كتبت في المقالات السابقة وفي غيرها سلسلة مقالات عن قراءة العمل الفني في فنون الشعر والتصوير والموسيقى والسينما، مثلما كتبت مقالات أخرى عديدة تخدم هذا السياق نفسه. فلقد كان هدفي الأساسي دائمًا من كتابة المقال الصحفي هو تعميق وعي القارئ العام بالمفاهيم الكبرى التي نتداول أسماءها أو مصطلحاتها في سياق الحياة اليومية؛ فالحقيقة أنني أرى أن الفلسفة لا ينبغي أن تُكتَب فحسب من أجل الفلسفة أو التفلسف أو من أجل الفلاسفة أنفسهم؛ وإنما ينبغي أن تُكتَب أيضًا من أجل الناس كما يعيشون في الحياة اليومية.
أول هذه المهارات أو الخبرات تتمثل في القدرة على انتقاء الكتاب أو ما يُقرَأ، أي انتقاء ما هو جدير بالقراءة. والحقيقة أن ما هو جدير بالقراءة هو أمر لا يتوقف فحسب على احتياجاتنا كأن نحتاج إلى قراءة كتب معينة مطلوبة في إجراء بحث ما، بل هو ينطوي على قيمته وأهميته في ذاته بصرف النظر عن احتياجاتنا. والواقع أن كثيرًا من الباحثين المبتدئين ممن يفتقرون إلى الخبرة يقعون في هذا الخطأ حينما يلجأون إلى قراءة الكتب التي تتناول موضوع بحثهم أو اهتمامهم بصرف النظر عن القيمة العلمية أو الفكرية لهذه الكتب. وفي هذا الصدد يمكننا القول بأن الكتاب يستبين بدءًا من عنوانه: كثير من الكتب تحمل عناوين فضفاضة لا تقول شيئًا أو لا توحي برؤية معينة، أو تنطوي على مفاهيم لا رابط بينها. مثل هذه الكتب يجب الانصراف عنها منذ البداية.
وإن التبس علينا العنوان، فلم نستطع أن نتبين منه بوضوح مؤشرًا على أهمية الكتاب؛ يمكننا عندئذ أن نلجأ إلى فهرس الكتاب لنقف على تفاصيل مضمونه. وهنا تتبدى خبرة القارئ مرة أخرى حينما يكون قادرًا على تفحص مضمون الكتاب بناءً على ما إذا كان هذا المضمون يطرح قضايا أو تساؤلات، وعلى إذا ما كان هناك وحدة وتكامل بين أجزاء الكتاب وفصوله وترتيب منطقي أو معقول لها؟ ذلك أن أجزاء الكتاب أو أبوابه ينبغي أن تشتمل على الفصول التي تتفرع عن هذه الأبواب، كما ينبغي ترتيب الأبواب أو الفصول بحيث تنتقل من الأعم إلى الأخص، أعني من القضايا الأكثر عمومية إلى تلك الأكثر خصوصية.
فإن لم يوف الكتاب بشيء مما تقدم، ينبغي العدول عن قراءته منذ البداية من دون حاجة إلى تجاوز العنوان والفهرس إلى صفحات الكتاب. وأذكر في هذا الصدد خبرة شخصية بهذا الأمر: فعندما كنت أقوم بإعادة تصنيف وترتيب مكتبتي الخاصة، قمت بالتخلص من مئات الكتب التي لم أكن قد قرأتها بعد، والتي كانت تصلني من جهات عديدة ولم أخترها بنفسي؛ فقد وجدت أن هذه الكتب لا تستحق أن تشغل حيزًا في أرفف مكتبتي. وهذا المعيار في القراءة يمكن أن نسميه معيار الانتقاء.
وحتى حينما نجد كتابًا مستحقًا للقراءة، فإن مهارات القراءة ينبغي أن تكون حاضرة أيضًا: ويتبدى هذا في القراءة حينما تكون مطلوبة من أجل بلوغ معلومة أو فكرة معينة، مثلما يتبدى في انتقاء النصوص التي تكون معبرة بقوة عن الفكرة المطلوبة. ولهذا نجد أن الخطأ الذي يقع فيه معظم الباحثين والكتاب المبتدئين هو أنهم ينقلون كل ما تقع عليه أعينهم فيما يقرؤونه دونما قدرة على التمييز بين ما هو جدير بالتوقف عنده باعتباره معبرًا عن الأفكار المركزية في الكتاب المقروء، وما هو من قبيل الشرح والاستطراد.
ومن المهارات اللازمة في القراءة القدرة على قراءة ما بين السطور: ذلك أن الكلمات لا معنى لها بذاتها بمنأى عن السياق الذي ترد فيه، وليس المعنى يكمن فقط فيما يُقَال، وإنما يكمن أيضًا فيما لا يُقَال، أعني: فيما يوحي به الكلام أو يمكن أن يربطه بسياق سابق أو لاحق. وهذا هو في الحقيقة الفارق بين القراءة العميقة والقراءة السطحية. والواقع أن هذا المعيار في القراءة لا يكون مطلوبًا في الكتب التي تتناول مسائل علمية بقدر ما يكون مطلوبًا في الكتب الفلسفية والفكرية الإبداعية، وهي الكتب التي لا تتحدث عن وقائع محايدة، وإنما تعبر عن رؤية مؤلفها.
مقصودي من كل ما تقدم هو أن القارئ يمكن أن يدرب نفسه باستمرار على فن القراءة باعتبارها عملية في الفحص والانتقاء والفهم.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکتب التی فی القراءة ینبغی أن یمکن أن من أجل فی هذا
إقرأ أيضاً:
هند الخالدي.. حكاياتها ملهمة للأجيال
خولة علي (أبوظبي)
بين صفحات ملونة وأصوات تسرد الحكاية، ينهض جيل جديد يتعلم كيف يرى العالم بعين الخيال، ويكتشف ذاته عبر الكلمة. فالقصة ليست تسليةً عابرة، بل نبض يرافق الطفولة، يرسم في داخلها ملامح الغد، ويعلمها أن للحروف قلباً، وللأحلام جناحين.
من هنا كرّست الكاتبة والناشرة الإماراتية هند الخالدي قلمها لتغرس في الأطفال حب القراءة، وتعيد للحكاية مكانتها الأولى في تشكيل الوعي وتنمية الخيال. آمنت بأن الكلمة قادرة على فتح نوافذ صغيرة في قلوب الصغار، يطلون منها على عالم من الدهشة والمعرفة، وأن كل قصة يمكن أن تكون بذرة لحلم يكبر معهم. بهذا الإيمان، صنعت هند الخالدي مشروعها الأدبي والتربوي، لتقدم عبر دار هند للنشر قصصاً تنبض بالحياة، وتحمل بين سطورها دفء الأمومة وعمق الرسالة الثقافية التي تجعل من الطفل قارئاً فاعلاً لا متلقياً فقط.
نقطة التحول
تعود بدايات هند الخالدي إلى تجربة شخصية مؤثرة مع ابنتها سارة، التي كانت في طفولتها تمتلك صديقة غير مرئية، ما ألهم والدتها لكتابة أولى قصصها بعنوان «صديقة غير مرئية». وتوضح الخالدي أن تلك اللحظة كانت نقطة التحول في مسيرتها، إذ اكتشفت كم هو عمق خيال الطفل، وكم يحتاج إلى من يشاركه عالمه الجميل. وتضيف: بدأت رحلتي لأمنح الأطفال مساحة آمنة للتعبير عن خيالهم، ليجدوا في القراءة مرآة لأحلامهم الصغيرة.
واجهت الخالدي في بداياتها تحديات في تحقيق التوازن بين الخيال والرسالة التربوية داخل القصة، إضافة إلى صعوبة إيجاد رسامين يفهمون روح النص ويجسدون الشخصيات بما يعكس البيئة الخليجية. وتقول: تعلمت أن نجاح القصة يكمُن في الفكرة البسيطة والعميقة، واللغة القريبة من الطفل، والشخصيات التي تشبهه وتشجعه على التفكير الإيجابي. وتؤكد أن الرسوم ليست مجرد مكمل للنص، بل شريك أساسي في تحفيز الخيال وإيصال الفكرة.
ورش تفاعلية
لم تقتصر تجربة الخالدي على الكتابة، بل امتدّت إلى تقديم ورش قرائية للأطفال تعتمد على التفاعل والمرح. ومن أبرزها ورشة «كلمني بالعربي» التي تهدف إلى تشجيع الأطفال على التحدث بالعربية الفصحى بأسلوب ممتع. تقول: أردت أن أظهر جمال لغتنا العربية وهويتها الثقافية بعيداً عن الجمود والتلقين، فحولت القراءة إلى تجربة مليئة بالضحك والاكتشاف.
وتؤكد الكاتبة أن القراءة قادرة على إحداث تحوّل حقيقي في شخصية الطفل، إذ لاحظت بعد ورشها تغير تفاعل الصغار مع الكتب، وزيادة جرأتهم في التعبير عن أفكارهم. وتضيف: الطفل الذي كان خجولاً في البداية يصبح أكثر ثقة حين يشارك القصة أو يستخدم الدمى في التمثيل، لأن القراءة تمنحه صوتاً وفضاءً للخيال، مشيدة بدور الأسرة والمدرسة في ترسيخ عادة القراءة اليومية وجعلها جزءاً من الروتين العائلي.
قدمت الخالدي حتى اليوم 11 إصداراً تنوعت بين القصص التربوية والخيالية والإنسانية، منها «عالمي في كتاب»، والتي نالت عنها جائزة منحة المكتبات في الشارقة. وتطمح في المرحلة المقبلة إلى توسيع نطاق دار هند للنشر لتصل إصداراتها إلى الأطفال في مختلف الدول العربية، مع الحفاظ على الهوية الإماراتية في المضمون.