خلافا للتوقعات التي رجّحت تأثير روحانية شهر رمضان على أطراف الصراع في السودان واستجابتهم للمناشدات الدولية والأممية لهدنة إنسانية في رمضان تتيح تدفق المساعدات لأكثر من نصف السكان المهددين بشبح المجاعة، شهدت الأيام الماضية تصعيدا عسكريا واسع النطاق بدد الآمال في استعادة السودانيين حياتهم التي فقدوها جراء الحرب، في تعقيدات تلوح بقرارات اممية تحت الفصل السابع قد تجعل من السودان نموذجا لواحدة من أفظع حروب القرن.


الثورة / أبو بكر عبدالله

منذ إعلان الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ترحيبهما بقرار مجلس الأمن الدولي لإعلان هدنة مؤقتة في السودان خلال شهر رضمان، لم يتحقق على الأرض أي شيء فجميع الأطراف المتصارعة أدارت ظهرها لمناشدات الهدنة الإنسانية والقرار الأممي بعد أن انخرطوا في معارك بالعاصمة الخرطوم ومدينة أم درمان، لم تغيير كثيرا من المعادلة العسكرية القائمة، سوى في إيقاعها مئات القتلى والجرحى وتشريد المزيد من المدنيين.
على الجانب الآخر كانت تقارير المنظمات الدولية تحذر من تدهور مريع في الملف الإنساني في ظل مقاربات تؤكد أن أقل من 5 % من السودانيين بالكاد يستطيعون تناول وجبة واحدة، بينما افتقد 95 % من الشعب السوداني لأول مرة القدرة على توفير وجبات تسد الرمق.
تقارير المنظمات الإنسانية افصحت عن أن نحو 90% من المدنيين المختبئين في أقاليم السودان المختلفة، صاروا يواجهون مستويات طارئة من الجوع وجميعهم عالقون في مناطق يصعب الوصول إليها في حين أن تطاول أمد الحرب أدى إلى تراجع قدرة السودانيين على التضامن بسبب تآكل المدخرات وفقدان أكثر من 8 ملايين من العاملين في القطاعين الحكومي والخاص والأعمال اليومية البسيطة أعمالهم أو يعانون من انقطاع مرتباتهم منذ شهور طويلة.
وجميع الأطراف يجمعون على أن النزاع العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع المندلع منذ ابريل العام الماضي تسبب بكارثة إنسانية كبيرة، يموت فيها عشرات الآلاف من المدنيين يوميا بسبب الجوع في ظل تصاعد أخطر أزمة سوء تغذية تعصف بحياة أكثر من 700 ألف طفل هذا العام.
وتهدد أزمة الجوع حاليا نحو 10 ملايين نسمة من السودانيين الفارين من الحرب ونحو 15 مليونا من العالقين في مناطق القتال، وسط مخاوف متزايدة من تكرار سيناريو المجاعات الكبرى التي عاشها السودانيون وعلى رأسها مجاعة “سنة 6” التي تعد واحدة من أشهر 4 المجاعات التي عرفها السودان في التاريخ.

تحت جحيم الحرب
مع اقتراب دخول الحرب في السوادان عامها الثاني في أبريل المقبل، يتذكر السودانيون آثار الحرب التي اندلعت قبل عشرين عاماً، والتي شهدت فيها ولاية دارفور أكبر أزمة جوع في العالم استطاع العالم حينها توحيد جهوده لمواجهتها ولكنهم يشعرون اليوم بالبؤس والفزع معا، بعد أن صاروا منسيين بأزمة انعدام للأمن الغذائي تهدد نحو ثلثي السكان.
والمشهد القاتم للأزمة يتحدث اليوم عن نحو 25 مليون نسمة منتشرون بجميع أنحاء السودان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثرهم فقدوا مصدر دخلهم وأعمالهم، وبينهم 8 ملايين نسمة هجروا من منازلهم وقراهم إلى مناطق بالداخل السوداني، فضلا عن مليوني نازح هربوا إلى مخيمات مؤقتة للجوء في تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان ليدفع أكثر من 20 مليون طفل الثمن الباهظ للحرب المشتعلة في معظم مناطق البلاد.
رغم ان فترة الحرب تعد قليلة قياسا إلى حروب أخرى مستمرة منذ سنوات، فقد تضافرت بحرب السودان العديد من الأسباب التي أدت إلى ظهور شبح المجاعة في كل أقاليم السودان بلا استثناء بما فيها إقليم العاصمة الخرطوم، بعد أن صار قصف الأحياء والمدن وتدمير البنى التحتية والنهب والحصار والاغتصاب والتهجير القسري وإحراق القرى ممارسات يومية يعانيها معظم السكان في هذا البلد.
وتبدو مفاعيل الأزمة أكثر فداحة في الجيوب المنسية الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع ولا سيما في إقليم دارفور وولاية غرب كردفان التي كانت حتى وقت قريب تحظى بعناية منظمات الإغاثة الدولية قبل أن تصدر هذه المنظمات بيانات تحذير جماعية من مخاطر نشوب كارثة إنسانية كبرى في هذه المناطق جراء استحالة إيصال مساعدات إنسانية للمدنيين العالقين فيها.
تتزايد المعاناة لدى المدنيين الذين فروا من قراهم وتقطعت بهم السبل في مخيمات لجوء في دولة تشاد المجاورة، في ظل أوضاع لم تعد اليوم تختلف عن الأوضاع التي يعيشها إقرانهم بالداخل السوداني بسبب شح المساعدات الدولية، في حين تتحدث التقارير الدولية عن آلاف المدنيين المحاصرين من قوات الدعم السريع في ولاية جنوب كردفان يعانون من نقص حاد في المواد الغذائية ومهددون بالمجاعة.
المشهد لا يبدو أفضل في المناطق التي كانت بعيدة عن الحرب، فجميع السودانيين البالغ تعدادهم نحو 43 مليون نسمة يعانون من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المهربة زاد من ذلك أن الحكومة السودانية لم تصرف المرتبات الشهرية لموظفي الخدمة المدنية منذ نحو 10 أشهر.

تعقيدات ومخاوف
قبل أسابيع تجاوزت السلطات السودانية مخاوفها من تدفق السلاح إلى قوات الدعم السريع المسيطرة على العديد من المناطق في اقليم دارفور، وقررت السماح بتدفق المساعدات اليها عبر تشاد، غير أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ، بعد أن تجاوزت التدخلات الدولية هذه المبادرة إلى أخرى تمثلت بالقرار الصادر عن مجلس الأمن بشأن هدنة رمضان والذي يقول السودانيون أنها فشلت قبل أن تبدأ.
وقرار الحكومة السودانية السماح بتدفق المساعدات إلى دارفور عبر تشاد، تزامنا مع قرارات أخرى سمحت أيضا بفتح مسارات بحرية وبرية عدة لدخول المساعدات عبر بورتسودان ـ عطبرة ومليط وكذلك عبر مسار تشاد ـ دارفور.
بررت الحكومة ذلك بحصولها على تعهدات بتفعيل القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2003 بحظر توريد الأسلحة إلى إقليم دارفور، فضلا عن حصولها على موافقات تمنحها حق التأكد من أن هذه القوافل تضم فقط مساعدات إنسانية وليس شحنات أسلحة إلى قوات الدعم السريع التي قالت الأمم المتحدة في وقت سابق أنها تستغل عدة منافذ لإدخال السلاح والذخائر إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها.
لكن المشكلة بدت مؤخرا، أكثر تعقيدا من مسألة تحديد ممرات آمنة لتدفق المساعدات، فخلال الشهور الماضية للحرب وتحديدا منذ منتصف العام الماضي اضطرت معظم المنظمات الإنسانية والبعثات الدبلوماسية إما للانتقال إلى مدينة بورتسودان حيث تعمل المؤسسات الحكومية حاليا أو الخروج من السودان نهائيا، ما قلل حجم المساعدات التي يتلقاها المدنيون.
وتفاقمت الأزمة أكثر في نوفمبر الماضي نتيجة التضييق الحكومي على المنظمات الإنسانية بعد تحديد السلطات معابر محدده لدخول المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة أو عبر الحدود المصرية، ما عرقل عمل كثير من المنظمات الدولية الإغاثية التي أعلنت أنها تواجه صعوبات في توصيل المعونات الغذائية، في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة.
لكن الأزمة اليوم تبدو وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في ظل التوقعات التي تحذر من تفاقمها جراء موسم الجفاف الذي يبدأ في مايو المقبل، والذي تنخفض فيه معدلات الأمن الغذائي في الظروف العادية بالسودان إلى أدنى معدلاتها بما يجعل حدوث المجاعة أمرا واقعا.
هذا الأمر الذي أفصح عنه منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفت مؤخرا بدعوته إلى تدخل دولي عاجل لمنع تدهور الوضع من خلال إدخال مزيد من المواد الغذائية وكذلك البذور لزراعتها للموسم المقبل.
وعلى أن السودان يتملك أكبر أراضي خصبة في القارة الأفريقية بحوالي 180 مليون فدان صالحة للزراعة، إلا أنه سيواجه بلا شك شبح الجوع بعد أن أدت الحرب إلى انهيار نظام التمويل الزراعي الذي أفقد السودانيين فرصة تأمين الغذاء للشهور القادمة من العام الجاري، نتيجة عدم استغلال تلك المساحات بالشكل المناسب واحتمالات خروج مساحات كبيرة من مشاريع النيل الأبيض ومشروع الجزيرة وهو أكبر مشروع زراعي في البلاد عن دائرة الإنتاج بصورة كلية.

مشكلات كبيرة
طوال الفترة الماضية ظل ملف المساعدات الإنسانية من الملفات الساخنة بين السلطات السودانية ممثلة بمجلس السيادة الانتقالي وقوات الدعم السريع، ولم تفض جهود “منبر جدة” في السابق إلى حلحلته رغم التزام أطراف الصراع بتنسيق جهود بتسهيل إجراءات تدفق المساعدات.
وأدى تعثر برنامج الغذاء العالمي وعدد من المنظمات الدولية العاملة في الحقل الإنساني في إيجاد سبل للوصول إلى المحتاجين، إلى تحرك متأخر من قبل الحكومة السودانية عبر اللجنة الوطنية العليا المشتركة للطوارئ الإنسانية والتي حددت منافذ يُسمح من خلالها بدخول المساعدات الإنسانية، كما أبلغت الخرطوم الأمم المتحدة موافقتها على تحديد المزيد من المعابر لدخول المساعدات الإنسانية إلى دارفور عبر تشاد للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بعد اتفاق تم بين الحكومتين السودانية والتشادية على الجوانب الفنية.
لكن هذه الخطوة بدت متأخرة كثيرا، وبدت أيضا وكأنها خطوة استباقية للقرار الأممي الذي صدر في 8 مارس الجاري بشأن هدنة رمضان.
ومع ذلك يمكن إن تشكل هذه الخطوة نافذة أمل لملايين الجوعى في معسكرات النازحين في إقليمي دارفور وكردفان، والمناطق الأخرى التي تعاني نقصا حادا في الغذاء بسبب الحرب التي هددت الأمن الغذائي لنحو ثلثي السكان.
والتقارير التي تتحدث عن عرقلة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع دخول المساعدات الإنسانية لم تكن في الواقع سوى جانب من المشكلة، بعد أن أعلنت الأمم المتحدة عدم كفاية الدعم الدولي اللازم لتأمين هذه المساعدات ووصولها إلى السودان في ظل النقص الكبير في التمويل يبلغ نحو 70 % من المبلغ الفعلي المطلوب والمقدر بنحو 4 مليارات دولار.
يشار في ذلك إلى أن كل الجهود التي بذلت منذ اندلاع الحرب في أبريل العام الماضي عبر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) وشركائه لم تغطى سوى 8 ملايين نسمة، وهو عدد يقل كثيرا عن عدد السودانيين المحتاجين لمساعدات إغاثية عاجلة.
هذا الأمر دعا منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى دعوة دول العالم إلى التوقف عن غض النظر عن الكارثة التي أحدثتها الحرب الأهلية الدائرة منذ عشرة شهور في ظل التقديرات التي تؤكد أن أكثر من 700 ألف طفل سيعانون على الأرجح من أكثر أشكال سوء التغذية المسببة للوفاة خلال هذا العام.

بانتظار كارثة
المشهد القاتم المتوقع للأزمة الإنسانية خلال الشهور القامة قد يفتح الطريق لقرار أممي يصدر تحت الفصل السابع بعد أن فشل القرار غير الملزم الذي صدر قبل رمضان تحت الفصل السادس لهدنة مؤقتة في رمضان تتيح دخول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، غير أن قرار مثل هذا قد يفتح على السودان أبواب الجحيم في ظل الأوضاع الاقتصادية والعسكرية القائمة اليوم.
والمتأمل في تصريحات المسؤولين الأمميين والدوليين تجاه الأزمة في السودان سيجد أن جميعها تؤشر إلى أن العالم قد استنفذ كل خياراته، بعد الفشل الذريع الذي منيت به مقررات “منبر جدة” وانهيار جهود البعثة الأممية وأخيرا انهيار قرار مجلس الأمن الأخير بشأن هدنة رمضان، ما قد يجعل أي تحرك دولي أو أممي تجاه الأزمة غير بعيد عن التزامات الفصل السابع.
في ظل سيناريو كهذا لن يستطيع الاقتصاد السوداني المترنح على حافة الهاوية الصمود، في ظل خسائر سنوية تقدر بنحو 5.4 مليار دولار سنويا، ولن يكون هناك مجال للحديث عن شرعية وانقلاب بل سيتم التعامل مع جميع الأطراف بوصفهم متسببين بشكل مباشر في أكبر أزمة إنسانية تشهدها القارة الأفريقية.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أهمية أن يعي السودانيون سريعا مخاطر إخضاع ملف المساعدات الإنسانية للمزايدات والحسابات السياسية والعسكرية، وعليهم إدارك أن مسار “منبر جدة” الذي شدد على توفير الحماية للمدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي ومعاهدات حقوق الإنسان، وعدم إقحام المدنيين في الصراعات المسلحة هو الخيار الأفضل اليوم لتلافي أزمة انهيار وشيكة.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

الأورومتوسطي .. إسرائيل مستمرة في فرض المجاعة وتدفع المدنيين إلى فوضى مذلّة

#سواليف

حمّل المرصد #الأورومتوسطي لحقوق الإنسان سلطات #الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن تفاقم #الكارثة الإنسانية في قطاع #غزة، إذ عمدت إلى هندسة وتنفيذ جريمة تجويع منهجية على مدار نحو 600 يوم من الإبادة الجماعية، وأغلقت المعابر بشكل كامل طيلة 88 يومًا، مانعة دخول المساعدات الأساسية، قبل أن تدفع اليوم بالمدنيين إلى فوضى مهينة عند نقاط توزيع خاضعة لإشرافها، في مشهد يجسّد استخدام المعونة كسلاح للإذلال والإخضاع والتدمير، ويكشف الانهيار المتعمّد لأي إمكانية للوصول إلى الغذاء.

وأوضح المرصد الأورومتوسطي أنّ فريقه الميداني تابع تفاصيل آلية توزيع المساعدات التي أشرفت عليها شركة أميركية أنشأتها إسرائيل، تحت حراسة مشتركة من قوات أمنية أميركية خاصة وقوات إسرائيلية، وهي آلية اتسمت بالإذلال الكامل وانعدام الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية، سواء من حيث موقع التوزيع أو أسلوبه، إذ جرى إجبار آلاف المدنيين المجوعين على السير مشيًا لعشرات الكيلومترات نحو منطقة أمنية خطيرة تحاصرها قوات الجيش الإسرائيلي، ليُرغموا بعدها على الدخول في ممرات مسيّجة تحت الحراسة المشددة، في مجموعات، لاستلام طرود غذائية محدودة، دون أي نظام واضح أو آلية تضمن الكرامة أو العدالة في التوزيع.

وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ قوات الاحتلال تعمّدت إذلال المدنيين عبر احتجازهم بين الأسلاك الشائكة، في حين فشلت الشركة التي تدير العملية في توفير الحد الأدنى من الظروف الملائمة لاستيعاب عشرات آلاف الأشخاص الذين توافدوا إلى المكان على أمل الحصول على ما يسد رمقهم بعد أكثر من شهرين من الحصار الكامل، لافتًا إلى أن الآلاف اضطروا إلى السير كيلومترات طويلة نحو نقطة توزيع وحيدة، صُممت بشكل مهين، حيث أُجبروا على دخول ممرات ضيقة مسيّجة، والخروج من ممر مماثل بعد استلام طرد غذائي محدود، في مشهد يتنافى تمامًا مع كرامة الإنسان وأبسط المعايير الإنسانية.

مقالات ذات صلة منظمة حقوقية: ما وزع برفح اليوم سرقه الاحتلال من مؤسسة خيرية 2025/05/27

وذكر المرصد الأورومتوسطي أنّ آلاف المواطنين توافدوا نحو نقطة التوزيع، وسط غياب كامل لأي تنظيم، وفشل ذريع من الشركة الأميركية والقوات التي تحرس المكان في إدارة الموقف، ما استدعى تدخل قوات الاحتلال ومروحية تابعة لها أطلقت النار في محيط الجموع، ما أدى إلى وقوع إصابات، بعضها نتيجة التدافع.

ورصد الفريق الميداني حالة من الفوضى العارمة والانهيار التنظيمي الكامل، في ظل غياب أي آلية توزيع عادلة أو محترمة للكرامة الإنسانية، إذ يُحتجز المواطنون في مجموعات داخل ممرات مسيّجة وتحت رقابة أمنية مشددة، وسط اكتظاظ شديد وظروف غير إنسانية. كما أنّ الموقع يفتقر كليًا إلى البنية التحتية التي تستوعب أعداد المحتاجين، ولم تُعتمد أي ضوابط واضحة لتوزيع المساعدات، ما فاقم المعاناة وعمّق الإذلال الجماعي بشكل مقصود.

ونبّه المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعمّدت تعطيل عمل المؤسسات الإنسانية الدولية ذات الخبرة في إدارة العمليات الإغاثية والوصول المنظم والعادل للسكان المدنيين في قطاع غزة، وأسندت بدلًا من ذلك مهمة توزيع المساعدات إلى “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي كيان أميركي أُنشئ في فبراير 2025 بدعم مباشر من إسرائيل والولايات المتحدة وتديره شركات أمنية أميركية خاصة، في خطوة واجهت رفضًا واسعًا من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية التي اعتبرتها نموذجًا يُقوّض المبادئ الإنسانية، ويحوّل المساعدات إلى أداة للسيطرة السياسية والعسكرية، ويعرّض المدنيين لمخاطر التهجير القسري والمراقبة الأمنية المشددة.

وشدد على أن ما جرى اليوم يعكس الفشل الذريع في إدارة الوضع الإنساني، ويُجسّد استمرار إسرائيل في استخدام الجوع سلاح إبادة جماعية ضد السكان المدنيين، بما في ذلك من خلال فرض سياسات تجويع منهجية تهدف إلى إذلال المجتمع الفلسطيني وإخضاعه بالكامل.

وأعاد المرصد الأورومتوسطي التذكير بموقفه الذي خلُص إلى أن الآلية الإسرائيلية الجديدة لإدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة تُشكّل انتهاكًا واضحًا لقواعد القانون الدولي، وقد صُمّمت في جوهرها كواجهة إنسانية زائفة لإدارة جريمة التجويع، في محاولة مكشوفة لتضليل الرأي العام العالمي الذي بدأ يلتفت أخيرًا إلى الواقع الإنساني الكارثي في غزة، بينما تواصل إسرائيل تدمير السكان الفلسطينيين وتهجيرهم قسرًا من أجزاء واسعة من القطاع، وترسيخ سيطرتها العسكرية عليه.

وأشار إلى أن ما حدث اليوم يؤكّد مجددًا ما حذر منه المرصد الأورومتوسطي سابقًا، بأن الآلية الإسرائيلية صُمّمت بوضوح كأداة للسيطرة القهرية على السكان المدنيين، من خلال تقديم طرد مساعدات واحد فقط أسبوعيًا لكل عائلة، وبشروط أمنية تقييدية، في انتهاك صريح لمبدأ عدم التمييز ومعيار الكفاية والاستمرارية في تقديم المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن هذه الآلية لا تفي بأي من متطلبات الإغاثة المحايدة والفعّالة، بل تُستخدم وسيلة لإخضاع المجتمع الفلسطيني عبر التحكم المنهجي في مقومات بقائه الأساسية.

وبيّن أن الطرود الغذائية التي يتم توزيعها ضمن الآلية الإسرائيلية لا تلبّي الحد الأدنى من الاحتياجات التغذوية، إذ تحتوي على مواد محدودة وغير متوازنة تفتقر إلى العناصر الأساسية اللازمة لبقاء الإنسان، ولا تشمل أي احتياجات مخصصة للأطفال من حليب أو أغذية علاجية، ما يجعلها أقرب إلى أدوات دعائية منها إلى مساعدات إنسانية فعلية، مؤكدا أن تصميم هذه الطرود يعكس بوضوح غياب النية الحقيقية لتأمين الأمن الغذائي، بل تكريس حالة الجوع والعوز ضمن الحد الأدنى ودون تمكينهم من الصمود أو التعافي.

وأضاف أنّ هذه الآلية وُضعت لدفع سكان محافظة شمالي غزة ومحافظة غزة – اللتين تضمان قرابة نصف عدد سكان القطاع – إلى النزوح القسري نحو مناطق الوسط والجنوب، حيث تتركز نقاط التوزيع، إلى جانب إخضاع جميع أرباب الأسر لفحص أمني دقيق، بما يعرّضهم لخطر الإخفاء القسري أو الاعتقال التعسفي، لا سيما في ظل تمركز قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب نقاط التوزيع وعلى امتداد الطرق المؤدية إليها.

وأكد المرصد الأورومتوسطي أنّ هذا التوزيع المحدود لا يعبّر عن أي استجابة إنسانية، بل يُمثّل سياسة متعمدة لإدارة الجوع دون إنهائه، عبر التحكم المنهجي في تدفق الغذاء المحدود لإبقاء السكان في حالة عوز دائم، واستغلال حاجتهم للغذاء كوسيلة للضغط والسيطرة والتهجير القسري.

وشدّد المرصد الأورومتوسطي على أنّ الحكومة الإسرائيلية، التي تستخدم التجويع أداة مركزية لتنفيذ الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة بهدف القضاء عليهم كجماعة، لا يمكن أن تكون طرفًا في العملية الإنسانية بأي شكل من الأشكال، إذ إنّ إشراكها في تنظيم المساعدات أو الإشراف على إيصالها يُفضي حتميًا إلى تحويلها إلى وسيلة للسيطرة على مصير السكان، وفرض خيارات قسرية تمهّد لطردهم من أرضهم، في إطار مشروع استعماري يسعى إلى محو وجودهم وضم أراضيهم بالقوة.

وقال المرصد الأورومتوسطي إنّ امتناع وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية المستقلة عن التعاون مع الآلية الإسرائيلية، نظرًا لافتقارها لأدنى المعايير الإنسانية، يجب أن يشكّل إنذارًا واضحًا ودافعًا جديًا لجميع الدول لتصعيد الضغوط على إسرائيل، من أجل ضمان تدفق فوري وغير مشروط للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ووقف العمل بأي آليات تُستخدم كأدوات قمع وتهجير، والمضي فورًا نحو إنهاء جريمة الإبادة الجماعية المستمرة بحق سكان القطاع منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ودعا المرصد الأورومتوسطي جميع الدول إلى العمل فورًا على استعادة الوصول الإنساني ورفع الحصار الإسرائيلي غير القانوني عن قطاع غزة، باعتباره السبيل الوحيد الكفيل بوقف التدهور الإنساني المتسارع وضمان دخول المساعدات الإنسانية والبضائع، في ظل الخطر الوشيك بحدوث مجاعة، وضمان إنشاء ممرات إنسانية آمنة بإشراف الأمم المتحدة لضمان وصول الغذاء والدواء والوقود إلى جميع مناطق القطاع، مع نشر مراقبين دوليين مستقلين للتحقق من الامتثال.

وطالب المرصد الأورومتوسطي المجتمع الدولي بفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية على إسرائيل بسبب انتهاكها المنهجي والخطير للقانون الدولي، بما يشمل حظر شامل لتصدير الأسلحة إليها أو قطع الغيار أو البرمجيات أو المنتجات ذات الاستخدام المزدوج، أو شرائها منها، ووقف كافة أشكال الدعم والتعاون السياسي والمالي والعسكري والاستخباراتي والأمني المقدمة لإسرائيل فورًا، بما في ذلك تجميد الأصول المالية للمسؤولين السياسيين والعسكريين المتورطين في الجرائم ضد الفلسطينيين، وفرض حظر على سفرهم، وتعليق عمل شركات الصناعات العسكرية والأمنية الإسرائيلية في الأسواق الدولية، وتجميد أصولها في المصارف الدولية، إضافة إلى تعليق الامتيازات التجارية والجمركية والاتفاقيات الثنائية التي تمنح إسرائيل مزايا اقتصادية تُسهِم في تمكينها من مواصلة ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني.

مقالات مشابهة

  • تحذيرات من استفحال المجاعة بغزة ورفض متزايد لآلية المساعدات الجديدة
  • تفاقم المجاعة في غزة بسبب إغلاق المعابر ومنع المساعدات.. تفاصيل
  • غزة على شفا المجاعة .. اقتحام مستودع أممي واستشهاد مدنيين وسط فوضى توزيع الغذاء
  • المجاعة والطعام في خدمة حرب الإبادة
  • العنف الجنسي في السودان.. خطر دائم على المواطنين في ظل الحرب
  • الخارجية تشدد على ضرورة فتح المعابر ووقف تفشي المجاعة في قطاع غزة
  • هكذا يحاول الاحتلال تشتيت الانتباه عن المجاعة في غزة
  • الأورومتوسطي .. إسرائيل مستمرة في فرض المجاعة وتدفع المدنيين إلى فوضى مذلّة
  • الأمم المتحدة تدعو إلى فتح جميع معابر قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية
  • الأمم المتحدة تطالب بفتح جميع معابر قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية