الشيء يقال عن نظام القيم الذي ما زال البعض يعتبره متجانسا تجانسا خالصا،  بينما في الحقيقة يعيش المغاربة أنماطا متعددة من أنظمة القيمة، ولهذا لم تعد القواعد الفقهية القديمة تستجيب لتحولات المجتمع، فنظام الإرث التقليدي كان ملائما لمنظومة قيم تضع الرجل في المركز باعتباره من “يخرج لطلب الرزق” ولـ”ينفق” على زوجته وأبنائه، أما اليوم فقد خرجت المرأة أيضا للعمل في كل القطاعات وصارت أيضا تنفق وتعيل أسرتها، مما غير من الناحية القيمية صورتها ووضعيتها بالكامل، فسيكون من الغبن والظلم الكبير تطبيق تصورات فقهية على واقع أصبح غريبا عن المنطق الفقهي كله، والمثال الصاعق على ذلك هو المبررات الفقهية لإبعاد النساء عن العمل وتولي مناصب الدولة في الفقه القديم والتي تتلخص في أربعة مبررات هي:

ـ  ضعف عقولهن مقارنة بعقول الرجال.

ـ غلبة العواطف على شخصيتهن، وضعف عزيمتهن وصرامتهن.

ـ عدم خبرتهن بالأموال.

ـ عدم جواز اختلاطهن بالرجال وخروجهن لغير ضرورة قصوى.

وهي ضوابط فقهية سيكون من قبيل الغلو والتطرف اللاعقلاني أن يقول بها اليوم طرف ما علانية، ولهذا يرفضون الولاية والحضانة والزواج بالأجنبي واقتسام الأموال المكتسبة والمساواة في الإرث، دون أن تكون لديهم الشجاعة لإيراد المبررات الفقهية التي يتبنونها سريا دون الإعلان عنها في تبرير دعواهم.

5) من جانب آخر يبدو أن السؤال المركزي اليوم لم يعد هو هل الدين صالح أم غير صالح، بل صار هو: كيف نقرأ الدين على ضوء واقعنا وخارج ما فهمه منه الفقهاء منذ 1200 سنة ؟ كما أصبح من الأسئلة المركزية التساؤل عن معنى “المصلحة”، هل هي ما أقره الشرع حسب الفقه التراثي أم هو ما يحقق الكرامة والمساواة والعدل بدلالاتها وأبعادها المعاصرة، وفي سياق التحولات المجتمعية التي نعيشها يوما عن يوم.

6) من الأدلة على عدم قدرة الفقه الإسلامي على مسايرة تحولات عصرنا ما يقال في تفسير التمسك بنظام الإرث التقليدي، حيث يدعي البعض بأن الإرث في الإسلام لم يأت لـ”حظوظ الأفراد” بل جاء للحفاظ على الأسرة، وقائلو هذا الكلام يتجاهلون كليا بأن مفهوم الأسرة الذي يتحدثون عنه قد حدث فيه انقلاب كبير جدا، فلا أحد من هؤلاء أنفسهم يقبل بأن يأتي أعمام أو أبناء العمومة من الذكور ليرثوا مع بناته عند وفاته، لأننا اليوم نفكر بمنطق العائلة النووية وليس العائلة الممتدة بالمفهوم العشائري القديم، الذي كان يقوم على سلطة الذكورة.

ولهذا تجد هؤلاء الذين لا يلدون إلا البنات يسعون بكل جهودهم إلى اعتماد “الهبة” أو غيرها من التحايلات لكي يحفظوا حقوق بناتهم من الجشع الذكوري للأعمام والأقرباء البعيدين، وهذا في حدّ ذاته دليل على وعيهم الباطني بأزمة نظام الإرث التقليدي في ظل التحولات المعاصرة.

وعوض أن يفكروا في مصلحة الأسرة المغربية، ينحازون في خطابهم إلى الفقه التراثي ضدا على مصلحة الإنسان، ثم يقررون عمليا لذويهم ما يخالف تصريحاتهم، ولهذا السلوك الفصامي في حدّ ذاته دلالات عميقة. 

المصدر: زنقة 20

كلمات دلالية: أن یکون

إقرأ أيضاً:

فوائد اللحوم لبناء جسم الإنسان.. وأفضل طرق الطهي

قالت الدكتورة منال عز الدين، الباحثة بمعهد تكنولوجيا الأغذية، إن اللحوم بكل أنواعها من أهم علامات عيد الأضحى المبارك، إذ يقبل المواطنين على الذبح أو الشراء، فهي رمز البهجة والفرحة، مضيفة أن اللحم تتميز بقيمتها الغذائية المرتفعة لأنها بروتين حيواني هام لبناء أنسجة الجسم تحتوي على السيلينيوم والزنك الذين يدعمون الجهاز المناعي، وتحتوي على الحديد الذي يحارب الأنيميا وفيتامين ب اللازم لسلامة كرات الدم الحمراء.

وأضافت عز الدين في تصريحها لـ"الوفد"، أن اللحم أيضًا تحتوي على نسبة من الدهون الصحية إذا تم تناولها بالمقدار السليم، موضحة أن جرام اللحم الواحد يعطي للجسم حوالي 4 سعر حراري، وجرام الدهن يعطي 9 سعر حراري، بالإضافة للأحماض الأمينية الموجودة في اللحم وبالتالي فهي مهمة جدا لجسم الإنسان.

أفضل طرق طهي اللحوم

وأكدت الباحثة بمعهد تكنولوجيا الأغذية، أن أشهر طرق الطهي وأكثرها صحة هي السلق والشوي، موجهة نصيحة لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن ومرضى الضغط والقلب: عليكم تناول اللحم المسلوق وهي أصح طرق الطهي لأنها تخلص اللحمة من أكبر نسبة من الدهون. 

وتابعت: الشوي من الأشكال الصحية لتناول الطعام ولكن الشوي الآمن في فرن البوتجاز أو الشواية الكهرباء، والابتعاد عن الشوي على الفحم الذي يتصاعد منه غازات أول أكسيد الكربون الذي يسبب الأمراض السرطانية.

وأكدت على عدم إضافة الملح  أثناء تدبيل اللحوم المعدة للشوي لانه يساعد على تخلصها من السوائل وبالتالي تأخذ وقت أكبر للتسوية وتصبح "ناشفة"، بالإضافة لضرورة وضع البقدونس تحت اللحم المشوية لأنه يساعد في امتصاص الدهون.

واختتمت: يجب إزالة الدهون التي تتكون على سطح الشوربة والتقليل من كمية الدهون المضافة للطعام، وأيضًا أثناء الأكل تناول البروتين والسلطة أولا والإقلال من النشويات، والحرص على شرب الماء بكميات كبيرة والابتعاد عن المشروبات الغازية.

مقالات مشابهة

  • المنوفية تُطلق مبادرة «الأب القدوة» ترسيخًا لاستعادة الدور الأبوي داخل الأسرة
  • حزن تجاوز المدى.. غزة تستقبل العيد بأسى وفقد في كل بيت وصلاة العيد وسط الركام والدمار (فيديو)
  • الشيخ الرفاعي: للعمل على تجاوز الفُرقة التي تُضعفنا وتُشتت شملنا
  • تدشين مشروع إطعام للفقراء والمرابطين في الجبهات
  • النائب كريم طلعت: نناقش قانون الإيجار القديم بعد إجازة عيد الأضحى
  • أسئلة في المنطق للاستاذ ضياء الدين بلال
  • فوائد اللحوم لبناء جسم الإنسان.. وأفضل طرق الطهي
  • عيد بلا أضاحي في العراق.. وفتوى بجواز إرسال ثمنها إلى غزة لإغاثة سكان القطاع
  • الأسرة العراقية والتّحدّيات الغريبة!
  • متى يتم إسقاط الحق في صرف الدعم النقدي بالضمان الاجتماعي الموحد؟