يؤكّد القانون الأساسي الألماني الصّادر سنة 1949، في المادة الخامسة منه، على أنّ "لكل شخص الحق في التعبير عن آرائه ونشرها بالقول والكتابة والصورة، كما له الحقّ في الحصول على المعلومات من مصادر متاحة للجميع. حرية الصحافة وحرية نقل التقارير عن طريق البثّ الإذاعيّ والأفلام مصانة، ولا ينبغي أن تكون هناك رقابة أو حظر".
لم تجرِ الأمور في ألمانيا على هذا النّحو الذي تخيّله القانون الأساسي قطّ. ذلك ما جعل ألمانيا تنال المرتبة 22، على نفس المستوى مع ناميبيا، في مؤشّر حرية الصحافة العالمية الصّادر في مايو/أيار 2023. وفقًا للتّصنيف نفسه، الذي يصدرُه "مراسلون بلا قيود"، فقد جاءت ألمانيا متأخرة عن أغلب دول شرق أوروبا.
على مرّ الأيام نجحت الإدارة الألمانية في إعادة هندسة فضاء التعبير، بل اختطافه، من خلال القانون الجنائي الألمانيّ German Criminal Code. حرية التعبير التي أطلقها القانون الأساسي "الدستور"، وضُعت في قبضة مواد القانون، كمثل المادة 130 التي تحظر أشكال التعبير التي "تحرّض على الكراهية ضد مجموعة قوميّة أو عرقية، أو محددة حسب أصلها العرقي، أو ضد قطاعات من السكان، بسبب انتمائهم إلى إحدى المجموعات".
تمكّن القانون الجنائي، من خلال انفتاحه على التأويلات والتكهنات، من وضع حرية التعبير تحت السيطرة. السلطات الألمانية، المثقلة بالماضي والمحاصرة بالدستور، وجدت في حوزتها هراوة سحرية، اسمُها "القانون الجنائي"، ولم تكفّ، قطّ، عن استخدامها أو التلويح بها.
حين يتعلق الأمر بحدود حرية التعبير، فإن العظة والعبرة تؤخذان في العادة من قصة جيرمار رودولف، وهو كيميائي ألماني تدرب في معهد "ماكس بلانك" في شتوغارت. نشر رودولف موادَّ علمية تشكك في استخدام النازية للغاز، على وجه الخصوص سيكلون- بي، كأداة قتل في معسكرات الاعتقال.
نال، سنة 1995، حكمًا بالسجن لمدة عامين ونصف العام، غير أنه تمكّن من الفرار إلى أميركا. عثرت عليه السلطات الأميركية، سنة 2005 بعد عشرة أعوام من التخفّي، فأعادته إلى بلاده، لتأخذه الأخيرة إلى جزائه.
التشكيك بالسردية اليهودية للماضي يعد، وفقًا لتأويلات القانون الجنائي الألماني في مادته "130"، تحريضًا على الكراهية ضد جماعة عرقية. يستجيب القانون، هنا، لتقديرات الجماعة البشرية نفسها حول المسألة، وما إذا كانت ترى فيما يُنشر، خطرًا ما على وجودها، أو إهانة لشخصيتها الاعتبارية.
المثقفون الجواسيسلا تتسامح ألمانيا مع المظاهر المتعاطفة مع فلسطين، وتبدي صرامة حاسمة تجاه الاحتفالات بيوم النكبة في مايو/أيار من كل عام. التبريرات التي تقدمها السلطات تستند إلى القانون الجنائي، لا إلى الدستور. تعيد القول؛ إنّها مخوّلة بمنع كل ما من شأنه أن يحرّض على الكراهية. لا تشغل حرية التعبير، المصانة دستوريًا، السلطات الألمانيةَ، فلم تتدرّب على ذلك السلوك، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
على مرّ الأيام نجحت الإدارة الألمانية في إعادة هندسة فضاء التعبير، بل اختطافه، من خلال القانون الجنائي الألمانيّ، فأصبحت حرية التعبير، التي أطلقها القانون الأساسي "الدستور"، في قبضة مواد القانون
على الضفة الشرقية من البلاد، شكّل السوفيات جهاز الـ"ستازي"، وهو منظومة رقابة شاملة حوّلت كل مواطن إلى مُخبِر. صار المثقفون جزءًا من منظومة الدولة، حدّ أنهم عملوا مخبرين ضد زملائهم، وجواسيس ضد مؤسساتهم، كما تبين وثائق جهاز الـ"ستازي" التي باتت متاحة بعد الوحدة الألمانية.
الضّفة الغربية من البلاد، أو ألمانيا الأميركية، لم تكن بأفضل حال من شقيقتها السوفياتية، حين يتعلق الأمر بحرية التعبير. فقد بادر الجيش الأميركي إلى إنشاء وحدة التحكم بالمعلومات Information Control Division. وُضعت الوحدة تحت قيادة الجنرال روبيرت ماكلور، وكان متمرسًا في فنّ الحروب النفسية. الرسالة التي كتبها ماكلور، صيف 1946، إلى صديقه تشارلز جاكسون- وكان أيضًا مستشاره في فنون الحرب النفسية- تقدم صورة مروّعة عن المشهد الثقافي الألماني آنذاك. قال ماكلور:"نسيطر الآن على 37 صحيفة، 6 محطات إذاعية، 314 مسرحًا، 642 فيلمًا، 101 مجلة، 237 دار نشر للكتب، 7384 من المطابع، ومنافذ بيع الكتب. كما نجري نحو 15 استطلاعًا للرأي العام شهريًا، نصدر ثلاث مجلات، وصحيفة، نوزّع منها مليونًا ونصف المليون نسخة، وندير 20 مكتبة مركزيّة. إنه عمل هائل".
عملَ الأميركيون على إخضاع الفضاء العام الألماني للرؤية الأميركية، حالوا دون بروز أي صوت ناقد لـ "الاحتلال" الأميركي، كما حددوا خارطة للتعبير بما يتناسب مع رؤية أميركا للشكل الذي يُراد لألمانيا أن تكونه.
مضت الأمور على ذلك النحو حتى انهيار جدار برلين. ثم حدثت الوحدة الألمانية بين جهازين: "وحدة التحكم بالمعلومات، ونظام ستازي". إرث ثقيل للغاية، ولا يزال الكثير من موظفي تلك الحقبة يعملون في مؤسسات الدولة التي لم تجد طريقها حتى الآن.
قبل الحرب، قام النازيون بحصر "المواد الضارة"، وهي الكتب التي تختلف مع رؤيتهم للتاريخ والعالم، سواء أكانت أعمالًا في المعرفة أم في التخييل. شملت قائمة المواد الضارة مؤلفات لمبدعين يهود، شيوعيين، ومثقفين ألمان، رفضوا السير في ركاب النازية. أُحرقت آلاف العناوين في مشاهد مهيبة. الشيء نفسه فعلته أميركا بعد الحرب، فقد جمعت وحدة التحكم بالمعلومات ما يزيد عن 30 ألفَ عنوان، من "المواد الضارة"، أُحرق الكثير منها في مشاهد احتفالية مشابهة، كما أرسلت موادَّ كثيرةً كتابية وفنية إلى أميركا.
المواد الضارّة، اللازمة القديمة التي تحاصر حرية التعبير، تستدعيها السلطات الألمانية المعاصرة، حين يتعلق الأمر بالموقف من المسألة الفلسطينية. كل نقد يوجه إلى إسرائيل يوضع في خانة المواد الضارة التي ينبغي لقانون الجنايات أن يتصدى لها. تقدِم ألمانيا الحديثة على أفعالها ببسالة، ولا تتحرّج من رؤيتها وهي تبطش بمتظاهرين في وضح النهار.
تعريف معاداة السامية.. لزوم ما لا يلزمفي العام 2016، تبنّت رومانيا وألمانيا تعريفًا لمعاداة السامية وضعته منظمة IHRA، أو الاتحاد الدولي لتذكّر الهولوكوست. وجد التعريف طريقه إلى الاتحاد الأوروبي من خلال الدولتين، ثم صار تعريفًا أوروبيًا "غير ملزم".
الحقيقة أن كلمة "غير ملزم" التي ترد عند الإشارة إلى التعريف لا تقول الحقيقة. ففي العام 2019، هدَّد وزير التعليم العالي البريطاني جامعات بلاده باتخاذ إجراءات عقابية فيما لو انتهى العام قبل إدراج التعريف ضمن بنية النظام التعليمي والبحثي للجامعات.
يمتدُّ التعريف في نسخته الختامية على 46 صفحة تشمل الثقافة والأكاديميا والآداب. يمكن لأمور في منتهى التفاهة، أو في منتهى الجدية، أن تصير إلى معاداة صريحة للسامية، كمثل القول؛ إن اليهود يملكون المال، ويؤثرون على الأسواق. أشار التعريف في ديباجته إلى أن النقد الموجَّه ضد دولة إسرائيل لا يعد معاداة للسامية، إن كان يشبه ما يقال تجاه الدول الأخرى.
حين يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن ألمانيا تخرج عن السكّة كعادتها، بل وتناقض جوهر دستورها. وهكذا فقد أجرت تعديلًا على التعريف لتنجز نسختها الخاصة الأكثر راديكالية. إذ أضافت مادة تقول: بما أن الدولة الإسرائيلية هي المشروع اليهودي الأكبر، فإن المساس بها أو إهانتها أو التحريض عليها يدخل ضمن معاداة السامية.
احتشدت ألمانيا الرسمية للدفاع عن إسرائيل، وباتت تخوض نزالًا انتحاريًا مع كل العالم، وهذا ليس من قبيل المبالغة. ما من دولة في العالم، عدا ألمانيا، تعتبر وجود إسرائيل مبررًا لوجودها Staatsräson.
حين يتعلق الأمر بإسرائيل، تخرج ألمانيا عن السكّة كعادتها، وتناقض جوهر دستورها. وهكذا فقد أجرت تعديلًا على تعريف معاداة السامية لتنجز نسختها الخاصة الأكثر راديكالية، فأضافت مادة تقول: بما أن الدولة الإسرائيلية هي المشروع اليهودي الأكبر، فإن المساس بها أو إهانتها أو التحريض عليها يدخل ضمن معاداة السامية
مطلع هذا الشهر، ألغت جامعة كولن الدعوة التي سبق أن وجهتها إلى نانسي فريزر، الفيلسوفة الأميركية المرموقة. كان مقرّرًا أن تُمنح فريزر أستاذية "ألبرتوس ماغنوس"، وهي درجة شرفية تمنحها الجامعة كل عام لشخصية دولية معروفة في مجال الفلسفة والعلوم. انزلق الحقل الأكاديمي الألماني إلى وضعية منظومة استخباراتية تعمل في خدمة سردية النظام الحاكم. عرفت جامعة كولن أن الضيفة الكبيرة سبق لها أن وقعت على عريضة تحمل عنوان: "الفلسفة من أجل فلسطين"، وهو نداء رفيع أطلق في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وصف ما يجري في غزة بالإبادة البشرية قيد التنفيذ Unfolding Genocide. حظي البيان ذاك بتوقيع 407 شخصيات ناشطة في مجال الفلسفة من القارتين الأميركيتين وأوروبا. لم تحُل يهودية البروفيسورة نانسي فريزر دون اتهامها، ألمانيًا، بمعاداة السامية، و"التشكيك بحق إسرائيل في الوجود".
كل بضعة أيام تخوض ألمانيا منفردةً معركة ثقافية جديدة، ومن الملاحظ أنها رغم خسارتها كل تلك المعارك، فإنها ماضية فيما تفعله. أثار موقف جامعة كولن من فريزر استياء أكاديميًا داخل ألمانيا، عبّر عنه 22 عالمًا في حقل الفلسفة من خلال بيان وصفوا فيه ما جرى بـ "محاولة أخرى" لتقييد النقاش العام حول إسرائيل.
إن استخدام جملة "محاولة أخرى" من قبل ذلك اللفيف المرموق من الأكاديميين، يشير إلى مدى الاستياء والتبرّم الذي وصلت إليه النخب الألمانية أمام ما يجري في بلادها.
ألمانيا وفلسطينتعملُ الإداراتُ الألمانيةُ المتعاقبة على الحد من ظواهر التعبير المتعلقة بالمسألة الفلسطينية، غير أنّ الإدارة الراهنة تخطت كل سابقاتها، ووضعت سمعة البلاد، كدولة ليبرالية – يمجد دستورها حرية التعبير – على المحكّ.
فما حدث لمعرض الفن الحديث المسمى Documenta مثال آخر يعكس الضرر الذي حل بقطاع الثقافة الألماني؛ بسبب إصرار النظام على فرض رؤيته للصراع في الشرق الأوسط، على كل قطاعات بلاده. يعتبر دوكيومنتا معرض الفن "الأكثر أناقة في كل العالم وربما إلى الأبد"، حسَب وصف "نيويورك تايمز" المعرض في سبتمبر/كانون الأول 2022. دوكيومنتا هو فعل ثقافي دولي رفيع يجري مرّة كل خمس سنوات في مدينة كاسل، ومن المتوقع أن تقام دورته السادسة عشرة في العام 2027.
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين بلغ القمع الألماني لكل ظواهر التعاطف مع فلسطين ذِروته، استقالت اللجنة التحضيرية لدورة المؤتمر القادم. بدأ الأمر بفضيحة من النوع السيئ. تسهم الأنظمة السيئة في خلق بيئة ثقافية تماثلها، وهكذا فقد اكتشفت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أنَّ الشاعر والناقد الهندي رانجيت هوسكوت، عضو اللجنة التحضيرية، معادٍ للسامية.
تعود القصة إلى صيف 2019 حين وقَّع هوسكوت، مع مثقفين آخرين ضمن "المنتدى الثقافي الهندي"، عريضة احتجاج ضد حدث ثقافي أقامته القنصلية الإسرائيلية في مومباي تحت عنوان: "فكرة الأمة لدى القادة". في الحدث ذاك قام المشاركون بمدّ جسور اتصال بين هرتزل، مؤسس الصهيونية، وسافاركار، الأب المؤسس لـ"هيندوتفا"، الحركة الهندوسية الراديكالية. كان سافاركار – كما حاجج هوسكوت في حديثه إلى وسائل الإعلام – معجبًا بهتلر، وطالما رأى في سياسته مع الأقليات نموذجًا يصلح للحياة في الهند.
على وقع هجوم ألماني متعدد المستويات، قّدّم هوسكوت استقالته من لجنة دوكيومنتا. على إثره قدم سائر أعضاء اللجنة استقالاتهم، وكانوا من الدول التالية: البرازيل، إسرائيل، فرنسا، النمسا، والصين. تضرب الآلة الألمانية يمنة ويسرة دون تدبّر، منزلة العقاب بكل ما يغضب إسرائيل، حتى وإن كان على سبيل الكشف عن الطبيعة النازية لشخص مثل سافاركار.
ورِثَ الأميركيون من النازيين لعبة "المواد الضارة"، وهي اللعبة التي تعلمتها المؤسسات الألمانية تحت إشراف الجنرال ماكلور – توفي العام 1957- وخلفائه. ما أقره القانون الأساسي لسنة 1949م، صادرته تأويلات القانون الجنائي. في أغسطس/آب الماضي، نشرت مجلة "جاكوبين" – يسارية أميركية تصدر من نيويورك- تقريرًا مطولًا حمل عنوان: "تؤمن ألمانيا بحرية التعبير ولكن ليس للفلسطينيين".
في ذكرى النكبة، مايو/أيار من العام الماضي، رفضت السلطات الألمانية، كعادتها، السماح بأي تجمع فلسطيني. على سبيل الاحتجاج وقفت مجموعة من الشبان بالقرب من ميدان هيرمان بلاتس- برلين، لالتقاط صورة جماعية رافعين قبضاتهم عاليًا. لم يكونوا يحملون أي لافتات. انضم إليهم عدد من المارّين، فاندفع البوليس، وكان كامنًا بالقرب يبحث عن أي مظهر فلسطيني، واعتقل 170 شخصًا.
بعض المعتقلين كانوا من المارّة. تحدث بعض المعتقلين إلى "جاكوبين" عن تجربتهم مع القضاء الذي أحيلوا إليه. وفقًا لروايتهم فقد دفع كل منهم غرامة قدرها 400 يورو، ولم يكن القضاة مستعدين للاستماع إلى مرافعتهم أو أخذ دفاعهم على محمل الجد. بالنسبة للقضاء فإن الجنحة ثابتة، وما من داعٍ للمزيد من النقاش.
هذه ورطة ألمانية صعبة، أن ترعى السلطات تفسيرًا للقانون الجنائي يأتي على المكاسب التي دوّنها الدستور، ثم تختطف كل مؤسسات البلاد لصالحها. أمام هذه الظاهرة الفجّة – التي وضعت دعاوى العالم الليبرالي عن نفسه على المحك – تداعى مثقفون وفنانون على ضفتَي الأطلسي؛ لبناء وثيقة عملية، تحت عنوان: "قاطعوا ألمانيا ثقافيًا". تجاوز عدد الموقّعين على المشروع ألفًا وخمسمائة، بينهم روائيون حصلوا على جائزة نوبل.
يمكن مشاهدة النزال الثقافي مع الإدارة الألمانية على منصات مهرجان برلين السينمائي، ومهرجان برلين الغنائي CTM، حيث شهد المهرجانان مقاطعات واحتجاجات.
وجدت ألمانيا نفسها مكبّلة تدافع عن مواقفها بلازمة لُغوية فارغة من المعنى. يتشكّل انطباعٌ متزايد لدى المثقّفين خارج ألمانيا، بأنها لم تعد البلد الذي يتّسع لحُرية التعبير، وأنّ "بلاد الشعراء والفلاسفة"، باتت عاجزة عن وضع الأمور في نصابها وتدبُّر ماضيها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات السلطات الألمانیة القانون الجنائی القانون الأساسی معاداة السامیة المواد الضارة حریة التعبیر فی العام تعریف ا من خلال ة التی
إقرأ أيضاً:
حرية الاختيار: بين بناء الذات ومواجهة الضرورة
مقدمة:
هل كان السبب في وجودنا على الأرض وخروج أبوانا من جنة عدن هو اختيار آدم وزوجه أن يأكلا من التفاحة؟ فقُضي عليهما أن يهبطا إلى الأرض، في مشهد يذكّر بسقوط الملائكة في فيلم City of Angels، حين قرر الملاك، الذي لعب دوره نيكولاس كيج، أن يتخلى عن نورانيته ليهبط إلى عالم البشر، يتألم ويحب، ويلاحق الموجات بفرحة طفل. تلك اللحظة لم تكن سقوطًا فقط، بل كانت بداية وعي جديد، وشرارة لتجربة إنسانية كاملة، مبنية على التردد، والشغف، والخسارة، والرغبة في المعنى. يعيش الإنسان منذ ذلك الحين جدلية مستمرة: هل هو مسيّر لا يملك من أمره شيئًا، أم أنه يملك حقّ الاختيار بين النور والظلام، بين طريق الهدى وطريق التيه؟ وهل ما يفعله هو حرية حقيقية أم مجرد تحقق لما كُتب عليه في علم الله.
رغم هذا التوتر بين الجبر والاختيار، فإن التجربة الإنسانية تقوم على لحظة حرّة، مهما كانت محدودة، لحظة يُقرّر فيها الإنسان من يكون. ولهذا كان “الاختيار” جوهر الكينونة الإنسانية، لأنه يعكس وعي الإنسان بمسؤوليته الأخلاقية، وكرامته ككائن قادر على قول “لا” في وجه الغريزة أو القطيع أو حتى القدر. ليس الاختيار مجرد حرية ساذجة، بل هو تعبير عن الشجاعة والهوية والتجربة. بين قابيل الذي اختار أن يرتكب الجريمة الأولى، وعيسى عليه السلام الذي اختار أن يواجه الصليب، تمتد المسافة التي تعرّف فيها الإنسانية ذاتها. وفي هذه المسافة تتشكل القيم، ويولد المعنى، ويُكتب التاريخ البشري.
المحور الأول: الاختيار كفعل داخلي يعيد تعريف العناية بالذات
ألم يلفتك مشهد الأستوديو الصباحي لأحد البرامج الجماهيرية؟ حيث تُنتقى ألوان الجدران، وملابس المذيعة، وأحمر الشفاه، وفنجان قهوتها. هل لاحظت كيف تُضخَّم انفعالاتها لتمنحك جرعة من المشاعر الإيجابية، تقنعك أن تؤجل همومك أو تقارن حياتك بتلك الصورة المصقولة، فيتسلل الإحباط إليك قبل أن يبدأ يومك؟ هون عليك، فإن لنفسك عليك حق الرعاية، كما تعتني بطفلك. ولا تسمح لسمّية البعض أن تتسرّب إليك.
مقالات ذات صلة زيارة ترمب للخليج ..”أنفاسها” لم تصل غزة.. 2025/05/18في مقالها “هذا هو المعنى الحقيقي للعناية بالذات”، تؤكد بريانا ويست أن التحديات التي نواجهها ليست عراقيل خارجية، بل جبالًا في داخلنا تنتظر أن تتسلقها. وتنتقد التصور السطحي للعناية بالذات، الذي يحصرها في الحمّامات الدافئة والحلويات، بينما هي في حقيقتها ليست هروبًا من الألم، بل مواجهته بشجاعة.
العناية بالذات تكمن في اتخاذ قرارات صعبة: سداد الديون، إنهاء العلاقات السامة، بناء روتين صحي، والاعتراف بالخيبات لتصحيح المسار. إنها ليست رفاهية، بل ممارسة ناضجة تشبه “تربية النفس” وبناء بيئة نفسية متزنة على المدى البعيد.
ويست تطرح تساؤلات حول كيف حوّل النظام الرأسمالي العناية بالذات إلى سلعة تُشترى وتُباع، وتدعو لبناء حياة لا نحتاج أن نهرب منها، بل نعيشها بوعي، حتى وإن لم تكن مثالية. أن تكون بطل حياتك لا ضحيتها هو اختيار يتكرر كل صباح: أن تواجه لا أن تتهرب، أن تصدق لا أن تنكر، أن تبني لا أن تُستنزف.
المحور الثاني: الاختيار في مواجهة الواقع والغموض
قد تبدو الحياة هادئة، بلا اضطراب على السطح، والسفينة تسير بسلام قرب الشاطئ، فلا تفكر في الإبحار نحو العمق، حيث الموج العالي والظلمة والأعاصير. كثيرون تأسرهم العادة ويقيّدهم المألوف، فيغفلون عن التساؤل عمّا يختبئ خلف التلة، مقنعين أنفسهم بأنها “قسمة ونصيب”.
لكن الإسلام لا يختزل الإنسان في الاستسلام، بل يمنحه حرية الاختيار ضمن علم الله الشامل: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف: 29)، ويذكّره بأن مشيئته لا تنفصل عن مشيئة الله: “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله” (الإنسان: 30). والمجهول، في نظر الإيمان، ليس تهديدًا بل امتحانًا للصبر والتوكل: “وبشر الصابرين…” (البقرة: 155–156).
رغم تباين المرجعيات، يتفق كثير منها على مسؤولية الإنسان تجاه الغموض. ترى باما تشودرون، الراهبة البوذية، أننا نملك خيارًا: أن نعاني لأننا لا نحتمل ما هو كائن، أو أن نتصالح مع انفتاح الحالة الإنسانية، بما تحمله من عدم ثبات. لكن هذا التصالح لا يحدث دفعة واحدة، بل عبر التزام يومي: الامتناع عن الإيذاء، اعتبار الألم فرصة للتعلّم، والانفتاح على الواقع بلا قتال أو شروط.
بهذا، لا ننجو فقط من القلق، بل نتعلم أن نحيا في قلبه برفق وجرأة، كما لو أننا نقف وسط العاصفة، بلا ساتر، لكن أيضًا بلا خوف.
أما سارتر، فيؤكد في محاضرته “الوجودية نزعة إنسانية” أن الإنسان “محكوم عليه بالحرية”، مسؤول عن اختياراته حتى حين يغيب الدليل.
وهكذا، بين التوكل والتساؤل، بين وحي سماوي وتأمل روحي ونقد فلسفي، يبقى الإنسان فاعلًا في مواجهة الغموض، لا متلقيًا سلبيًا، ولكل رؤية مفهومها الخاص للحرية: تكليف إلهي، أو يقظة روحية، أو عبء وجودي.
المحور الثالث: الصراع بين الإرادة والقدر
يتجلى هذا الصراع حين تصطدم الإرادة الفردية بضرورات قاسية لا ترحم. الحرب كثيرًا ما تنتهي بخسارة شاملة تبتلع الجميع، ويقف الإنسان متسائلًا: لماذا يُسحق الحلم تحت وقع الحديد والنار؟
في حرب طروادة، تحوّل الشغف والانتقام إلى وقود لحصار دموي دام عقدًا، وبرغم نصر اليونانيين، لم يربح أحد سوى الخراب. صوّر هوميروس في الإلياذة هذه الحقيقة المؤلمة: حين يُسحق الإنسان، يُسحق جسدًا وروحًا وأخلاقًا.
في القرن العشرين، كتبت سيمون فايل “الإلياذة أو قصيدة القوة”، حذّرت فيها من أن القوة، متى استُدعيت، تفتك بالجميع وتطمس المعنى الأخلاقي. القوة لا تقتل فحسب، بل تغيّر طبيعة الإنسان وتجرّده من ملامحه.
وأحيانًا يبدو ما نعدّه خيارًا حرًا مجرد خطوة قدرية، تعيد الضرورة تشكيل الأولويات. كأن تجهّز أندروماكي الحمّام لزوجها هكتور، بينما هو ممدد قتيلًا خارج الأسوار، بإرادة الآلهة وذراع أخيل. مشهد يكشف هشاشة الإرادة أمام قدرٍ لا يعرف العدالة.
ها هي ألمانيا النازية تجتاح فرنسا. فيليب بيتان، بطل الحرب الأولى، يعلن الاستسلام، سعيًا لحماية ما تبقى. مقامرًا بإرثه، لكنه وُصم بالخيانة. في المقابل، أعلن ديغول التمرد من لندن، مؤسسًا حكومته المؤقتة. وبين استسلام وتمرد، بدت المصائر وكأنها تُساق دون مشورة من أصحابها.
أما سيمون فايل، فانضمت لحكومة ديغول، وماتت شابة بعدما امتنعت عن الطعام تضامنًا مع الجياع.
وفي معسكر نازي، احتمى فيكتور فرانكل بعقله، يؤلف كتابه في ذاكرته: البحث عن معنى. ففي صمت الجائع، وفي اختيار صغير يرفض النسيان، تتشابك الإرادة مع القدر.
المحور الرابع: الاختيار كتحرر سياسي وأخلاقي
في عالم تتكاثر فيه الأصوات المطالِبة بالقيادة، يذكّرنا هنري ميللر بأن لا أحد، مهما بلغ من الحكمة أو الكاريزما، يستحق أن يُسلَّم له مصير الإنسان. القيادة الحقيقية ليست في فرض التبعية، بل في إيقاظ الإيمان الداخلي، وتحفيز الآخرين على استعادة ثقتهم بقدرتهم على توجيه حياتهم.
فعل الاختيار ليس مجرد قرار عابر، بل هو تعبير أخلاقي عن الذات، لحظة ينهض فيها الإنسان من تحت ركام التلقين والخوف، ليقول: أنا المسؤول عن حياتي. يقول سبينوزا إن وظيفة الحُكم ليست تقييد الحرية بل صيانتها، وإن الإنسان لا يكون مواطنًا صالحًا إلا حين يشعر بأنه حرٌّ ومسؤول في آن.
لكن، هل الاختيار دائمًا طريق مفتوح؟ أم أن هناك لافتات تحذيرية تقول: “احذر، هنا منزلق خطر”؟ في “مفهومان للحرية”، يوضح إيزايا برلين أن الحرية السلبية تعني غياب العوائق الخارجية، أما الإيجابية فهي قدرة الإنسان على تحقيق ذاته. وقد تؤدي المبالغة في تأكيد الحرية الإيجابية إلى تسويغ تدخلات باسم “مصلحة الفرد”، تُفضي إلى قمعه من حيث لا يدري.
في هذا السياق، يصبح الوعي بالاختيار هو المعيار: متى يكون حقيقيًا؟ ومتى يكون مفروضًا باسم الخلاص؟ إن الدفاع عن الحق في الاختيار لا يعني رفض التوجيه، بل رفض أن يُختزل الإنسان إلى تابع لا صوت له.
الاختيار ليس رفاهية، بل مقاومة يومية ضد التشييء، ومساحة يُستعاد فيها كيان الفرد. ومن يَختر، يَخلق.
المحور الخامس: العلاقات والاختيار الحر
نمر في حياتنا بكثير من الصداقات، منذ الطفولة حتى الكبر. لعبنا وضحكنا وتقاسمنا المغامرات، فبدت الصداقة آنذاك وجهًا من وجوه الفرح. لكن مع الوقت، نكتشف أن الأصدقاء الحقيقيين ليسوا من يشاركوننا الضحك فقط، بل من يختارون البقاء حين تشتد الظروف. كما يُقال: “الصديق هو من يقف معك تحت المطر، مع أنه يستطيع البقاء جافًا” — وفاء لا تمليه مصلحة، بل ينبع من حرية القلب.
يرتبط هذا بما يُعرف في علم النفس العاطفي بـ”نظرية الاختيار الحر في الالتزام”، التي ترى أن الالتزام لا يكون صادقًا إلا إذا انطلق من قرار واعٍ، لا من ضغط أو خوف. حين يختار الفرد البقاء رغم التعب والتحدي، يتولد شعور بالمسؤولية والانتماء، ويشعر بدعم يخفف القلق ويعزز جودة الحياة.
وهذا لا يقتصر على الحب الرومانسي، بل يشمل كل علاقة تنمو بالرعاية والنية الصافية.
تؤكد بيل هوكس في “كل شيء عن الحب” أن الحب ليس مجرد شعور، بل فعلٌ حر يتطلب التزامًا ووعيًا. وترى أن حب الذات شرط أساسي لحب الآخرين: فمن لا يُنصت لحاجاته بصدق، لن يُصغي بصدق لمن يحبهم.
هكذا، يصبح الحب والوفاء مواقف نابعة من الحرية الداخلية، لا من الواجب. وتتحول العلاقات إلى فضاءات للعدل والنمو والدفء. وكما في السياسة والدين، كذلك في الحب: لا تزهر العلاقة إلا حين تُروى بحرية، لا بسلطة العادة أو الخوف.
خاتمة:
تُعدّ حرية الاختيار أساسًا جوهريًا للفضيلة، إذ لا يمكن للفضيلة أن تُفهم أو تُمارس بمعزل عن القدرة على اتخاذ قرارات واعية. فاختياراتنا في الأفكار والمشاعر والمواقف تُجسّد هويتنا، وتشكل ملامحنا الأخلاقية ومسار حياتنا.
بهذه الحرية نصبح فاعلين في صياغة ذواتنا، وتغدو الفضيلة تعبيرًا صادقًا عن إرادة واعية، لا مجرد استجابة للعرف أو الخوف. ففي نهاية المطاف، لا يكمن جوهر الفضيلة في المعرفة أو النية وحدهما، بل في الشجاعة اليومية لاختيار الخير، رغم الإغراءات والضباب.
الفضيلة ليست نورًا يُمنح، بل شعلة يشعلها كل إنسان في قلبه، كلما قرر أن يكون إنسانًا، حتى وسط العتمة.