هل يمثل الصمت أو الخذلان خطيئة إستراتيجية؟
تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT
اتّسم الموقف العربي من الحرب على غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي قبل أربعة أشهر، بتباين حادّ بين موقف الأنظمة العربية بسبب تفاعل تحالفات إقليمية ودولية أَخَلَّت بفاعلية المنظومة العربية في مجابهة الأزمات والتحديات.
وذلك يعود بالأساس إلى معطيات موضوعية تهم المنطقة في صراع القوى الدولية أو الإقليمية، والتي عملت على تفجير التوترات وتغذية النزاعات البينية، لإحكام الهيمنة والسيطرة على القرار السيادي والاختيارات الكبرى، وهذا ليس جديدًا؛ وإنما يمتد في جغرافيا العرب والمسلمين منذ غروب إشعاع الحضارة في الشرق، وسطوعه في الغرب مع فجر الحداثة والتقدم الذي كانت له مخالب عمل من خلالها على إضعاف الآخرين لحيازة القوة.
هذا عن البعد الموضوعي للانهيار وأفول الدور العربي، أما البعد الذاتي، فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة المنظومة العربية نفسها، وأنماط تشكل السلطة والحكم فيها، فهي قائمة على القهر والغلبة والاستبداد، مما يجعلها تفتقر إلى أدنى درجات التعبير عن الإرادة العامة وتطلّعاتها.
هذا يفسر بشكل ما تباين المواقف والتناقض الحاصل في مواقف واختيارات عدد من الأنظمة والدول العربية والإسلامية مع اختيارات ومواقف شعوبها، بخصوص فلسطين والعدوان على غزة، وما ترتب عنه من أزمة إنسانية مفجعة، إذ يعتبر الجمهور العربي في عمومه؛ فلسطين جزءًا لا تتجزأ عن قضاياه الإستراتيجية، ولا تخضع لحسابات التجار والمصالح الاقتصادية التي تجعل لكل شيء ثمنًا وكسبًا ماديًا من ورائه؛ أي النظر في القضية بميزان الربح والخسارة، بل تمثل لهم من حيث الجوهر قضية مبدأ باعتبارها القضية الأولى للعرب والمسلمين.
وبالمثل يشكل ضياع الوجهة وغياب الرؤية الإستراتيجية والافتقار إلى شرعية الإرادة العامة وغياب المشروع الوطني، مدخلًا لفهم محددات الانشطار في منحيَيه؛ الانشطار الأفقي داخل النظام الرسمي العربي، والانشطار العمودي الذي سيجعل من فلسطين عنصرًا في تعميق الهوّة بين الشعوب ونخبها الحاكمة، وهي القضية التي يمكن أن يشكل فيها الموقف الصريح والضاغط لصالح غزة، مدخلًا للمصالحة والتوافق السياسي والمجتمعي؛ بسبب الرمزية التي تحتلها فلسطين في الوجدان والوعي العربي، لكن هذا لم يحصل.
الجمهور العربي وفلسطين: محدّدات في فهم الموقفتتسم العلاقة بين الشعوب العربية والإسلامية وفلسطين بتفرّد خاص، إذ رغم ما تعرضت له المجتمعات العربية من جرف للوعي وتغذية للانقسامات السياسية والثقافية، أو الحروب والنزاعات العنيفة، لتفكيك النسيج الاجتماعي العربي الإسلامي، وإشاعة الروايات الزائفة بخصوص النكبة وتضييق مجال الصراع في أطواره المختلفة، من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي، ثم أخيرًا إلى غزة بمكوناتها وفصائلها وإسرائيل، نقول على الرغم من ذلك، فإن الوعي والشعور العربي الإسلامي حافظ على مكانة خاصة لفلسطين، وإن لم يظهر ذلك في عدد من الدول؛ بسبب منع التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي. تلك المكانة تحفزها على الدوام ثلاثة منطلقات أو محددات كبرى.
أولًا: من منطلق المحدد الديني والتاريخي، ذلك أن الأقصى في الخيال والتصور الديني الإسلامي، أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي – صلى الله عليه وسلم-، وفلسطين مهد الرسالات وأرض النبوّات، كما أنها من ناحية الوعي التاريخي والحضاري تمثل نقطة ارتكاز في جوانب الصراع التي مرت منها الحضارة الإسلامية مع الغزاة، فالسيطرة على جغرافيا فلسطين تعتبر مؤشر ضعف للمكون الحضاري العربي والإسلامي، كما أن تحررها مثّل انبعاثًا متجددًا من تحت الرماد، وما أشبه اليوم بالأمس، وكأنه مكر التاريخ، يعيد نفسه في تجارب حية للاعتبار والاستبصار.إن المحدد الديني لا يعني الانغلاق والتقوقع كما يتخيل للبعض من تجارب مغايرة، أو إقصاء للمكونات الدينية الأخرى، بل إنه منذ أن فتح المسلمون القدس 15 هـ، 636 بالتاريخ الميلادي، تم تأمين ممتلكات وكنائس أهل إيلياء (القدس)، وضمنَ المسلمون فيها وفي غيرها من البلدان تعددًا فريدًا وحرية دينية وعقدية عزّ نظيرها، والتحم المسيحيون مع المسلمين، جنبًا إلى جنب، وظل الالتحام الاجتماعي والثقافي قائمًا إلى اليوم، مما يجسد صبغة الحرية التي اصطبغ بها النموذج الحضاريّ الإسلامي.
لا يزال هذا الأفق التحرري في فلسطين يستمد أصوله من البعد الديني، الذي يحتاج إلى قراءة مغايرة عما هو سائد بخصوص الديناميكيات التي يخلقها الدين والأثر الذي يخلفه، ذلك أنه إذا كان عنصر إكراه في مجال حضاري معين، فهو عنصر تحرير في حيز آخر، بل إن المأساة التي تشهدها غزة، توحي بانهيار السرديات والرؤى التي نظرت إلى المعطى الديني نظرة أيديولوجية ضيقة مسيّجة بقوالب جاهزة.
ويكفي أن نقول إنه في العالم العربي والإسلامي شكّل على الدوام عنصرًا باعثاً للتنوع والتعددية، ومؤلفًا للشعور الوحدوي، والقضية الفلسطينية من أهم القضايا التي تؤثر من هذا المنحى، وأثره سيكون على المدى البعيد.
ثانيًا: وحدة الشعور والمصير العربي المشترك، ولذلك نالت القضية مكانتها الأولى سياسيًا منذ قرار التقسيم، وثقافيًا في أشكال الإبداع المختلفة التي تعبّر عن رمزية فلسطين في الوجدان العربي بأطيافه المُختلفة.أما تخاذل الموقف الرسمي العربي بخصوص غزة وفلسطين، فإنه يستبطن في واقع الأمر تفريطًا في السيادة والاستقلال، وتعبيرًا عن عجز المنظومة العربية التي حافظت على الشكل والمؤسسات في لقاءات دورية راتبة، في غياب المضمون والروح العربية التي تجسد التطلعات والمصالح الإستراتيجية المشتركة، فهي أشياء اضمحلّت أو تلاشت، وأصبحت في حكم الأمنيات.
أمّا المحدد الثالث، فهو المنحى التحرّري من الاستعمار، وتمثّل فلسطين في هذا السياق آخر ضحايا النزوع الاستعماري، ومن خلال هذا المنحى تتخذ فلسطين بكثافتها الرمزية، فضاء تتلاءم فيه مختلف الإرادات الإنسانية من الشرق والغرب، الشمال والجنوب، لمناصرة شعب يعاني الاضطهاد والاستعمار، ولذلك لا تحتل فلسطين مكانتها الأولى على المستوى العربي والإسلامي وحسب، وإنما هي بمثابة وخز للضمير الإنساني برمته، والحافز له للدعم من أجل إقرار الحرية وتقرير المصير.لكن بالرغم من رمزية القضية في الوجدان العربي والمسلم، والموقع الذي تبوأته سياسيًا في جدول الأعمال العربي والإسلامي الرسمي لعقود طويلة، فإن العدوان الراهن، وعدم قيام العرب والمسلمين بالدور المطلوب، يدفع إلى التساؤل عن أسباب العجز وعدم فاعلية الموقف العربي، ولسنا من نقول العجز وعدم القيام بالدور المطلوب، وإنما استغاثة المكلومين في غزة التي لم تجد آذانًا مُصغية.
الموقف العربي الرسمي من العدوان على غزةيمكن القول ابتداء وبكثير من الأسف، إن الموقف الرسمي العربي – والإسلامي كذلك – في عمومه، شكل حافزًا مباشرًا أو غير مباشر لاستمرار العدوان على غزة، وإبادة أهلها، وبصيغة أخرى، إن وقف العدوان لا يتوقف فقط على ما سيصدر من البيت الأبيض أو مجلس الأمن أو حكومة الحرب في إسرائيل، وإنما في تجاوز الانقسام العربي والخروج من الرؤى الضيقة للأحداث والعناصر الفاعلة فيها، إلى القضية الفلسطينية برمتها وانعكاساتها على الخيارات الإستراتيجية للوجود العربي، مما يحتم اتخاذ خطوات عملية للضغط السياسي على إسرائيل ولجم عدوانها على أهل غزة.
أما ما يتم التصريح به إعلاميًا، فهو يرقى إلى رسائل الود وليس تعبيرًا عن إجراءات مقنعة، أو مواقف يمكن اعتبارها مساندة فعلية للحق الفلسطيني، ذلك أن الخطوات التي يتخذها عدد من الدول العربية والإسلامية في الاتجاه الآخر؛ أي في العلاقة مع إسرائيل من حيث العلاقات الاقتصادية والسياسية، مقابل افتقاد القدرة على مجرد حل مشكلة الأزمة الإنسانية في الغذاء والدواء، وهذا يرجع لعدة أسباب تخص المنظومة العربية:
أولًا: الانشطار/الانقسام الأفقي في البيت العربي، وانزياح عدد من الدول منفردة في خيارات إستراتيجية لا تعبر عن الضمير العربي.
وهذا يعبر عن أزمة عميقة في المنظومة العربية الرسمية، تتمثل في غياب رؤية إستراتيجية تحمي المصالح العربية، وهي مصالح لا يمكن أن تتم على حساب تصفية القضية الفلسطينية، أو المساومة عليها ضمن خيارات مناقضة لرغبة الجمهور العربي والإرادة العامة، وهي رغبة تكمن في المحددات التي ذكرناها سابقًا، والتي تجعل فلسطين على أولوية الاهتمامات، بل إن عدم اتخاذ مواقف صريحة وإجراءات عملية سيزيد من تعميق الهوّة بين الأنظمة وشعوبها، ويغذي تطلعات التغيير الجذري في المستقبل.
ثانيًا: تحول القضية الفلسطينية إلى عبء لدى عدد من النخب والأنظمة العربية، فالقضية الفلسطينية في نظرها مشكلة، لا يهم الطريقة التي ينبغي بها إيجاد حل لها، وهذا يعكس طبيعة النخبة الحاكمة ولفيف من الطبقة السياسية وولاءاتها ومصادر قوتها واستمراريتها، فهي ليست كامنة في قيم ومبادئ العصر السياسية؛ أي في احترام الإرادة الشعبية ضمن مشروع وطني يحقق السيادة والاستقلال في القرار، كما أن التقدم ليس انبعاثًا من داخل الذات الثقافية والدينية والحضارية مع مد للجسور مع روح العصر.
فمصادر القوة والولاء والاستمرارية في الحكم مستمدة من الوكيل والراعي الأكبر للنظام الدولي، ومسارات التقدم تقتضي تنويرًا زائفًا يعمل على تفكيك المقدرات الثقافية والقيمية التي تشكل حصنًا من حصون المناعة، ودافعًا للفعل التحرري بنوازع أخلاقية تنظر إلى فلسطين كجزء من الذات الحضارية العربية والإسلامية.
هذا الوعي يشكل في منظور الطبقة السياسية الحاكمة تحديًا خطيرًا يفكك الأنساق السياسية وارتباطاتها المناهضة لإرادة الأمة ومصالحها الحقيقية، أي أنه باعث لتحرر مزدوج داخلي وخارجي، ومن ثم تعد إزالة العبء الفلسطيني بمثابة تسوية كاملة تخدم الأهداف والرغبات المتحكمة في نوازع تلك الأنساق والأنظمة، لكن هذا في واقع الأمر يعكس حالة من العمى الإستراتيجي وعدم الوعي بالتاريخ والسنن الاجتماعية، سيؤدي في واقع الأمر إلى نقيضه.
ثالثًا: الخصومة الأيديولوجية والسياسية مع مكونات البيت الفلسطيني، مما دفع إلى حالة من الصمت المريب أو التعبير إعلاميًا وسياسيًا بمواقف وتقديرات قد تضرّ بغزة وفلسطين وتخدم الأجندات الأخرى، بل وبصيغة مباشرة تمثل ضوءًا أخضر لعملية الاستئصال المزمعة التي تحقق رغبات كامنة لدى لفيف من طبقة الحكم هنا وهناك.
وهذا يحمل خللًا من وجهتين، الوجهة الأولى: عدم التمييز بين الخلاف الأيديولوجي الذي لا إشكال فيه والمصالح الإستراتيجية للدول والمنطقة التي تتعالى عن ضيق قفص الأيديولوجيا والحسابات الضيقة، ثم من جانب آخر، يعد الإضرار بأركان البيت الفلسطيني وتدمير غزة كاملة وإعادة احتلالها وإنهاء المكونات الفلسطينية الفاعلة كما يعبر مجلس الحرب، إضرارًا بالأمن القومي والمصالح الإستراتيجية المصرية والخليجية معًا، بل والعربية والإسلامية كاملة، وهو ما يستدعي مراجعة للموقف والضغط والمساندة الفعلية للحق الفلسطيني.
على سبيل الختم: يشكل الموقف العربي الرسمي في صيغته الراهنة، انسلاخًا عن التاريخ وتعبيرًا عن خلل أو خطيئة إستراتيجية ستكون كلفتها مرتفعة في الأمد المنظور، كما أنه منفصل كلية عن الوجدان العربي الإسلامي والموقف الشعبي، وهو بذلك لا يقدر رمزية القضية وحجم الكارثة التي حلت بغزة وستحل بفلسطين، وهي بالتبع ستحلّ بباقي الأنظمة والدول في المنطقة، ذلك أن فلسطين تمثل مهمازًا للضمير والوعي العربي الإسلامي، لقدسيتها ومكانتها وتعبيرها عن حالة نقاء وطهر تلهم التحرر الإنساني برمته، وتعري المنظومة الدولية في جوانبها الأخلاقية والسياسية والحقوقية، بفعل تواطئِها مع آخر الظواهر الاستعمارية.
لذلك فإنّ مراجعة الموقف العربي في سبيل تحقيق ضغط فعلي لوقف العدوان ومنع الأزمة الإنسانية والمجاعة التي تفتك بأهل غزة في زمن البذخ والترف والاستهلاك، يعد واجب الوقت من جوانب متعددة، أخلاقية وسياسية وإستراتيجية ودينية، وإلا فإن ما يجري بغزة له ارتدادات كبيرة عربيًا وإسلاميًا وإنسانيًا من ناحيتي الوعي والفعل معًا، وعربيًا ستكون آثاره مباشرة على المنظومة القائمة، كما أنه يسجل الخروج الفعلي للعرب من التاريخ، وبدون مواربة، تمثل بعض أشكال الصمت والخذلان خطيئة إستراتيجية. فهل من معتبر؟!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات العربیة والإسلامیة القضیة الفلسطینیة العربی والإسلامی المنظومة العربیة العربی الإسلامی الموقف العربی على غزة کما أن ذلک أن عدد من
إقرأ أيضاً:
الحرب المفروضة على إيران.. نقلة إستراتيجية في مواجهة إسرائيل
استفاق الإيرانيون صباح 13 يونيو/حزيران 2025 على صدمة غير مسبوقة في تاريخ بلادهم الحديث: إسرائيل تشن هجوما عسكريا مباشرا على الأراضي الإيرانية، وتنجح في اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين.
لم يكن الهجوم خاطفا فحسب، بل امتد إلى عمليات تخريب داخلية، ومحاولات تأليب الشارع الإيراني على النظام. ومع ذلك، فإن إيران -التي لم تخض حربا شاملة منذ انتهاء حربها مع العراق عام 1988- لم تستسلم للصورة الأولية للضربة، بل تحوّلت سريعا من حالة دفاعية إلى مرحلة جديدة من الردع الإستراتيجي، فرضت فيها قواعد جديدة للمواجهة مع إسرائيل، غيّرت بدورها موازين القوى في المنطقة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام" تبحث الصحافة الاستقصائية والبحث العلميlist 2 of 2من الانقلاب إلى إلغاء الأحزاب.. السياسة في أفريقيا إلى أين؟end of listونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان "كيف أحدثت الحرب المفروضة على إيران نقلة إستراتيجية أمام إسرائيل؟" للباحث حسن أحمديان، حاول فيها الوقوف عند تحديات الحرب، والخيارات التي واجهت طهران، والاحتمالات المستقبلية بعد وضع الحرب أوزارها.
صدمة البداية وتعدد الأبعادالهجوم الإسرائيلي لم يكن عسكريا تقليديا فحسب؛ فإلى جانب الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت منشآت حيوية في إيران، تم تنفيذ عمليات تخريب عبر مسيّرات تم تجميعها محليا، وفتح جبهات داخلية بمساعدة جماعات معارضة مثل "مجاهدي خلق". حاولت تل أبيب إحداث فوضى شاملة داخل إيران على أمل تقويض النظام من الداخل.
لكن ما لم تحسبه إسرائيل جيدا هو استعادة طهران، وبسرعة لافتة، زمام القيادة والسيطرة. جاء الرد الأولي مساء اليوم نفسه بإطلاق صواريخ دقيقة استهدفت تل أبيب وحيفا، في عملية أطلق عليها "الوعد الصادق 3″. بذلك، خرجت إيران من حالة الصدمة إلى توازن تكتيكي أولي، ثم إلى إعادة تشكيل إستراتيجيتها بالكامل.
فُرضت الحرب على إيران بأبعاد ثلاثة تخللها سوء تقديرات إسرائيلية أسهمت في تدارك إيران الوضع:
البعد العسكري: باستهداف القيادات والمنظومات والأهداف العسكرية ومنظومة القيادة والسيطرة داخل إيران وهو ما استمر دون انقطاع رغم تراجع الإنجازات الإسرائيلية مع مضي الأيام الأولی من الحرب، وانتقال إيران من خانة رد الفعل إلی الفعل. البعد التخريبي: باستخدام سلاح خفيف ومسيّرات استهدفت شخصيات عسكرية ونووية ومضادات جوية، واستمرت في إشغال منظومات الدفاع الجوي في الأيام التالية. واستطاعت طهران تحييد الكثير من تلك القدرات طيلة الأسبوع الأول من الحرب. بعد محاولة إسقاط النظام: کان الأمل في إثارة بلبلة في الشارع الإيراني وتحريكه لمواجهة النظام وضرب التماسك الاجتماعي، إلا أن التماسك الداخلي والالتفاف حول العَلَم بدا واضحا منذ اليوم الأول وازداد مع استمرار الحرب. إعلان من "ضبط النفس" إلى "التناسب الإستراتيجي"على مدى سنوات، اتبعت إيران سياسة "ضبط النفس" في مواجهاتها مع إسرائيل حتى في ظل ضربات موجعة طالت مصالحها وحلفاءها في المنطقة. لكن العدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 2025 أجبر طهران على التخلي عن هذا النهج، والانتقال إلى ما وصفه الخبراء بـ"التناسب الإستراتيجي"، أي الرد بالمثل على الضربات من حيث الأهمية والتأثير الإستراتيجي.
استهدفت الصواريخ الإيرانية في الأيام التالية منشآت حساسة في إسرائيل، بما في ذلك مصفاة حيفا ومواقع استخباراتية تابعة للموساد، إضافة إلى مراكز أبحاث متقدمة مثل معهد وايزمان. وكان هذا التحول يعني أن إيران لم تعد تضع سقفا لتصعيدها، بل تركت لتل أبيب وواشنطن مسؤولية تحديد حجم المواجهة، مع احتفاظ طهران بحق الرد الكامل.
رد أميركي محسوب ورسالة سياسيةفي 22 يونيو/حزيران الماضي، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة بشن ضربة محدودة استهدفت 3 مواقع نووية إيرانية. ورغم التهويل الإعلامي المصاحب للهجوم، فإن ما كُشف عنه لاحقا أن الضربة كانت منسقة مسبقا، وأُبلغت طهران بها، مما أتاح إخلاء المواقع وتقليل الأضرار.
فهمت طهران الرسالة: لا رغبة أميركية في حرب شاملة. وظهر ذلك جليا في ردها، الذي لم يستهدف القواعد الأميركية في المنطقة مباشرة، بل نفّذت هجوما صاروخيا جديدا ضد أهداف إسرائيلية، واستخدمت صاروخ "كاسر خيبر" البعيد المدى لتوجيه ضربة رمزية إلى حيفا.
بهذه المعادلة، أصبح واضحا أن المواجهة محصورة إسرائيليا إيرانيا، وأن واشنطن لن تنجر إلى معركة شاملة رغم دعمها السياسي والعسكري لتل أبيب.
أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن واشنطن لن تحارب عنه، وأنه أمام خيارين:
الاستمرار في ضرب طهران وتلقي ردودها المتناسبة مع ضرباته. التراجع دون تحقيق أهداف حربه وقبول وقف إطلاق نار مع عدوه اللدود.ومساء رد طهران العسكري على واشنطن واتضاح التموضع الأميركي، قررت الحكومة المصغرة لنتنياهو قبول وقف لإطلاق النار. وظهرت الموازنة الجديدة بين إيران وإسرائيل القائمة علی موازنة التهديد.
حديث المكاسب
كانت الصورة السائدة عن إيران في الدول الغربية والمنطقة قبل بدء الحرب الإسرائيلية توحي بضعف إيران وحلفائها. تغيرت تلك الصورة نتيجة 3 تطورات:
أولا: انتقلت طهران من "ضبط النفس" إلی "التناسب الإستراتيجي"، مما ترك رسم حدود المواجهة لإسرائيل والولايات المتحدة. وكانت الضربات الإيرانية تنتقي الأهداف المتناسبة مع تلك التي تستهدفها إسرائيل في إيران. تلك معادلة لم تكن قائمة قبل الحرب وفرض موازنة تهديد أجبرت إسرائيل علی القبول بوقف إطلاق النار دون تحقيق أهدافها المرجوة، وبموقف إستراتيجي أمام إيران أدنی مما كانت عليه قبل بدئها الحرب.
ثانيا: بإظهار إيران القوة والدقة في استهدافاتها للأهداف المنتقاة في إسرائيل، تراجع خطاب وسياسة واشنطن في معاداة طهران ومطالبتها بالاستسلام غير المشروط. وبنأي ترامب الولايات المتحدة عن الحرب بين الجانبين إلا بشكل غير مباشر، اتضح أن علی إسرائيل تحمل أعباء المواجهة بمفردها والأمل بتغيير موازنة التهديد مع إيران أو القبول بوقف إطلاق نار.
إعلانثالثا: ومع تحقيق توازن التهديد ونأي واشنطن بنفسها، بدت طهران أكثر ميلا لجرّ إسرائيل لحرب استنزاف مؤلمة بدت واضحة في ضرباتها الأخيرة علی حيفا وتل أبيب وبئر السبع بصواريخ أقل عددا وأكثر فتكا.
إيرانيا، لم تكن الحرب في هذه المرحلة خيارا لو لم تُجبَر طهران علی خوضها. أتت الحرب علی إيران بالكثير من الأثقال؛ فقد خسرت عددا مهما من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، كما راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين. كما خسرت طهران جزءًا مهما من قدراتها الدفاعية إثر استهدافات إسرائيلية أو عمليات تخريب داخلية.
رغم التكاليف الباهظة التي دفعتها إيران، فإن الحرب جلبت لها مكاسب إستراتيجية مهمة يمكن تلخيصها في التالي:
تعزيز الردع الهجومي: أظهرت طهران دقة وقدرة صاروخية عالية، أجبرت إسرائيل على التراجع، وقبول وقف إطلاق النار بشروط لم تكن في مصلحتها. تحسين الوضع التفاوضي النووي: فشلت الضربات في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، مما يمنح طهران أوراق قوة إضافية على طاولة التفاوض مع القوى الغربية. توحيد الصف الداخلي: ظهر الالتفاف الشعبي حول القيادة بوضوح، مما يمنح النظام دعما سياسيا نادرا أمام أي تسويات مستقبلية. اكتساب خبرة قتالية جديدة: خاضت إيران معركة ذات طابع تكنولوجي معقّد ضد خصم عالي التسليح، مما وفر لها خبرة عسكرية نوعية. الصمود الإستراتيجي: رغم كل الخسائر، لم تنهَر منظومات القوة الأساسية في إيران: الصواريخ، والبرنامج النووي، وشبكة الردع الإقليمية. ما بعد الحرب.. الطريق السياسيالمرحلة القادمة ستكون حاسمة لإيران. فهي مطالبة بترجمة المكاسب العسكرية إلى إنجازات سياسية، سواء في مفاوضات الملف النووي، أو في تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية. بالمقابل، من المرجح أن تحاول إسرائيل عرقلة هذه الخطوات عبر الدبلوماسية، أو من خلال خروقات محتملة لوقف إطلاق النار، مما سيُبقي احتمالات التصعيد قائمة.
في هذا السياق، تبدو إستراتيجية "التناسب الإستراتيجي" التي أرستها طهران باقية كأداة ردع جديدة، تضع حدودا واضحة لأي عدوان عليها، وتُعيد رسم العلاقة مع إسرائيل، ليس فقط في ميدان المعركة، بل على مستوى معادلات الأمن الإقليمي برمته.