من أكثر الأمور إيلاماً بالنسبة لأي والد ووالدة، هو مشاهدة طفلهم يتعرّض لأذى ما، فكيف إذا كان ذلك على يد أشخاص مؤتمنين على رعايتهم وحمايتهم؟ الحديث هنا عن المربّيات المعنّفات، والحضانات غير المسؤولة التي توّظف وحوشاً وليس بشراً، وتوكل إليهم مهمّة رعاية أطفال صغار، لا حول لهم ولا قوّة. ولكن هل فكّرت تلك المربّية التي ضربت وشتمت وأرغمت طفلاً على تناول الطعام، في تداعيات أفعالها هذه على صحته النفسية؟ بالطبع لا.

     لا بد من أنكم تتذكرون قضية فيديو تعنيف الأطفال الرضّع في حضانة Garderêve الذي استفزّ الجميع، وسلّط الضوء على واقع مخيف موجود بالفعل في المجتمع اللبناني، جعل من الكثيرين يفكّرون مرّتين قبل تسجيل أبنائهم الصغار في حضانات.   تجربة مروعة
وبالفعل، هذا ما حصل مع لارا، وهي أمّ لطفلة تبلغ من العمر 3 سنوات، ولصبي في عمر الـ6 سنوات، والتي روت لـ"لبنان 24" تجربتها المخيفة.
لارا امرأة عاملة ولكن عن بعد، أي تعمل من منزلها لصالح إحدى الشركات، أرادت التركيز على عملها في هذه المرحلة فقررت توظيف مربية لدوام نهاري كي تعتني بابنتها الصغيرة.
وقالت: "وظفتها لاعتقادي بأن سيدة في عمرها، أي في أواخر الأربعينيات، لديها ما يكفي من الخبرة للتعامل مع طفة صغيرة، إلا أن الحقيقة صدمتني".
وكشفت أنها في يوم من الأيام، كانت توصل ابنها إلى المدرسة التي لا تبعد عن المنزل سوى دقائق قليلة، بينما كانت ابنتها في البيت مع المربية، مشيرة إلى أن الكاميرا في غرفة الصغيرة  كانت تسجّل الأحداث، لحسن الحظ.   وروت لارا لنا أنها قلّما تشاهد المقاطع التي تسجلها الكاميرا بحكم أنها في البيت دوماً، إلا أن "غريزة الأمومة" دفعتها هذه المرة لمشاهدة التسجيلات، وحسناً فعلت.
وقالت: "صعقت بما رأيته. شاهدت المربية وهي تغيّر الحفاض لابنتي بطريقة وحشية، إذ ضربتها على وجهها لأنها كانت تبكي كثيراً، وأمسكت بالحفاض المتّسخ ووضعته على وجه الطفلة، ثم رمته أرضاً وأمسكتها من يدها بطريقة عشوائية ومؤلمة جعلت الصغيرة تنفجر بكاءً بينما كانت المربية ترفعها لتضع الحفاض النظيف".
وتابعت لارا: "لم أصدّق عيني في بداية الأمر، ولمت نفسي مراراً خلال دقائق قليلة لأنني من وظفت هذه المرأة وأدخلتها منزلي كي تعتني بابنتي، إلا أنها كانت تؤذيها بدلاً من ذلك"، لافتة إلى أنّ ما حصل في حضانة Garderêve قبل أشهر جعلها تخاف الحضانات، فظّنت أن المربية المنزلية أفضل.
كما شددت على أن ما جعلها تشعر بشيء من التحسن هو أنها تمكنت من إنقاذ صغيرتها في الوقت المناسب بفضل "حدس الأمّ" الذي تملكه.   هذه التجربة دفعت بلارا إلى توجيه رسالة إلى الأمّهات، وهي أن يثقن بحدسهنّ مهما كلّف الأمر، مشددة على ضرورة التقصي جيداً عن المربية التي يفكرن بتوظيفها، فضلاً عن ضرورة تركيب كاميرات مراقبة في المنزل، وخاصة في غرفة الرضيع.
ما تعّرضت له إبنة لارا مخيف، لا بل مرعب، خاصة وأنه من الممكن أن يكون قد تكرر أكثر من مرة. إلا أن المرعب أكثر، هو الحالة النفسية التي من الممكن أن تكون قد تشكّلت لديها، على رغم صغر سنّها.

هل يتذكر الرضع ما يتعرضون له؟
فهل يتذكّر الرضع والأطفال الصغار ما يتعرّضون له من تجارب صعبة في عمرهم الصغير؟ وما أثرها على صحتهم النفسية؟
أسئلة حملناها إلى الإختصاصية في علم النفس العيادي، الأستاذة الجامعية وأمين عام الجمعية اللبنانية لعلم النفس د. كارول سعادة، التي كشفت أن الأطفال بعد عمر الـ5 سنوات يتذّكرون بشكل واعٍ تعرّضهم للعنف أو أي سوء تعرّضوا له، كما أن الأطفال الأصغر سناً في حال تعرضهم للعنف، تبقى الذكريات المؤلمة في ذاكرتهم العاطفية أي في اللاوعي.
وقالت لـ"لبنان 24" إن الأعراض تظهر بشكل سريع على الأطفال الذين يتعرضون للتعنيف ومنها القلق، الخوف، التبول اللاإرادي، التراجع في التحصيل المدرسي، عدم القدرة على التركيز والحركة الزائدة.
وشددت على أن العنف الذي يتعرض له الأطفال في عمر صغير جداً، يؤثر عليهم بشكل كبير حتى ولو لم يتذكرون بشكل واعٍ، لأنه يؤثر على الدماغ وعلى جهازهم العصبي، ما يؤدي إلى عدم القدرة على التعامل بشكل صحي مع العواطف والمشاعر، بالتالي التأثير هو بالشكل الأكبر على هيكل وظيفة الدماغ وخاصة في المناطق المسؤولة عن معالجة التنظيم العاطفي ومعالجة الخوف والقلق.
هذه العوامل تؤدي على المدى الأبعد بحسب سعادة، إلى شعور الطفل على حبّه لذاته وثقته بنفسه، كما على احساسه بالذنب الدائم، علاوة على أنه من الممكن أن يكره نفسه فيعنّفها بذاته سواء جسدياً أو فكرياً عن كريق التفكير الدائم بالإنتحار.   وفي هذا السياق، شددت سعادة على أنه ليس من الضروري أن يصبح الطفل المعنّف معنّفاً بدوره حين يكبر، علما أن المعنفين عادة يكونون قد تعرضوا لحالات عنف في صغرهم، إلا في حال جرى احتضانه نفسياً ومرّ لاحقاً بتجارب إيجابية وشعر من خلال بالأمان.
من هنا، أكّدت ضرورة تقديم الدعم النفسي وتوفير الجوّ التعليمي الصحي، والحصول على ما تيسّر من الأمان من الأهل والمحيطين بالطفل.
ودعت سعادة للانتباه إلى اضطراب ما بعد الصدمة PTSD التي من الممكن أن يصيب الأولاد بعد تعرضهم للعنف، ويتمثّل برؤيتهم لكوابيس أثناء النوم حتى ولو بعد أشهر عدّة من الحادث، فضلاً عن التبول اللاإرادي، عدم الرغبة بتناول الطعام، البكاء، العنف، قلّة التركيز ومشاكل الذاكرة.
إلى ذلك، شددت على ضرورة توفير الدعم العاطفي للولد من خلال المحيطين به، والذي يجب أن يستمر إلى فترة المراهقة بحيث يدفع به الأهل لاختيار هواية أو مهنة معيّنة يشغل نفسه بها ويستردّ ثقته بنفسه، وتشجيعه على الحركة الجسدية التي تساعد بالترويح عن الخوف والغضب الذي يشعر به.
وختمت بأن العلاج النفسي مهمّ جداً بالنسبة للأطفال، الذي يساهم بإعادة هيكلة الجهاز العصبي كي يتمكن من التحكم بالعواطف السلبية.
 
وفي المحصّلة، لمن لا رحمة لديهنّ ولا ذرّة محبة، هناك وظائف عدّة بإمكانكن اللجوء إليها. ولكن الأطفال؟ ابتعدن عنهم فيكبروا آمنين وسالمين، كي يتشكل المجتمع على أيامهم بالشكل والهيكلية الصحيحين. أمّا أنتن أيتها هالوحوش، فدعوات الأمهات وغضب الآباء لن تسلموا منهما أبداً! المصدر: خاص "لبنان 24"

المصدر: لبنان ٢٤

كلمات دلالية: من الممکن أن على أن إلا أن

إقرأ أيضاً:

على حافة الغابة البدائية: الحلقة (11)

الفصل الرابع
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (11)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

*ديباجة

تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest
*********************************
• ضربة الشمس وعلاجها. المستشفى
طُلب مني مجدداً في المساء في الأول من نوفمبر، الذهاب إلى نغومو. كانت السيدة فاور قد تمشت بضع ياردات في العراء دون أن تضع شيئاً على رأسها، وهي الآن طريحة الفراش بحمى شديدة وأعراض مهددة أخرى. حقًا، فقد كان رفيقي في السفر على متن السفينة أوروبا محقًا عندما قال إن الشمس هي عدونا الأكبر. وإليكم بعض الأمثلة الأخرى:--
كان هناك رجل أبيض يعمل في متجر، يستريح بعد الغداء مع بعض شعاع من الشمس يسقط على رأسه من خلال ثقب في السقف بحجم نصف القرش: كانت النتيجة حمى شديدة مع هذيان.
آخر فقد خوذته عندما انقلب قاربه. وبمجرد أن وصل إلى القارب الذي كان يطفو مقلوباً، استلقى على ظهره وتوقعاً للخطر، قام فوراً بخلع معطفه وقميصه ليحمي رأسه بهما. ولكن كان قد فات الأوان ، وأصيب بضربة شمس شديدة.
كان قبطان سفينة تجارية صغيرة يقوم ببعض الإصلاحات الصغيرة في هيكل سفينته التي سحبت إلى اليابسة. أثناء عمله انحنى برأسه فضربت الشمس على عنقه أسفل خوذته. هو أيضاً كان على وشك الموت لفترة من الزمن.
لكن مع ذلك فالأطفال، أقل تأثراً من البالغين. لم تمض فترة طويلة على خروج ابنة السيدة كريستول الصغيرة من المنزل دون أن يلاحظها أحد، ومشت في الشمس لمدة تقرب من عشر دقائق دون أن تصاب بأذى. أصبحت الآن معتاداً جداً على هذا الوضع لدرجة أنني أشعر بالرهبة كلما رأيت الناس في الصحف المصورة وهم يمشون في الهواء الطلق دون غطاء للرأس، وأضطر إلى طمأنة نفسي بأن الأشخاص البيض يمكنهم فعل ذلك دون أذى في أوروبا.
كان قبطان الباخرة الصغيرة، الذي أصيب هو نفسه بضربة شمس، لطيفاً بما يكفي ليعرض عليّ ايصالي إلى نغومو، وذهبت زوجتي معي للمساعدة في رعاية المريض. واتبعت نصيحة طبيب استعماري ذو خبرة، وعالجت ضربة الشمس كما لو كانت ملاريا خبيثة. أعطيتها حقناً عضلية من محلول الكينين القوي. لقد ثبت أن ضربة الشمس تشكل خطراً خاصاً على الأشخاص الذين هم بالفعل مصابون بالملاريا، ويدّعي العديد من الأطباء أن نصف الأعراض تقريباً تعزى إلى نوبة الملاريا التي تسببها ضربة الشمس. وهناك ضرورة أخرى في مثل هذه الحالات، فعندما لا يستطيع المريض تناول أي شيء أو يتقيأ كل شيء، علينا إدخال كمية كافية من السوائل إلى النظام لتجنب تلف الكلى الذي قد يهدد الحياة. ويتم ذلك بأفضل طريقة بنصف لتر من الماء المقطر والمعقم يحتوي على 65 حبة (4½ جرام) من ملح الطعام التقي، ثم يتم حقنه تحت الجلد أو في وريد الذراع بواسطة كانيولا
.
فوجئنا بسرور عند عودتنا من نغومو، بسماع أن جناح المستشفى المصنوع من الزنك كان جاهزاً. وبعد أسبوعين، كانت التجهيزات الداخلية قد انتهت عملياً، وغادرنا أنا وجوزيف حظيرة الدجاج واستقرينا هناك، بمساعدة زوجتي وبنشاط جم. وهنا أدين بالشكرالجزيل لهذا المبنى للسيد كاست والسيد أوتمان، العاملين العمليين في البعثة؛ الأول سويسري، والثاني من مواليد الأرجنتين. وكان من المفيد جداً أننا تمكنا من مناقشة جميع التفاصيل معاً، وأن هذين الشخصين كانا مستعدين للاستماع إلى الاقتراحات التي قدمتها حسب معرفتي الطبية. لذا، فإن المبنى، على الرغم من كونه بسيطاً وصغيراً، إلا أنه مريح بصورة استثنائية: فقذ تم استغلال كل زاوية وركن فيه بصورة جيدة.
يحتوي المبنى على غرفتين، تبلغ مساحة كل منهما 13 قدماً مربعاً، تستخدم الغرفة الخارجية للمقابلات، والداخلية للعمليات. وهناك أيضاً غرفتان صغيرتان على الجانبين تحت الامتدادات الواسعة جداً للسقف: واحدة هي الصيدلية، والأخرى غرفة التعقيم. وكانت الأرضية مصنوعة من الأسمنت. النوافذ كبيرة جدًا وتصل إلى السقف. وهذا يمنع أي تراكم للهواء الساخن في أعلى الغرفة،وتدهش برودتها أي زائر، على الرغم من أن المباني المصنوعة من الزنك تُعتبر دائمًا حارة في المناطق الاستوائية بصورة لا تطاق. لا يوجد زجاج في النوافذ، فقط شبك من الاسلاك الناعمة (نمليات) لمنع دخول البعوض، ولكن هناك مصاريع خشبية بالخارج، وهي ضرورية بسبب العواصف. توجد على طول الجدران أرفف عريضة، العديد منها مصنوع من الخشب النادر. لم يكن لدينا ألواح عادية متبقية، وكان من الممكن أن يكلف أكثر بكثير لو قمنا بنشر ألواح جديدة بدلاً من استخدام تلك الألواح غالية الثمن التي كانت جاهزة لدينا، بالإضافة إلى أن ذلك كان سيتسبب في تأخير العمل لأسابيع. تحت السقف شد قماش الكاليكو الأبيض بإحكام كحماية ضد البعوض، الذي كان سيجد طريقه إلى الداخل عبر الثقوب.
تم تجهيز غرفة الانتظار وبناء مظلة لإيواء المرضى خلال شهر ديسمبر. كلا المبنيين مشيدان مثل الأكواخ الكبيرة المحلية من جذوع الأشجار غير المشذبة وأوراق الرافيا، وقد شاركت بنفسي في العمل تحت إشراف السيد كريستول. تبلغ أبعاد عنابر المرضى 42 قدماً طولاً في 19 قدماً عرضاً و6 بوصات ارتفاعاً. إمتلك جوزيف كوخاً كبيراً لنفسه. تقع هذه المباني على جانبي مسار يبلغ طوله حوالي 30 ياردة، ويؤدي من المبنى الحديدي إلى خليج في النهر، حيث ترسو زوارق المرضى. وتظلل شجرة مانجو رائعة الخليج.
عندما صار سقف المأوى جاهزاً، قمت بوضع علامات على أرضية التراب المضغوط باستخدام عصا مدببة لستة عشر مستطيلاً كبيرًا، كل منها يمثل سريراً، مع ترك ممرات بينها. ثم تم استدعاء المرضى ومرافقيهم، الذين كانوا حتى الآن مقيمين في القوارب. تم وضع كل مريض في مستطيل، من المفترض أن يكون مكان نومه، وأُعطيت مرافقيهم فؤوساً لبناء الأسرة؛ وكان هناك قطعة من اللحاء على وتد تظهر الارتفاع الذي يجب أن تكون عليه الاسرة. وبعد ربع ساعة، كانت الزوارق تصعد وتنزل النهر لجلب الخشب اللازم، وكانت الأسرة جاهزة قبل حلول الليل. تتكون الأسرة من أربعة أعمدة قصيرة تنتهي بشوكات، تُربط عليها عمودان جانبيان قويان، مع قطع أقصر مستعرضة، وكلها مربوطة بإحكام بأنواع من حبال النباتات الزاحفة. يُستخدم العشب الجاف فراشاً. ترتفع الأسرة حوالي 20 بوصة عن الأرض، بحيث يمكن تخزين الصناديق وأدوات الطهي والموز تحتها، وهي عريضة بما يكفي ليتسع كل سرير لشخصين أو ثلاثة في وقت واحد؛ وإذا لم تتوفر مساحة كافية، يمكن للمرافقين النوم على الأرض، وعليهم أن يحضروا معهم ناموسياتهم الخاصة.
لا يوجد فصل بين الجنسين في العنبر الكبير؛ وهم يرتبون أنفسهم بطريقتهم الخاصة. الشيء الوحيد الذي كنت أصر عليه هو أن لا يأخذ الأصحاء سريراً بينما يضطر المريض للنوم على الأرض. ويجب عليّ أن أبني قريباً بعض الأكواخ الإضافية لإيوائهم، لأن هذا المهجع الواحد ليس كافياً. كما يجب أن أخصص أيضاً بعض الغرف لعزل الحالات المعدية، خاصة حالات الزحار (السنتاريا). أما المرضى الذين يعانون من داء النوم، فلا أستطيع إبقاءهم في المستشفى لفترة طويلة، حيث إنهم يشكلون خطراً على صحة المحطة بأكملها، وفيما بعد سأبني لهم كوخاً في مكان هادئ على الجانب الآخر من النهر. هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به بجانب العلاج الطبي البحت.
********************************
مع اكتمال بناء المستشفى، استطاعت زوجة الطبيب تطوير نشاطها بصورة كاملة. كان هناك مكان فقط لجوزيف ولي في حظيرة الدجاج. هي تشاركني في تعليم جوزيف كيفية تنظيف الأدوات والتعامل معها والتحضير للعمليات. كما أنها تشرف على الغسيل، ويتطلب الأمرجهداً كبيراً لضمان تنظيف الضمادات المتسخة والمصابة بصورة صحيحة وغليها بدرجة كافية. كانت تظهر في الوقت المحدد في الساعة العاشرة، وتبقى حتى الثانية عشرة، مصرة على أن يتم الحفاظ على كل شيء في حالة جيدة.
يجب أن تفهم ما يعنيه ترك زوجتي أعمالها المنزلية لتخصص معظم وقت الصباح للعمل الطبي وكذلك بعض فترات بعد الظهر للعمليات، حيث تقوم بإعطاء المخدر، يجب معرفة مدى تعقيد أبسط أسلوب لإدارة المنزل في إفريقيا. هذا نتيجة لسببين: أولاً، التقسيم الصارم للمهام بين الخدم المحليين، وثانياً، عدم موثوقيتهم. يجب علينا الاحتفاظ، كما هو معتاد، بثلاثة خدم: صبي، وطباخ، وغسال. تكليف العمل الأخير للصبي أو الطباخ، كما يحدث في كثير من الأحيان في الأسر الصغيرة، هو أمر مستحيل في حالتنا بسبب الغسيل الإضافي الذي يأتي إلى المنزل من المستشفى. باستثناء هذا، يمكن لخادمة أوروبية معتدلة الكفاءة القيام بكل العمل بصورة جيد بمفردها. فالطباخ لا يقوم بأي شيء سوى الطبخ، والغسال يقوم بالغسيل والكي، والصبي يعتني بالغرف والدجاج فقط. وبمجرد أن ينتهي كل منهم، من عمله، يذهب للراحة! لذلك يجب علينا أن نقوم بأنفسنا بأي عمل لا ينتمي إلى أي من أقسامهم المحددة بصرامة. لا يمكن الحصول على خادمات هنا. فمثلاً السيدة كريستول لديها مربية لطفلتها البالغة من العمر ثمانية عشر شهراً صبي محلي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً يُدعى مبورو.
ثم، مرة أخرى، جميع الخدم، حتى أفضلهم، غير موثوقين لدرجة أنه لا يجب أن يتعرضوا لأدنى إغراء. هذا يعني أنه لا يجب تركهم وحدهم في المنزل أبداً. فطوال الوقت الذي يعملون فيه هناك، يجب أن تكون زوجتي موجودة أيضاً، ويجب الاحتفاظ بكل شيء مغلقاً قد يكون مغرياً لعدم أمانتهم. كل صباح، يُعطى الطباخ بالضبط ما يجب تحضيره لوجباتنا، مثل كمية محددة من الأرز، والدهون، والبطاطا؛ يحتفظ في المطبخ بكمية صغيرة فقط من الملح، والدقيق، والتوابل، وإذا نسي شيئاً، كان يتوجب على زوجتي أن تصعد التل مرة أخرى إلى المنزل من المستشفى لتقديمه له. فأنت لا تستطيع تركهم وحدهم في غرفة، وان تحتفظ بكل شيء مقفلًا ولا تثق بهم بأكثر من الكمية المحددة من المواد الغذائية، ولا يُعتبر هذه إهانة من قبل الخدم السود. فهم أنفسهم يتوقعون منا أن نتخذ مثل هذه التدابير الوقائية بدقة، لكي لا يُحاسبوا على أي سرقة عرضية. ويصر جوزيف علىّ أن أقفل الصيدلية إذا ذهبت إلى المهجع من المبنى الحديدي حتى ولو لدقيقتين، وأتركه وحده في غرفة الاستقبال التي يتم الدخول منها إلى الصيدلية. إذا لم يتبع الأوروبي هذه الاحتياطات، فإن الخدم السود يسرقون أغراضه بضمير مرتاح. فما لا يتم تأمينه "يذهب في نزهة"، حسب تعبير جوزيف؛ ويمكنك هكذا سرقة أي شيء من شخص مهمل!
ولكن الأسوأ من ذلك، أن الزنجي لا يسرق فقط ما يكون ذا قيمة له، بل أي شيء يجذبه لحظتها. فقد فقد السيد رامبو من سامكيتا بهذه الطريقة جزءاً من عمل قيم مكون من عدة مجلدات، واختفى يوماً ما من رف كتبي نسخة البيانو من "أسياد الغناء" لفاجنر ونسخة موسيقى الآلام لباخ (حسب إنجيل متى)، التي كنت قد كتبت فيها بمرافقة الأورغن والتي عملت عليها بعناية فائقة! هذا الشعور بعدم الأمان الدائم من أبسط أعمال السرقة يجعل الإنسان أحياناً يصل إلى حد اليأس، وأن تضطر إلى إبقاء كل شيء مقفلاً وتتحول إلى حزمة من المفاتيح المتنقلة مما يضيف على حياتك عبئاً اضافياً رهيباً.

*************************************
إذا كنت سأعتمد فقط على ما يطلبه السود، كان يجب عليّ الآن أن أجري عملية جراحية لشخص ما كل يوم؛ الناس الذين يعانون من الفتق يتشاجرون حول من يجب أن يخضع للسكين أولاً! ومع ذلك، في الوقت الحالي، نتدبر الأمر بإجراء عمليتين أو ثلاث في الأسبوع. لأكثر من ذلك، لن تستطيع زوجتي من إدارة التحضيرات الضرورية وتنظيف الأدوات ووضعها بعيداً بعدها؛ وانا لن أكون قادراً على القيام بالعمل. وكثيراً ما أضطر إلى إجراء عملية في فترة بعد الظهرعندما أكون مشغولاً حتى الساعة الواحدة أو حتى وقت لاحق بتضميد الجروح والفحص؛ وفي هذا البلد لا يمكن للمرء أن يتحمل مثل هذا العبء كما في المناخ الأكثر اعتدالاً.
أن يسمح جوزف لنفسه بجمع الأوعية التي تحتوي على الدم بعد العملية وغسل الأدوات، هو علامة على وعٍ عالٍ جداً. فألاسود العادي لن يلمس أي شيء ملوث بالدم أو القيح، لأنه سيجعله نجساً بالمعنى الديني. وفي العديد من مناطق إفريقيا الاستوائية، من الصعب أو حتى من المستحيل إقناع السكان المحليين بالخضوع لعملية جراحية، ولا أعرف لماذا يتوافد الناس في أوغووي إلينا لهذا الغرض. ربما يكون استعدادهم مرتبطاً بحقيقة أنه قبل بضع سنوات أقام طبيب عسكري يُدعى جوريغيبيرت مع قائد المنطقة في لامباريني، وأجرى سلسلة من العمليات الناجحة. لقد زرع هو، وأنا أحصد الآن.
قبل فترة وجيزة حصلت على حالة نادرة من الإصابة لإجراء عملية جراحية، قد يحسدني عليها العديد من الجراحين المشهورين. كانت حالة فتق مختنق برز تحت الأضلاع، ما يسمى بالفتق القطني. كانت هناك كل التعقيدات الممكنة، وعندما حل الظلام لم أكن قد انتهيت بعد؛ من أجل الغرز النهائية كان على جوزف أن يمسك لي المصباح. ولكن نجحت العملية وتعافى المريض.
لقد لفتت العمليات الجراحية الانتباه على صبي كان لديه قطعة من العظم المتنخر، بطول يده، تبرز الركبة من أسفل ساقه لمدة عام ونصف. كانت الحالة التهاب نخاع العظم، وكان القيح المتجمع منها ذو رائحة كريهة لدرجة أن لا أحد يمكنه البقاء بالقرب منه لفترة طويلة. وكان الصبي نفسه قد تحول إلى هيكل عظمي، لكنه الآن سمين وبصحة جيدة وقد بدأ في المشي مرة أخرى.
كانت جميع عملياتي الجراحية ناجحة حتى الآن، وهذا يزيد من ثقة السكان المحليين إلى حد يكاد يخيفني. وأكثر ما يثير إعجابهم هو المخدر، ويتحدثون كثيراً عنه. تتبادل الفتيات في مدرستنا الرسائل مع أولئك الطلاب في مدرسة الأحد في الوطن، وفي إحداها كانت هناك الأخبار التالية: "منذ أن جاء الطبيب إلى هنا رأينا أشياء مذهلة تحدث. أولاً، يقتل الطبيب الأشخاص المرضى؛ ثم يشفيهم، وبعد ذلك يوقظهم مرة أخرى." فالتخدير، يبدو بالنسبة للسكان المحليين عبارة عن عملية موت، وبالمثل إذا أراد أحدهم أن يجعلني أفهم أنه قد أصيب بنوبة سكتة دماغية، يقول لي: "انني كنت ميتاً".
هناك أحياناً مرضى يحاولون إظهار امتنانهم. فالرجل الذي تم تحريره في أغسطس من فتق مختنق جمع 20 فرنكًا من أقاربه، "لدفع ثمن الخيط الغالي الذي خيط به الطبيب بطني."
عم الصبي الذي كان يعاني من تقرحات في قدميه، وهو نجار بالمهنة، عمل متبرعاً لمدة أربعة عشر يوماً لي، حيث تمكن من صنع خزائن من صناديق قديمة. كما عرض علي تاجر أسود عماله من أجل أن يتم ترتيب سقف بيتي في الوقت المناسب قبل موسم الأمطار. وجاء آخر لرؤيتي وشكرني على قدومي لمساعدة السكان الأصليين، وعندما غادر قدم لي 20 فرنكًا لصندوق الأدوية. وقدم مريض آخر لزوجتي (سوط عنج) مصنوع من جلد فرس النهر. يتم صنعه بهذه الطريقة: فعندما يُقتل فرس النهر، يتم تقطيع جلده، الذي يتراوح سمكه من نصف بوصة إلى بوصة واحدة، إلى شرائط بعرض حوالي بوصة ونصف وطول يقارب خمسة أقدام. يتم تثبيت أحد الطرفين بلوح، ويلف الشريط على شكل حلزوني، ويتم تثبيت الطرف الآخر. وعندما يجف، تصبح تلك الأداة المرنة والحادة الزوايا اداة تعذيب جاهزة ومرعبة بحق.

******************************


aahmedgumaa@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • الرسائل الأخيرة قبل مقتل الطبيبة "نُهى محمود"
  • في 7 خطوات.. كيف يتعلم الكبار السعادة من الأطفال؟
  • ستورمي دانييلز تدعو إلى سجن دونالد ترامب بعد إدانته بـ 34 تهمة
  • مفاجآت جديدة بملف التيك توكرز!
  • التنمر والعنف.. خطر مجتمعي
  • لماذا تفشل السياسة الأمريكية في السودان؟
  • كشف الاسم الحقيقي لـ ميلا الزهرانى وحجم ثروتها
  • وفاء عامر: ترددت قبل المشاركة في "جبل الحريم".. والست فعلًا جبل (خاص)
  • صادم.. شابة تعترف بالتخلي عن طفلها في حاوية قمامة
  • على حافة الغابة البدائية: الحلقة (11)