الشمال النيلي ومعاني قيم التضامن والإحترام
تاريخ النشر: 2nd, April 2024 GMT
سيدي الطيب صالح روى عن ” مريود ” مشخصا ” الطاهر ود الرواس ” .. فقال :
” إن الأسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمه .
كان ود رحمه يقول :
إن بلال رواس مراكب القدرة ، ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر ، وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر .
يقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعا معه .
كأنه كان بالفعل روحا مفردا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض ”
تلك صورة الطاهر ود الرواس ، في مخيلة الطيب صالح ، ولم تكن في ظني ، إلا معادلا موضوعيا لشخصية إنسان الشمال النيلي .
تلك البيئة الإجتماعية التي شكلت شخصية الطيب صالح ابن منحنى شريط النيل ، الذي أصبح نفسه ” مريود ” الناس في كل مكان .
يقرأونه بلغات العرب والعجم ، سرا وجهرا ، فيكشف في جميع مروياته أن لا سبيل لاتساع أمبراطورية العقل ، إلا بالنظر إلى الآخر المختلف .
واستجلاء المستغلق من بعض أشياء الوجود ، بوقوف ” الأنا ” أمام ” الآخر ” والنظر بدقة متأملة ، فاحصة للآخر الثقافي المختلف ، المغاير بعض الشيء ، أو حتى في أقصى حدود الإختلاف .
حتى تزداد ” الأنا ” ، معرفة جديدة ، بتفسير الأمور الكامنة وراء السطح .
ذلك في تقديري هو أقوى ما يحرض المرء ويستفزه ، للإلتفات إلى ذاته المنهوبة ، والبحث فيها عن سبل تحسين المواقف تجاه الذوات الأخرى والأشياء والأحداث .
إن الإنطلاق في السير على درب تأمل الآخر المختلف إلى أقصى الحدود الكائنة ، هو ما يمنحنا القدرة على التحرك باتجاه تأسيس وتأثيث المواقف الإيجابية الجديدة .
ومذهبنا في ذلك مذهب أحد حكماءنا ، القادمين من ذات الشريط النيلي ، الشاعر الأديب الناقد ” محمد المهدي المجذوب ” الذي يضج إنسانية وفكرا رفيعا ، وحكمة قائلا :
” وقد أجد مسكينا محزونا فأسخر من نفسي أمامه ، مواساة له ، واعتقادي الذي لا أحيد عنه ، أن الناس متساوون .
ليس هناك إنسان أفضل من إنسان إلا بمقدار ما يعطي من صدق نفسه للآخرين ”
بذلك ذهب ” محمد المهدي المجذوب ” إلى تأكيد إعتقادنا الخاص الذي طالما ظللنا نردده في كثير من كتاباتنا ، أن الإنسان يصنع مركزيته بنفسه ، أي من حيث ما يقدمه من نفع للإنسانية وإضافته للوجود الإنساني .
في البحث عن ” المركزية ” لا نحتاج أن نصوب البنادق نحو الآخر المختلف ، ولا أن نحرق الأوطان بنيران الحقد والإشتفاء .
” المركزية ” هي في المعنى المأثور :
” خير الناس أنفعهم للناس ”
كلما أعطيت الآخرين من جمال نفسك ، وسماحة روحك ، كنت أنت ” المركز ” .
” المركز أنا ” بخير يداي ، وزناد عقلي ، فلا أحد يستطيع أن يجعلني هامشا ، ما دمت إعطي وأنير ، وأمد يدي لأعطي ، لا لأسلب ، أرفع المعول لأبني ، لا لأهدم ، أشعل النار لإضاءة طريق السائرين لا للحريق .
وتلك لعمري من أميز خصائص أهل السودان المستوطنين جهة الشمال ، أو ما أصطلح عليه ” الشريط النيلي ” .. فأزعم أن تفردهم وتميزهم يكمن في منهجهم المعتدل مشيا في الحياة ، والنظر إلى الأزمات بعين البصيرة لا الغباء المميت ، والتعامل بأقصى درجات الحكمة مع تعقيدات كوارث الطبيعة ، وتشابكاتها التي أنتجت واقعا حياتيا ضاري القسوة ومعاناة تحيط بالرجال والنساء على حد سواء ، أرضهم هي الصحراء ، بكل معاني الشقاء .
بيد أنهم يتعاظمون إنسانية في مقاومتهم العنيدة لقساوة طبع الأرض التي تحالفت مع ضراوة الطبيعة والأشياء .
بهذا تشكلت شخصياتهم الجسورة ، الصلدة ، وأرواحهم التي جبلت بأنفاس محبة الخير أينما وجدتهم .
وشاعرنا أستاذ المسرح الدكتور عزالدين هلالي – رحمه الله وغفر له – أبن ديار المحس ، بشاعريته ، يمتحنا مشهدا من مشاهد تلك المقاومة العنيدة للظروف وتعقيداتها في غنائيته الرائعة : ” طبع الزمن ” التي تغنى بها ” صلاح بن البادية ” ..
وكأني به يصور ذلك التحدي والجسارة التي تميز بها أهله في الشمال صبرا على الصعاب :
” ﻓﻲ ﻋﻴﻮﻧﺎ ﺑﻨﺸﻴﻞ ﺍﻟﺼﺒﺮ
ﻛﻞ ﺍﻟﻌﻤﺮ
ﺑﻨﺸﻴﻠﻮ ﺭﻳﺪ
ﺑﻨﺸﻴﻠﻮ ﻋﺰ
ﻗﺪﺍﻣﻨﺎ ﺷﻮﻑ ﻛﻢ ﺯﻭﻝ بكى
ﻗﺪﺍﻣﻨﺎ ﺷﻮﻑ ﻛﻢ ﺯﻭﻝ ﺗﻌﺐ .
ﻻ ﻣﺮﺓ ، ﻭﻻ ﻳﻮﻡ ﺍﺷﺘﻜﻲ ،
ﻭﻻ ﻗﺎﻝ ﺧﻼﺹ ﺻﻌﺐ ﺍﻟﺪﺭﺏ
أﻫﻮ ﻧﺤﻨﺎ ﻋﺎﺭﻓﻴﻦ ﺍﻟﺤﺼﻞ
ﻭﺑﺮﺿﻮﺍ ﺑﻨﻘﻮﻝ ﻋﺎﻭﺯﻳﻦ ﻧﺤﺐ ”
تلك هي صورة الصبر والصلادة فعلا ، أمام تعقيدات الحياة وتشبكاتها :
” وبرضوا بنقول عاوزين نحب ” ..
لا نزوع للخصام والتباغض في شرع أبناء البلد المحبين ، بينهم وبين التباذئ والتنابذ حوائط من السماحة والرضا .
صنعوا مركزيتهم الباذخة ، بقيم التضامن والإحترام والتمسك بكريم الأعراف .
ولأن الحوار بين الناس مطلب غريزي ، فقد علا صوت مبدع منحنى النيل ، ساحر الطنبور وملكه الأغر ” النعام آدم ” :
” يا اخي فواضني بلا زعل ،
فاوضني ياخي أنا عندي حل ”
تناقض الرؤى ، وتضاد الأفكار ، وتباين الناس ، ألوانا وأعراقا ومواقفا ، هي آية من آيات الله في خلقه .
بيدا أن المحبة والوئام بين الناس ضرورة ، والمودة هي ما تجعل الحياة قابلة لأن تعاش ، ولن تكون المحبة إلا بالتماس التوازن الروحي ، كما قال الطيب صالح على لسان ود الرواس في روايته بندر شاه ، مريود :
القوة ليست للجسد بل للروح والعزيمة . وكثف ذلك المعنى وبقدر أعظم في روايته عرس الزين .
إذ منح الزين نبضا أسطوريا خاصا مليئا بالأسرار ، الزين بقامته الطويلة وجسمه النحيل كان كأنه صاري المركب يحفظ الإتزان النفسي والروحي ، ويدفع المركب إلى الأمام بالمحبة ، ومشربا صافيا من مشارب الحنان وتأصيل الوفاق والتسامح .
فلا محبة بلا توازن الروح .
القيم الروحية هي المقوم الأساس لكل مجتمعنا السودانية ..
تلك المعاني العظيمة تجدها في إنسان الشمال النيلي ، كيف تعامل مع صعاب الحياة ببساطة سلوك ، وأناقة روح ،
لا مكان عنده للمراثي الشكاءة البكاءة ، والإبتزاز الماكر المذل للذات ، والماحق للحياة .
لم يغرسوا الخناجر في ظهور بعضهم البعض ، ولم يصوبوا البنادق في صدور الآخرين ، ولكنهم غرسوا في الأرض بذور النبات المختلف الألوان والأشكال والذائقة .
برغم ضيق الأرض الخصب ، أمتد خير زروعهم إلى كل جهات السودان .
جعلوا من التعليم هو الهدف الأعلى لبلوغ صلاح المجتمع وازدهاره .
فلا يتقدمهم جاهل ،
ولا يقدمون أمام الأمام إلا من تأهل بالعلم ، وأجاد وبرع وأبدع .
فكل فرد منهم عرف موقع وجوده فلزم .
كل شيء عند أهل شريط النيل بالحساب ، والحساب عندهم حساب المعاني ، لا الأرقام .
الزمن مقتسم ، والرزق مقتسم ، والأرض مقتسم .
وبهذه القسمة يجعلون من ضيق مساحات شريط النيل أوسع .
إن صناعة الكراهية هي ما تضيق مساحات أرض البلاد .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الطیب صالح
إقرأ أيضاً:
تلغراف: هل ستصمد الهدنة بين الهند وباكستان؟
نشرت صحيفة تلغراف البريطانية تقريرا تساءلت فيه عن إمكانية صمود وقف إطلاق النار بين باكستان والهند الذي تم إعلانه أمس، رغم الانتهاكات من الجانبين التي اتهم كل منهما الآخر بارتكابها.
وأشار التقرير، الذي أعده الصحفي بن فارمر مراسل الصحيفة لشؤون الدفاع، إلى إعلان البلدين عن وقف لإطلاق النار بعد 4 أيام من التصعيد العسكري الذي شمل ضربات جوية وهجمات بطائرات مسيّرة وقصفا متبادلا عبر خط السيطرة في إقليم كشمير المتنازع عليه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2شوارع أبيدجان تغير أسماءها في قطيعة جديدة مع الاستعمار الفرنسيlist 2 of 2هل انتهى عصر القوة الأميركية الناعمة؟end of listوقال إن الشكوك قائمة حول مدى صمود وقف إطلاق النار في ظل استمرار السبب الجذري للصراع، خاصة قضية كشمير و"الإرهاب"، رغم الترحيب الدولي الواسع بهذا الاتفاق.
رغبة حقيقية
وأورد الكاتب أن بعض التقارير استمرت في الإشارة إلى وقوع انفجارات وانقطاع مفاجئ للكهرباء في سريناغار وجامو داخل كشمير الخاضعة للهند، رغم إعلان الهدنة، كما وردت أنباء عن تحليق طائرة مسيرة فوق مدينة بيشاور الباكستانية، مما أدى إلى تفعيل أنظمة الدفاع الجوي.
وأوضح التقرير أن الخطاب الرسمي من الجانبين بشأن وقف إطلاق النار أشار بوضوح إلى وجود رغبة حقيقية في التهدئة، حيث وصف كل طرف تحركاته بأنها "استجابة مناسبة" لتصرفات الآخر، مضيفا أن كل جانب أكد استعداده لعدم التصعيد شريطة التزام الطرف الآخر بذلك.
إعلان ضغوط دوليةوقال إنه يُعتقد أن الضغوط الدولية، وخاصة من الولايات المتحدة، ساهمت في تهيئة الأجواء للوصول إلى هذا التفاهم المؤقت، مشيرا إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أشاد بما وصفه بـ "الحكمة والبصيرة" لدى الطرفين، كما رحب وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بالخطوة، واصفا إياها بأنها محل ترحيب كبير.
ونسب بن فارمر إلى محللين قولهم إن هذه الهدنة تمثل إشارة واضحة إلى رغبة الطرفين في تجنب الانزلاق إلى مواجهة شاملة، خاصة في ظل المخاطر الكبيرة والتكاليف التي قد تترتب على استمرار المواجهة، إلا أن التوترات المزمنة، وعلى رأسها ملف كشمير والاتهامات المتبادلة بدعم "الإرهاب"، تظل بمثابة قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت.
هشاشة الهدنة
وقال إن مصادر هندية حذرت من أن أي هجوم "إرهابي" جديد سيتم اعتباره "عملا عدائيا" يرقى إلى "إعلان حرب"، مما يدل على هشاشة الهدنة.
واستمر يقول إنه، ومع تصاعد النزعة القومية في الهند، فإن الحكومة ستواجه ضغوطا داخلية هائلة للرد بقوة في حال وقوع أي هجوم مماثل.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن استمرار التهدئة مرهون بإرادة سياسية حقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع، لا سيما قضية كشمير التي تشكل جوهر الخلاف منذ عقود.
وختم المراسل تقريره بالقول: "ما لم يتم التوصل إلى حلول دائمة، فإن فرص انهيار الهدنة تظل قائمة في أي لحظة".