شعبان ناجى يكتب: عثرات «الحكيم» و«أنيس» ومصطفى محمود.. فى الأرشيف السرى لغالى شكرى
تاريخ النشر: 2nd, August 2023 GMT
غالى شكرى (1935- 1998م) واحد من أهم النقاد والمثقفين المصريين الذين برزوا فى النصف الثانى من القرن العشرين، فهو عضو فاعل فى حركة الثقافة المعاصرة الداعية إلى إحياء مشروع النهضة، ورغم ذلك لم يأخذ حقه من الانتشار وذيوع الصيت بالشكل اللائق به وبمكانته العلمية والثقافية، ذلك لأنه كان صوتًا معارضًا يحمل فى الوقت عينه موضوعية ونزاهة فكرية متحررة، قلما وجدناها بين أبناء جيله من الأدباء والمفكرين، لذا كان إبعاده القسرى والمتعمد من قبل المؤسسات والتجمعات الثقافية المختلفة، فضلا عن رفضه الواضح من قبل مؤسسة الرئاسة فى ذلك الوقت.
أخبار متعلقة
زي النهارده.. وفاة الكاتب أنيس منصور في 21 أكتوبر 2011
حرم أنيس منصور!
شعبان ناجى
لكنّ غالى شكرى لم يداهن ولم يهادن، ولم يتراجع، وإنما راح- على الدرب- يواصل ضرباته بقوة وسكينة، وذلك من خلال كتبه الكثيرة المثيرة والمستفزة والمشجعة على الالتحام مع أفكارها وأطروحاتها المتشابكة الشائكة، فنحن عندما نتابع بعضًا من كتبه مثل «النهضة والسقوط» و«تكفير العقل وعقل التفكير» و«الماركسية والأدب» و«مذكرات ثقافة تحتضر»، و«العلمانية الملعونة»، وغيرها.. سوف ندرك على الفور مدى اهتمامه الطاغى بالمشروع التنويرى، وحرصه الكامل على أن يأخذ مساره حتى وإن أغضب ذلك السلطة القائمة (وكثيرا ما غضبت عليه السلطة القائمة) أو أغضب أقرب المقربين إليه (وكثيرا ما غضب عليه المقربون أيضا)، ولكن رغم هذا كله، ظل الجميع يحترمونه، ويقدرون فكره ونواياه، ويتابعون- فى شغف- كل ما يكتبه، ويقرأونه بحب وإعجاب شديدين.
غلاف الكتاب
وكتابه الذى طاب لنا أن نلتحم معه فى هذه المساحة، والذى يحمل عنوان «من الأرشيف السرى للثقافة المصرية»، الصادر فى طبعته الأولى عام 1974م، ثم أعيد فى طبعات جديدة عن مكتبة الأسرة فى الأعوام القريبة الماضية، يؤكد على النهج الثابت الذى ينتهجه شكرى فى مواجهة ما يراه ضارا بالعقل الثقافى بصفة خاصة، وبالعقل الجمعى المصرى والعربى بصفة عامة، لذا نراه يهرول نحو هذا الضرر فى محاولة منه لأن يجتثه من جذوره أحيانا، أو- على أقل تقدير- فضح سياساته الخبيثة الخسيسة، وفضح من يسعى فى تمريرها وترويجها، وهذا ما طالعناه بالفعل فى هذا الكتاب الصغير الخطير.
ونحن نجد غالى شكرى على سجيته تمامًا وهو يسرد وقائع الفساد فى أوساطنا الثقافية وعلاقتها بالأوساط السياسية، كما نجده يخرج ما فى الأرشيف من دون تدخل منه على الإطلاق، ولكننا فى حقيقة الأمر لم نره يخرج كل ما فى الأرشيف، أو ربما شعرنا نحن بهذا الشعور، فعنوان كتابه يدل على ذلك، فقد قال لنا «من الأرشيف».. ولم يقل «الأرشيف»، وهو ما يشير إلى أن ثمة وقائع كثيرة فاحصة فاضحة لم يتح لغالى شكرى أن يخرجها إلى جموع القراء والمثقفين، ربما لظروف خاصة به هو أو لظروف أخرى قاهرة لا نعلم عنها شيئا. ولكننا نرى أن ما قدمه شكرى فى هذا الكتاب يكفى تمامًا، فهو الذى جرؤ على السؤال كما جرؤ سقراط، وهو الذى ضرب الجرس المربوط فى رقبة الأسد كما فعل جاليلى، وما علينا نحن إلا أن نكمل الطريق التى فتحها أمامنا واسعة معبدة، وأن نخمن المعنى الذى كان من المفترض أن يوضع فوق النقاط الخالية، ونحن نعترف أن ما ذكره غالى من وقائع خراب الوسط الثقافى لهو نقطة فى محيط الفساد العميق، كما نعترف فى الوقت نفسه أن الفساد فى مؤسساتنا الثقافية لا يزال حاضرا بعنف، وأن المثقفين الفاسدين لا يزالون قابضين على مقاليد الأمور داخل هذه المؤسسات التى تحتضر الآن.
وقد تعمد غالى شكرى أن تبدأ الوقائع من عند نقطة النهاية، أى فى العام 1972م، لأن هذه السنة أو حقبة السبعينيات عمومًا هى التى انتهى عندها الكتاب، فقد بدأ بكاتبنا الكبير توفيق الحكيم وانتهى به. وما بين البداية والنهاية طفحت على السطح أحداث ووقائع وفضائح متشابكة ليس لها بداية وليس لها نهاية، لكن لها عقدة ولها ذروة. وربما تكون البدايات والنهايات افتراضية فى مجملها العام، لكنّ كتاب غالى بدأ بداية افتراضية تقول إن فتاة مصرية صغيرة مغمورة تدعى «سناء حسن» تعيش فى إسرائيل قدمت إلى مصر لتحضير رسالة دكتوراه عن الثقافة المصرية. ومن الطبيعى جدا أن تتوجه إلى المثقفين الموجودين بالمؤسسات الثقافية والصحفية، لهذا فقد كانت على تواصل مع توفيق الحكيم، ويرجح أن ثمة تعارفا كان بينهما وكان هذا ظاهرا من التوصيات التى كان يلقيها الحكيم على غالى شكرى إزاء هذه الفتاة الصغيرة الحلوة المجهولة.
وبعد حديث طويل دار بين شكرى وهذه الشابة تأكد لدى شكرى أنها تدعو المثقفين إلى أن يدعموا الصلح مع الكيان الإسرائيلى، على اعتبار أنه الحل الأمثل فى هذه المرحلة المضطربة. لكن بعد أيام انكشفت المصيدة وانفضحت الأسماك التى تحاول أن تدفن رأسها فى الطين، فقد فوجئ المثقفون بمقال منشور لسناء حسن، مشفوع بصورتها على صفحة كاملة بالنيويورك تايمز، تتكلم فيه عن حتمية الصلح مع دولة إسرائيل الصديقة. وكان توفيق الحكيم ورفيق دربه حسين فوزى (صاحب السندباديات)، ومعهما ربما صالح جودت، من أشد المتحمسين لهذا الصلح، والداعين إليه والساعين له.
وربما أيضا كان إحسان عبد القدوس من المثقفين الذين استقبلوا سناء حسن فى أواخر عام 1973م، ومن المؤكد- وكما يشير شكرى- أن هناك تطابقًا بين مقالات إحسان التى نشرها فى أهرام الجمعة عام 1974م وبين معظم الأفكار التى وردت فى بيان «المقاومة من أجل الاعتراف بدولة إسرائيل».
لكنّ شخصية توفيق الحكيم كان بجوارها شخصية أدبية مناقضة لها تمامًا، وهى شخصية الشاعر صالح جودت، فالحكيم كان يؤيد سياسات جمال عبد الناصر، ورغم ذلك فقد كتب كتابا بعد موته يهاجمه فيه هجومًا ضاريًا، بينما كان صالح جودت يكره عبد الناصر ويرفض نظامه الحاكم، ورغم ذلك ألف أيضا كتابًا وسجله بصوته يعدد فيه بطولات ناصر، وقد حصل بمقتضاه على مبلغ 12 ألف جنيه، وبحسب وصف غالى فهو كتاب توثيقى لا أكثر، يستطيع أى فرد يمشى فى الشارع أن يكتبه، وقد صدر هذا الكتاب عن شركة كويتية لها توجهات مريبة، وكانت تتعاون معها الفنانة مديحة يسرى، التى كانت تمارس مثل هذه المشاريع التجارية بعد وفاة زوجها الفنان العبقرى محمد فوزى.
بعد ذلك عرّج بنا شكرى إلى المدرسة الصحفية التى أنشأها الشقيقان: على أمين ومصطفى أمين، والتى كان يطلق عليها «دار أخبار اليوم الأمريكية»، وذلك لأن الأخوين أمين كانا يستخدمان دارهما الصحفية فى كتابة التقارير السياسية ورفعها للحكومة الأمريكية، وكانا يغطيان على هذا النشاط المشبوه باختراعات كثيرة، كان من بينها ما يسمى «ليلة القدر» يوزعان فيها «الفتات» على فرد واحد تصيبه نفحة من نفحات هذه الليلة المباركة. ولكن عندما فاحت الرائحة هربا بالخارج فترة ليست بالقليلة، ثم عادا وكأن شيئا لم يحدث قط، كما أنهما- بعد ذلك- زيفا كتابا لسلامة موسى عن حرفة الصحافة كان قد قدمه للنشر فى سلسلة كتاب اليوم، لكن لم يسعفه القدر لكى يرى كتابه الشهيد ومات، بعدها صدر الكتاب ليفاجئ الناس بأن الكتاب مكتوب فى مدح على ومصطفى أمين، وهو التوجه المشابه لكل من «الشيخين» مصطفى محمود وأنيس منصور، فقد انبرى الأول فى مهاجمة ديانة اليهود من خلال كتابه «التوراة»، وذلك عقب الهزيمة من إسرائيل، ليلهى الناس عن الخيبة الثقيلة التى أوقعتهم فيها حكومة عبد الناصر، وليقدم فى الوقت نفسه عزاء له صبغة دينية يرضخ لها الناس الذين هم مؤمنون بفطرتهم، بينما راح الثانى يكتب عن كيفية تحضير الأرواح فى السلة الذى صار ساعتها وباءً يهدد عقول المصريين، ثم راح بعدها يؤلف القصص الخرافية، ومنها تلك القصة التى قال فيها إن هناك عفريتة تظهر فى شارع صلاح سالم، لدرجة أنه أقنع الناس من خلال ميكروفون الإذاعة أنها قصة حقيقية لا ريب فيها، لكنّ أحد الأفراد الشجعان اقتحم دار الإذاعة ذات يوم وفى يده مجلة قديمة، ثم دخل على القائمين على البرنامج وفتح أمامهم المجلة على قصة لكاتب لبنانى، هى نفسها القصة التى أذاعها أنيس منصور على الناس، وكانت فضيحة مدوية.
إذن، هذا هو الأرشيف السرى الذى قدمه لنا المثقف المستنير غالى شكرى، وكما قلنا إن هذا لم يكن كل الأرشيف، وإنما هو مجرد أوراق قليلة متناثرة من هذا الأرشيف المخيف، ولكن رغم قلة هذه الأوراق فقد فتحت أعيننا على الكثير والكثير من الحقائق التى لم نكن نتوقعها قط. ومن هنا فإن هذه الأوراق تستفزنا، وفى الوقت نفسه تمنحنا فرصة لأن نعيد صياغة أفكارنا ونرتب عقولنا من جديد، بل تستنفرنا لكى نعيد مسارات ذهنياتنا من البداية، كما أنها تقدم لنا النصح فى ألا نأمن كثيرا لفئة المثقفين.
شعبان ناجى ثقافةالمصدر: المصري اليوم
كلمات دلالية: زي النهاردة شكاوى المواطنين ثقافة زي النهاردة فى الوقت
إقرأ أيضاً:
في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (2 من 2)
كانت الطامة الكبرى في خطط جماعة الإخوان خلال حكم محمد مرسي لمصر هي السعي لـ «تمكين» كوادرها وأعضائها الذين تكالبوا على السلطة وقاموا بغزو كل مؤسسات الدولة وأجهزتها وجامعاتها.
وتغيرت لغة الخطاب داخل هذه المؤسسات وفى أجهزة الإعلام، وأطلقت اللحى، وبدأ اضطهاد الأقباط والشيعة، ووصل الأمر لحد تكفير الشيعة المصريين وسحلهم وقتل أربعة منهم والتمثيل بجثثهم، الأمر الذى أثار غضب كل المصريين.
هكذا عادت الجماعة تستخدم العنف ضد من عدتهم خصوم الاسلام وأعداء الشريعة، ولم يلتفت مرسى للكتابات التى حذرتهم من اجترار تاريخهم الدموى.
وعندما شكلت وزارة هشام قنديل زاد الاضطراب فى البلاد ولم تنجح الحكومة فى مواجهة المشكلات اليومية، لأنها لم تضع خططا موضوعية، ومارست نشاطها بصبغة إخوانية، ولم تكن تطلعاتها وطنية.
وفى الثانى عشر من أغسطس 2012، أصدر مرسى قراره بإقالة المشير محمد حسين طنطاوى، وزير الدفاع، والفريق سامى عنان رئيس الأركان وبعض أعضاء المجلس العسكرى، كما صدرت قراراته بحركة تنقلات واسعة بين قادة الأفرع المختلفة للقوات المسلحة.
وتجرأ مرسي، بتوجيه من مكتب الارشاد، وأصدر إعلانا دستوريا جديدا ألغى به الإعلان الدستورى المكمل الذى كان قد أصدره المجلس العسكرى يوم 18 يونيو 2012، وكان الهدف من هذا الإعلان الدستورى أن يمنح نفسه صلاحيات مطلقة.
والمثير للدهشة أن الجماعة وأنصارها احتفلوا بالإطاحة بالمشير طنطاوى والفريق عنان، وقدموا تفسيرا دينيا لهذا الانقلاب «فهو نصر مبين يعادل فتح مكة، أو غزوة فى سبيل الله تعادل غزوة بدر»، وأصبح مرسى العياط عند البعض، بطلا مقامه من مقام صلاح الدين الأيوبى قاهر الصليبيين، وكأن المشير طنطاوى كان صليبيا جاء مع الحملة الصليبية ليغزو مصر، ونجح فى تقلد منصب وزير الدفاع!
وتمادى مرسى ومن خلفه مكتب الإرشاد فى تجاهل القوى السياسية الدينية، التى صدمها الإعلان الذى سبقته تظاهرات كوادر وأعضاء الجماعة أمام دار القضاء العالى.
كان هذا الإعلان نقطة تحول فاصلة فى علاقة مرسى والجماعة بالقوى السياسية، حيث جاء لتحصين أى إعلانات دستورية وأي قوانين وقرارات صدرت منذ تولى مرسى رئاسة الجمهورية أو ستصدر بعد ذلك وحتى انتخاب مجلس شعب جديد، فلا يجوز الطعن عليها بأي طريقة وأمام أي جهة، كما نص على إعادة التحقيقات والمحاكمات فى جرائم القتل والشروع فى قتل وإصابة المتظاهرين، وجرائم الإرهاب التى ارتكبت ضد الثوار، كما نص على تعيين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية بقرار من رئيس الجمهورية، وكذلك نص على أنه لا يجوز لأي جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع الدستور.
وهكذا جاء هذا الإعلان الدستورى ليعزز ويوسع صلاحيات وسلطات رئيس الجمهورية، ويحصن قراراته من القضاء.
وقد رفضت الأحزاب والقوى السياسية المدنية هذا الإعلان وهاجمته وخرجت مظاهرات واحتجاجات عنيفة ضده، وأطلقوا عليه «الإعلان الفرعونى».
ورأى البعض أن هذا الإعلان كان بمثابة الشرارة الأولى التى نبهت القوى المعارضة للجماعة، للخطر الذى ينتظر مصر، وأنه لابد من عزل مرسى والتخلص من حكم المرشد.
وعلى الطرف الآخر اندفعت المظاهرات الإخوانية تؤيد الإعلان وعمت الفوضى شوارع القاهرة، وسرعان ما توجهت العناصر المعارضة للجماعة ناحية قصر الاتحادية يوم 25 نوفمبر، واستمرت الاحتجاجات.
وفى الرابع من ديسمبر 2012، ولم يكن قد مضى على تولى مرسى الرئاسة أكثر من ستة أشهر، اعتصمت أعداد كبيرة أمام قصر الاتحادية، وعلى الفور أعلنت الجماعة «النفير العام» واندفعت ميليشيات الإخوان لتدافع عما أطلقت عليه «شرعية الرئيس»، وأسفر عدوان هؤلاء عن إصابة العشرات، وامتدت مطاردة الإخوان إلى ميدان روكسى وشارع الخليفة المأمون وامتداد شارع الميرغنى وشارع القبة وجسر السويس، والشوارع الجانبية فى مصر الجديدة.
ونجحت ميليشيات الإخوان في القبض على عدد ليس بالقليل من المتظاهرين وتم سحلهم وتعذيبهم وتقييدهم على أبواب قصر الاتحادية واتهموهم بالعمالة، وحاولوا انتزاع اعترافات منهم على من يحرضهم من أعداء الجماعة، وقدموا عددا كبيرا منهم للنيابة التى أفرجت عنهم بعد ثبوت براءتهم، ليس فقط، وأنهم كانوا مجنيا عليهم وليسوا جناة، الأمر الذى أدى إلى وقوع أزمة بين المحامى العام المستشار مصطفى خاطر رئيس نيابات شرق القاهرة، والنائب العام، الذى عارض إطلاق سراح المتهمين «الأبرياء»، ولما اشتد الخلاف بين الاثنين قرر النائب العام إلغاء ندب المستشار مصطفى خاطر، وثارت ثائرة أعضاء النيابة وانضم إليهم نادى القضاة، ورفضوا أن ينفذ قرار إلغاء ندب مصطفى خاطر، بل وطالبوا بإقالة النائب العام.
وعندما حاول مرسى امتصاص غضب الثائرين والمعارضين، ودعا إلى «الحوار الوطنى»، كان الحوار مهزلة فاشلة، ولم تنفذ أي من توصياته، عندئذ قرر مرسى إصدار إعلان دستورى جديد ألغى فيه إعلان يوم 22 نوفمبر 2012، وسمح بإجراء الاستفتاء على الدستور الجديد، إلا أن المظاهرات عادت من جديد ضد هذا الإعلان.
هكذا كانت مصر تتجه بسرعة نحو فوضى قد تؤدى إلى كارثة لا يحمد عقباها، وانطلقت حناجر الأئمة والدعاة وعدد من المثقفين تدعو مرسى والجماعة إلى ضرورة إزالة أسباب الاحتقان وعدم الاستمرار فى «تمكين» عناصر الإخوان فى مفاصل الدولة ومؤسساتها.
ورفض مرسى مقترحات «جبهة الإنقاذ» ولم يوافق على حل وزارة هشام قنديل واكتفى بتعديل وزارى محدود وشكلى.
ولما ازداد الاحتقان وازدادت الاضطرابات والفوضى، قام عدد من الشباب غير المنتمين لأحزاب بتأسيس الحركة التى عرفت بحركة «تمرد» واستلهموا فكرة التوكيلات التى نفذت إبان ثورة 1919، حيث أعدوا استمارات موقعة من المصريين يطالبون بها بسحب الثقة من رئيس الجمهورية مرسى العياط ويطالبون أيضا بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وقد استحسن الشعب المصرى فكرة «سحب الثقة، وإجراء الانتخابات المبكرة»، لذلك شهدت القاهرة والمدن الكبرى والصغرى والقرى والعزب والنجوع إقبالا هائلا على توقيع الاستمارات.
وتحولت الميادين قبل 30 يونيو إلى ما يشبه ساحات الحرب بين أنصار جماعة الإخوان والمعارضين لها من كل التيارات السياسية، وشارك الذين لا ينتمون أيديولوجيا لأى حزب أو تيار خوفا على مستقبل البلاد، بعدما أدركوا حقيقة الجماعة، والفوضى والخراب الذى تسببت فيه.
وكانت سيناء قد تحولت إلى معسكرات للإرهابيين الذين قتلوا الضباط والجنود، وكان كل يوم يمر يثبت فشل مرسى والجماعة فى إدارة شئون البلاد، وانتشر قطاع الطرق واللصوص فى الشوارع وسرقت السيارات، ولم يعد السير فى طرق القاهرة أو الطرق السريعة آمنا، وحبس كبار السن أنفسهم فى بيوتهم التى لم تعد آمنة هى الأخرى، وبدز اقتصاد البلاد ينهار.
وأطلقت الجماعة أعوانها يحتلون ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة، وأطلقوا حملة مضادة لحملة «تمرد» أسموها حملة «تجرد» لم تحظ بتأييد أحد غير أعضاء الجماعة.
وهكذا دخلت مصر فى نفق مظلم ومرت الأيام ثقيلة، وكل يوم يحمل مزيدا من التدهور، عندئذ تدخل الجيش وطلب القوى السياسية المتصارعة بتحقيق مصالحة وطنية، ومنح الكل مهلة أسبوع على الأكثر.
رفض مرسى وأعلنت كوادر الجماعة أنها قادرة على مواجهة أعدائها وسحقهم، وصورت الجماعة الصراع على أنه صراع بين «أنصار البلد» و«أنصار الشيطان»، وأن أنصار الله عليهم مجابهة الكفار، وطمأنت أنصارها: إذا ما قتلنا «فقتلاهم فى النار، وقتلانا فى الجنة».
تزايد عدد الكتابات العلنية والمنشورات التى هاجمت مرسى وجماعته، واتهمتهم أنهم جماعة انتهازية صعدت إلى حكم مصر فى غفلة من الزمن.
فى واحد من المنشورات التى وزعت على المتظاهرين تم حصر أخطاء وخطايا مرسى والجماعة، تحت عنوان "كوارث مرسى وإخوانه" جاء فيه أن مرسى تسبب فى كوارث أهمها:
• الإعلان الدستورى الذى حصن قرارات الرئيس، وهو إجراء غير دستورى وجريمة تستدعى محاكمته.
• تقسيم الشعب المصرى بين الإخوان وأنصارهم «المسلمين» وبقية المصريين «الكفار».
• هجوم الإخوان على المتظاهرين السلميين أمام الاتحادية وقتل 11 شخصا وجرح العشرات بعد تعذيبهم وسحلهم.
• محاصرة المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامى.
• أحداث بورسعيد، ومقتل أكثر من 75 شخصا.
• الاستقالات الجماعية للمستشارين.
• الاضطراب والفوضى وكثرة الجرائم وسرقة السيارات وخطف الأطفال والشباب.
• كارثة قطار أسيوط ومقتل 50 شخصا وكارثة قطار الجنود ومقتل 17 جنديا.
• تعكير الأمن العام واحتلال ميدان رابعة العدوية والنهضة.
• انتشار الكذب والخداع وعدم الشفافية.
• الهجوم على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
• الصدام مع الأزهر الشريف.
• الهجوم على الإعلام وتحميله مسئولية الكوارث التى حلت بمصر.
• أزمة الوقود والسولار وانقطاع الكهرباء.
• خطف الجنود وعدم محاكمة الخاطفين.
• مشروع الصكوك الإسلامية.
• تلفيق التهم للمعارضة للجماعة.
• إعلان براءة جميع المتهمين فى موقعة الجمل.
• الإفراج عن المسجونين من أعضاء الجماعة.
• التصريحات البذيئة لوزير الإعلان الإخوانى.
• التخطيط لأخونة التليفزيون المصرى والمؤسسات والجامعات.
• استقالة المستشار القانونى لمرسى وإعلانه صراحة هيمنة مكتب الإرشاد على الرئيس.
• كارثة التعامل إعلاميا مع مشكلة سد النهضة.
• معادة الجماعة للقضاة ومحاولة تزكيته لخدمة أغراض الجماعة.
• إساءة مرسى بخطاباته المسفة فى المحافل الدولية.
وبدأت دعوات الاحتشاد الوطنى، وطرحت كثير من الأفكار حول «ترتيبات ما بعد التخلص من مرسى وجماعته» من ذلك المنشور الذي نشرته «حركة الدفاع عن الجمهورية» بتاريخ 24 يونيو 2013 الذى جاء فيه: «إن الحركة تنظر إلى المرحلة الانتقالية الجدية بمنظور أوسع وأشمل من مجرد تغيير رئيس برئيس آخر، وأن هذه النظرة تحمى الوطن العزيز من شرور الانتقام والتشرذم والصراع السياسى».
وافترضت الحركة أن تكون المرحلة الانتقالية سنة واحدة فقط يتم فيها توفير المناخ الأفضل والأكثر ديمقراطية للأحزاب والقوى والتنظيمات السياسية، لتطرح أفكارها حول القضايا ذات الأولوية من ذلك قيام الجيش بحماية أركان الدولة، وإدارة الشئون الداخلية بعد تعطيل الدستور الإخوانى، ومن ذلك أيضا تفعيل القرارات أرقام 56، 95 لسنة 1968، و445 لسنة 1970، بشأن دور «المجلس الأعلى للأمن القومى»، وحل مجلس الشورى الإخوانى على أن يتولى التشريع مؤقتا الجمعية التأسيسية للدستور البديل.
هكذا، وبعد سنة واحدة من صعود الإخوان للحكم، اكتشف الشعب المصرى أنهم ليسوا دعاة أو رجال دين، وإنما هم رجال سياسة انتهازيون إرهابيون، لهم أطماعهم وأفكارهم التى لم يتقبلها الشعب وكان أخطرها تقسيم المصريين إلى مسلمين وكفار.
خرج المصريون وحاصروا وزارة الثقافة، ورفضوا اتّباع جماعة جاءت لتنفذ المشروع الأمريكى، مشروع الشرق الأوسط الجديد، لبلدهم، كما رفضوا فكرة تقسيم المقسم وتجزئة المجرمين.
كان مشهد الملايين التى قدرت بقرابة الأربعين مليون مشهدا مذهلا وصادما للجماعة وحلفائها فى الخارج، وكان لابد من قرار حاسم، وتحت ضغط الشعب الثائر جاء القرار يوم 3 مايو 2013 بإنهاء رئاسة الرئيس الإخوانى محمد مرسى، وتعيين المستشار عدلى منصور رئيس المحكمة الدستورية رئيسا مؤقتا للبلاد وتعليق العمل بالدستور وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
هكذا نجح الشعب المصرى مؤيدا بجيشه الوطنى فى إفشال المشروع الأمريكى، وهزيمة الجماعة التى دفعت للسيطرة على الحكم، ووضع حد للفوضى التى أوشكت أن تودى بتماسك الشعب المصرى وتهز أركان الدولة، وتدخلها فى نفق مظلم.
وبدأت الجمهورية الجديدة ترسم شخصية جديدة لمصر، وكان على الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يخوض أولا معركة شرسة على الإرهابيين وأعداء مصر فى الداخل والخارج، وهى المعركة التى بدأت من عام 2014 وحتى الآن.
اقرأ أيضاًفي ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (1 من 2)
«صحيفة الرأي الأردنية»: أمن الدولة يستدعي المسئول الأول في جماعة الإخوان
«حدث في زمن الإخوان.. الطريق إلى ثورة 30 يونيو».. كتاب لمصطفى بكري يكشف خطايا الجماعة خلال حكم مصر