لا أدرى هل هذه التسمية صحيحة من الناحية العلمية أم لا لكنى أستطيع أن أصف الحالة النفسية التى تصيبنى بعد انتهاء شهر رمضان المعظم بأنها متلازمة اكتئاب ما بعد رمضان.
تعود جذور هذه الحالة إلى مرحلتى الطفولة ثم الصباعندما تتحول كل مظاهر الفرحة بقدوم رمضان وحتى قبل قدومه بأيام طويلة مع الأغانى الشهيرة المحفورة فى وجداننا لعبدالمطلب وعبدالعزيز محمود وثلاثى النغم وغيرهم إلى حالة من الحزن الشديد ليس فقط عند انتهائه بل حتى قبيل نهايته بأيام عندما تبدأ إذاعة اغنية شريفة فاضل والله لسه بدرى يا شهر الصيام.
انتقلت هذه الحالة معى منذ تلك الأيام البعيدة إلى مرحلتى الشباب والشيخوخة. كنا ونحن صغار نتابع بفرحة شديدة بدء بناء أفران الكنافة فى شوارعنا والتجهيزات التى تسبقها ونشارك فيها ونسهر حتى الصباح ونحن نشاهدها تكبر أمام أعيننا بعد أن تكون الشوارع اكتست بزينة رمضان وأنواره التى تملأ قلوبنا بالفرحة والسعادة. ونظل طيلة ليالى الشهر الكريم نلعب حول الفرن ونساعد بين الحين والآخر فى تلقيمها حتى تظل مشتعلة بينما الشباب الأكبر منا سنًا كانوا يقومون برش الكنافة بأنفسهم. كنا نلعب حتى موعد السحور ثم نذهب لنصلى الفجر فى المسجد ونعود لنستسلم لنوم عميق يمتد فى كثير من الأحيان لما قبل المغرب بلحظات. كانت متعة بلا مسئولية. فإذا أعلنت دار الإفتاء يوم 29 رمضان أنه المتمم لشهر رمضان بما يعنى أن تلك الليلة هى آخر ليالى الفرحة والسهر والسعادة تمتد الأيادى لتهدم فرن الكنافة بينما كانت الهدم فى الحقيقة يمتد إلى تلك القلوب البريئة التى وجدت فى الفرن ضالتها المنشودة التى تسمح لها بالسهر بدون حساب ولا تعليمات من الآباء والأمهات بالعودة للبيت مبكرًا.
لم تفلح فرحة استقبال العيد فى يوم ما رغم الملابس الجديدة والعيدية المنتظرة فى أن تنزع من قلبى ذلك الحزن الذى ينتابنى لمفارقة أيام رمضان ولياليه وكانت صلاة العيد رغم التجمع الكبير وملاقاة الأهل والأصدقاء فى مداواة الجرح النازف على انتهاء ليالى الرحمة والمودة والحب والتسامح الذى يغمر القلوب. كان اصعب جملة اسمعها من امى إذا أردت السهر فى الشارع بعد رمضان لوقت متأخر هى جملة: لا ياحبيبى رمضان خلص خلاص مينفعش تسهر بره زى ما كنت بتسهر فى رمضان. فى تلك اللحظة أفيق على الحقيقة المرة فمنذ تلك اللحظة لم يعد مسموحا بزيارة عمتى فى أى وقت بينما كان ذلك مسموحا به فى رمضان ولم يعد مسموحا بلعب الكرة فى الشارع ولا الإستغماية حتى قبيل الفجر فالسهر واللعب خارج المنزل عاد ليكون عيبًا ولا يصح وهو الذى كان منذ أيام مباحًا دون أى تحفظ أو قيود.
وعندما كبرت انتقلت معى تلك الأحاسيس فطيلة الشهر الكريم وقلبى مطمئن هادئ لا يعكر صفوه شيء لا قلق على رزق ولا خوف من مستقبل ولا حزن يخترق القلب الفرح السعيد ولا مردة وشياطين يفسدون عليه متعته بايام رمضان ولياليه حتى شيطان النفس يخجل ويتوارى فى الشهر الكريم. لكن ما أن ينتهى رمضان إلا ويعود القلق والترقب والخوف والحزن كيف لا والأيام الجميلة ولت كيف لا ولا أضمن أن أشهد رمضان قادم أم لا فكثير ممن كانوا معنا فى العام الماضى هم الآن تحت التراب. فاللهم لا تجعله رمضان الماضى آخر عهدنا بأيام شهرك الفضيل ولياليه واكتب لنا أن نشهده مرات عديدة وأزمنة مديدة ولا تحرمنا فرحته وسعادته والعتق من نيرانك ولا تقبضنا إلا وانت راض عنا ،آمين.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: هشام مبارك طلة الحالة النفسية رمضان الحزن الشديد
إقرأ أيضاً:
د.حماد عبدالله يكتب: السيرة الحسنة الباقية !!
تعددت المناسبات التى أحضر فيها عزاءات لأعزاء فقدناهم وتركوا لنا عبىء العيش وحدنا دونهم فى هذه الحياة، نتذكر بالخير ونتذكر مواقف كثيرة لهم، وندعوا لهم بالرحمة والمغفرة.
شخصيات عظيمة تغيب عنا واحدًا تلو الأخر وهذه سنة الحياة "فهم السابقون ونحن اللاحقون" !
لقد تأملت المشهد المهيب الذى صاحب جنازة المرحوم الأستاذ (محمود السعدنى) الكاتب الصحفى الكبير(رحمه الله رحمة واسعة ) !!
وتأملت المعزين من كل أطياف المجتمع مسئولين حاليين ومسئولين سابقين ونخب من المجتمع من شتى مجالات الحياة المهنية فى مصر.
ولعل ما شدنى فى هذا الأمر أن كثير مما سمعت عن الرجل غير ما تيسر لى من كتب كتبها، كلام طيب وسيرة حسنة وزمالة لأجيال من الكتاب والإعلاميون يذكروا عنه طيب الحديث وروعة المواقف فى أشد الأوقات صعوبة مر بها الوطن وكان الأستاذ "محمود السعدنى" إما مشاركًا فى الأحداث كفاعل أو مفعول به طبقًا لموقفه من السلطة فى البلاد.
وأتذكر حينما قابلت المرحوم فى مكتب الوالد الراحل "وجيه أباظة" وكنت مقربًا من المرحوم "وجيك بك"، بعد أن خرج من السجن عام 1975 وجاء فى زيارة إلى إيطاليا حيث كان المرحوم "توفيق أباظة" إبن عم "وجيه بك" وزيرًا مفوضًا للسفارة المصرية فى روما وكانت تربطنى به صداقة عميقة وجاء "بعم وجيه" إلى البلدة التى أقيم فيها وهى (فيوماشينو) وبقى فيها معى "عم وجيه" لأكثر من أسبوع وتعلقنا ببعض حتى عودتى إلى القاهرة ودعوته لى بالقيام بأعمال شركة التنمية والتجارة (بيجو) وإقتربت من الرجل كأحد أبنائه (حسين وممدوح وشاكر وعزيز) إلى أن توفاه الله (رحمة الله عليه رحمة واسعة).
قابلت عند عم وجيه الأستاذ /"محمود السعدنى" عام 1979 وكان يتزاور "لعم وجيه" مجموعة من نخب المجتمع، أذكر الشيخ "متولى الشعراوى" وبعض قيادات مجلس الثورة وكذلك إعلاميين كبار مثل المرحوم "جلال معوض"، والمرحوم "محمود السعدنى" وغيرهم وكان إستمتاعى بهذه النخبة من زوار "عم وجيه" لا تضاهيها متعة.
ولقد أثرونى من المناقشات التى كانت تدور بينهم وكنت فى هذه المرحلة شابًا لايزيد عمرى عن خمس وثلاثون عامًا، فكنت فى أغلب الأوقات بل أعظمها (صامتًا) أستمع وأتعلم وأنصت بكل جوارحى للتجارب العظيمة التى وهبنى الله الفرصة لكى أتعايش بالقرب منها فى حجرة واحدة أو كراسى متقاربة لكى أستمع وأتكلم، كان المرحوم محمود السعدنى – شيىء رائع من البشر وشيىء خيالى من التجارب الرائعة التى خاضها ولم يبقى منه إلا السيرة الحسنة وكذلك هؤلاء العظماء الذين رحلوا عن عالمنا وتركوا لنا ذخيرة من المثل ومن السير الطيبة !! رحمهم الله جميعًا رحمة واسعة !!
أ.د/حمــاد عبد الله حمـــاد
Hammad [email protected]