أدب النهايات العبري.. إسرائيل وهاجس الزوال العنيد
تاريخ النشر: 18th, June 2024 GMT
لا تمر ذكرى نكبة فلسطين وقيام إسرائيل كمشروع استيطاني إحلالي، خاصة في العقدين الأخيرين، دون أن ينشغل السياسيون والمؤرخون والمفكرون والإستراتيجيون داخل الكيان وخارجه بالإجابة على أسئلة من قبيل:
ما مستقبل هذا الكيان؟ هل يشهد ذكرى تأسيسه المئة؟ هل يكمل عامه الثمانين قبل زواله كما زالت كيانات (يهودية) تاريخية سابقة؟ كيف تسرّع الانشقاقات الداخلية بين المتدينين والعلمانيين نهاية الكيان؟ ولماذا تخلى رب موسى وهارون عن شعبه؟!.
والحقيقة أن هذا الكيان هو المكان الوحيد في العالم الذي تطرح فيه ذات الأسئلة والهواجس الوجودية على هذا النحو. ولم تكن ذكرى النكبة وقيام الكيان هذا العام استثناء من القاعدة، بل هي أكثر إلحاحا وراهنية من أي وقت مضى بعد اندلاع ملحمة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أزمة الكيان الصهيوني المزمنة أن الصهيونية هي التجلي الإمبريالي لـ"علمانية" فاشية شاملة، علمنت اليهودية، وسخرتها لخدمة الإمبريالية الغربية. وأصبحت إسرائيل المشروع الاستيطاني الأخير في العالم، المتجه تاريخيًا نحو العزلة والانحطاط الإستراتيجي، وينتظر التفكيك مع صمود واستعصاء شعب فلسطين على الاقتلاع والإبادة ونهوض الأمة وتراجع الهيمنة الإمبريالية الغربية، وتآكل مرتكزاتها.
من مؤشرات دخول طور "النهاية" تصاعد مستويات العنف والتدمير واسع النطاق لأهل البلاد الأصليين، وقد وصل حد الإبادة الجماعية كما يحدث الآن بقطاع غزة والضفة الغربية، وهبوط الكيان الاستيطاني إلى دَرَك الهمجية والعدمية والعزلة الدولية ونزع الشرعية، ووصولا إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وإصدار أوامر باعتقال قادته المتورطين في جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
نبوءات ذاتية التحقيقتشغل فكرة النهايات الكارثية وتوقعاتها ونبوءاتها التشاؤمية الوعي والهاجس المسيحي الغربي، (وخاصة لدى البروتستانتية الكاريزمية التبشيرية، وليس الكنائس البروتستانتية التقليدية الراسخة: الأنغلكانية والأسقفية والمشيخية والميثودية.. إلخ، وبعضها سحبت استثمارات صناديقها من شركات غربية تعمل في إسرائيل). وتسبب هذه النبوءات أحيانًا قلقًا وجوديًا لا تفسير أو مبرر منطقيًا له. ومن مصادر النبوءات الأشهر "سفر الرؤيا" في العهد الجديد (يتجاوز 100 صفحة)، وينسب إلى يوحنا صاحب "إنجيل يوحنا" أحد أصحاب ("رسل") السيد يسوع الناصري.
وتؤدي بعض النبوءات دورا مهما أو يتم توظيفها في السياسات الغربية! وبعضها نبوءات ذاتية التحقيق، أي أن الذين تبنوها وآمنوا بها، لم ينتظروا "الإرادة الإلهية" لتحققها، بل وضعوا الخطط ورصدوا الموارد وعبؤوا الجهود والمساعي لتحقيقها. وهذا شأن الصهيونية، كما لاحظ الناشط الحقوقي وأستاذ الكيمياء العضوية الراحل، إسرائيل شاحاك.
فاليهود يؤمنون تقليديا بظهور "المسايا" اليهودي الذي "يعيدهم" إلى الأرض المقدسة في آخر الزمان بـ"الإرادة الإلهية". لكن الحركة الصهيونية رفضت انتظار "الإرادة الإلهية" وقررت تحقيق العودة بمشروع استيطاني إمبريالي إحلالي اقتلاعي عنفي ضمن مشروع الاستيطان الأوروبي العالمي الأوسع.
فنبوءة عودة المسيح (ع) في آخر الزمان ومعركة "أرمجدّون" الحاسمة بين حلف الخير وحلف الشر، ويعقبها ألف عام من الحياة السعيدة (العقيدة الألفية)، وارتباط مسلسل الأحداث هذا بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة، أدت دورا مهمًا في نشوء حركة الصهيونية المسيحية منذ القرن الـ19 بين الإيفانجيليين في بريطانيا والولايات المتحدة.
وكان أحدهم، اللورد البريطاني شيفتسبري، حاضرا على يمين ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا الذي وضع إطار المشروع الصهيوني والدولة اليهودية في فلسطين. وينسب إلى اللورد شيفتسبري تساؤله لاحقا: "هل كانت خططنا جزءًا من مشروع بشري.. ثم تخيلناه إرادة الرب؟"
وقد تزدهر نبوءات التشاؤم الكارثية في تواريخ مفصلية (Ruptures) مثل نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، وأن أحداثا هائلة كارثية "قياميًة" (Apocalypse) وانقلابات كونية غيبية قد تقع في تلك اللحظة! وبالطبع لم تتحقق أي من هذه النبوءات.
اليوتوبيا والديسوتوبياأما بالنسبة لليهود فلهم مصادر أخرى لنبوءات النهايات الكارثية في أسفار العهد القديم تنذر بـ"العذاب والكآبة" (gloom and doom)، وتتكرر عبارة: "وعمل بنو إسرائيل الشر في عين الرب!"، في مناسبات لها علاقة بانحرافات كارثية كزواج ملوكهم بالكنعانيات وعبادتهم البعل، إله الخصب الكنعاني، وبنائهم المعابد له، وقد تصدى النبي إلياس (ع) لذلك، وآمن معه معظم العامة، وذبحوا فوق الجبل 4 آلاف من كهنة البعل كما تروي أسفار العهد القديم.
وقد أفاض إبراهيم الدبيكي، الباحث في الأدب العبري بكلية الآداب بجامعة طنطا، في دراسة "أدب النهايات" في الرواية العبرية المعاصرة بدراسة تأصيلية تحليلية لهذه الظاهرة ودلالاتها. وقارن بين أدب المدينة الفاضلة المثالية (يوتوبيا) (utopia) وأدب المدينة الفاسدة والنهايات الكارثية "دايسوتوبيا" (dystopia)، وقد شهد الأدب العبري الحديث كلا منهما.
وربما لم يلحظ كثيرون أن أشهر قصائد الشعر الحديث في القرن الـ20، قصيدة "الأرض الخراب"، (1922)، للشاعر الأميركي توماس أس إليوت (1888-1965)، هي من أعمال "أدب النهايات" الحديثة المبكرة، بل هي مرثاة حزينة للإنسان والحضارة الغربية ولعالم فقد ألقه وسحره وجلاله. وتعتبر هذه القصيدة نقطة تحول في مسار الشعر الغربي من الرومانسية والفيكتورية إلى الحداثة.
كانت لأعمال اليوتوبيا الصهيونية الحضور الأبرز في الأدب العبري في القرن الماضي، مثل أعمال ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية: "دولة اليهود" (1896)، "أرض قديمة جديدة" (1902)، وأدت دورها في تلقين الأيديولوجيا الصهيونية ونشر ديباجاتها وأساطيرها المؤسسة، وإغراء يهود أوروبا بالهجرة إلى فلسطين: "أرض الميعاد"، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، "أرض اللبن والعسل"، "صحاري ومستنقعات تنتظر من يزرعها بالورود والرياحين"، وغيرها.
وقد شهد الناقد الإسرائيلي أورتسيون "أن الثقافة العلمانية اليهودية، منذ نهاية القرن الـ19، تعبر عن أدب مؤدلج ومُسخّر، أدب ازدهر بين أحضان الحركة الصهيونية، والهجرات والحروب المختلفة".
لكن الأدب العبري اتخذ في العقدين الأخيرين انعطافة بالغة نحو التشاؤم والتنبؤات الكارثية، وشهد موجة من كتب "أدب النهايات" التي تتوقع نهاية مروعة للكيان الصهيوني، بسبب كوارث طبيعية أو قوى خارجية أو سيطرة اليمين الفاشي والطقوس الدينية الخانقة أو حرب أهلية بين اليهود العلمانيين والمتدينين.
الماضي اليهودي والمأزق الوجوديتعزى هذه الانعطافة إلى عاملين: أولهما يتعلق بالماضي أو التاريخ اليهودي، والثاني يتعلق بالمأزق الوجودي للمشروع الصهيوني ومجتمعه الاستيطاني.
هناك في الماضي (اليهودي)، تجارب تاريخية يهودية انتهت إلى كوارث وأصبح تكرارها نذيرا بنبوءات ونهايات كارثية، مثل انقسام مملكة داود وسليمان، وسقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا، والسبي البابلي، وخراب المعبد الأول والمعبد الثاني، وهزيمة الحشمونيين وخراب ملكهم على يد الرومان، ومذابح اليهود (pogroms) والشتات اليهودي (diaspora) قرونا في أوروبا القروسطية، وأخيرا المحرقة النازية (holocaust) في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
المفارقة أن هذه الوقائع التاريخية حدث مثلها، أو بعضها، مع شعوب أخرى عديدة عبر التاريخ ولم تقتصر على يهود العالم، لكن الفكر الصهيوني يصر على الفرادة اليهودية والاستثناء اليهودي في سياق التاريخ الإنساني العالمي. ومن هنا فإن ازدهار أدب النهايات في الأعمال الأدبية العبرية، وسط تاريخ كهذا حافل بالكوارث و"الفرادة" المزعومة ليس بدعًا بل ربما قد تأخر كثيرا.
يشهد الكيان الصهيوني مأزقا وجوديا بسبب صعود اليمين والفاشية الناجم عن الاستيطان واحتلال أراضي الغير، وتكريس الفصل العنصري نظاما وممارسة، وتآكل ديمقراطية "سفينة القراصنة"، والتحول من اقتصاد شبه اشتراكي إلى نيوليبرالية خطِرة فاقمت الفقر وعدم المساواة، وانهيار الطبقة الوسطى، وتضخم قوى التشدد الديني وعبأها المالي والاقتصادي نظرا لاستقطابها نحو أحزاب اليمين الحاكمة بالأموال العامة والهبات ودعم مدارسها مقابل أصواتها الانتخابية وإعفائها من التجنيد.
والأخطر هو العداء والانقسام الاجتماعي السياسي العمودي بين العلمانيين والمتشددين دينيا واستفراد اليمين الفاشي بالسلطة والسيطرة على مقدرات الدولة عقودا طويلة، وتبخُّر اليسار والعلمانيين سياسيا أمام زحف اليمين وأنصاره من حريديين ومستوطنين وفاشيين، وإطلاقهم حرب اقتلاع نهائية وتخيير أهل فلسطين بين الاستعباد أو الهجرة أو القتل!.
في هذا المشهد الراهن، انطفأت اليوتوبيا الصهيونية، وتوالت أعمال الدايسوتوبيا، الذي ينتمي معظم مؤلفيه إلى معسكر اليسار والعلمانية الذي ينتابه الأسى والشعور بالعزلة وخيبة أمل مريرة في المشروع الصهيوني. يستبطن كُتّاب "أدب النهايات" وعيًا بأن هذا النمط من الأدب ليس مجرد كتابة إبداعية، بل وسيلة للتنبؤ الاجتماعي السياسي واستشراف المستقبل والمآلات وتوجيه الرأي العام وطرح قضايا المصير.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحرکة الصهیونیة الأدب العبری النهایات ا
إقرأ أيضاً:
التاريخ لا يُقرأ من لوحة الغطرسة الصهيونية
تمر العين سريعا على أخبار عربية، فتقع على بؤس لم يتبدل في المشهد الفلسطيني، جرائم حرب وإبادة تستهدف كل شيء، وتستمر على نفس الوقع من الانحطاط والانحدار في المواقف، وفي بقية فلسطين يتشاطر المستعمرون في الضفة والقدس مع جيشهم المجرم في غزة، جرعة قوية من الإرهاب، فيكرر سموتريتش وبن غفير ونتنياهو مقولات ثابتة في العقل والسلوك الصهيوني، عن إبادة "الأغيار"، والتفاخر بتحقيقها في غزة. وما تحقق من نتائج للعدوان على غزة والضفة وإيران وسوريا ولبنان، دفع لُعاب العنصرية الصهيونية إلى السيلان نحو وحشية أكثر وتطرف في الضفة والقدس، وبعدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وبحقه، والإسراع بالسيطرة والاستيطان والتهجير لدفن أي كيان فلسطيني يمكن البناء عليه أو الحديث عنه مستقبلا.
بعد كل هذا، لا ندري أين وكيف ستتحقق رغبات إسرائيل والولايات المتحدة لشرق أوسط جديد، باتباع وصفة "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تُبنى عليها آمال كبيرة من تل أبيب وواشنطن، وبعض الواهمين العرب، فإذا انتقلنا لنقطة متابعة ما تحقق سابقا، على صعيد تصديق الخدعة الصهيونية الأمريكية لـ"السلام" لنعرضها لمحاكمة العقل والواقع على الأرض، والاقتراب من أي منجز يمكن ملامسته ولو كان ضئيلا، فلا يجد العاقل من هامشية وهشاشة ما تحقق، سوى النتيجة "الطبيعية" لهذا البؤس المعمم عربيا وفلسطينيا والذي يفتقد حتى لكفاءة المساومة، أو إلزام الخصم بشروط "الصفقة" أو السلام والتطبيع..
من المخجل حقا أن يبتلع بعض النظام العربي الطعم الصهيوني الأمريكي، بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتركيز الجهد والحديث والعمل، على إزالة "بؤرة التوتر" المتصلة بمقاومة الاحتلال. والمشكلة ليست بحاجة لشرح، 75 عام من نكبة واحتلال وما أفرزته على الأرض، فجوهر القضية الاحتلال والمشروع الصهيوني، والتطبيع معه على أساس إمكانية قبول ما غنمه من حقوق في الأرض والتاريخ، والاكتفاء بما بين يديه من إنجازات أو غنائم. لكن تجربة العقود الماضية، التي كان عمودها الفقري في المقولة الأكثر عمومية التمسك "بخيار السلام" كسلاح مقابل عربدة وغطرسة صهيونية، وتوسيع للعدوان وارتكاب جرائم حرب وإبادة وعدم اعتراف بالحقوق والقانون الدولي، يفترض أن تُحدث صدمة كبرى لصحوة البعض البائس والمفجع، بحيث أنه لم يترك بين يديه من سلاح ذو قيمة لمواجهة عدوّه.
فخديعة الرئيس ترامب بالحديث المستمر عن اقتراب الحل في غزة ووقف لإطلاق النار، واستعداد البعض للانخراط في التطبيع مع وحشية المحتل، بعد القضاء على المقاومة، تمهيدا لتنصيب زعامة الغطرسة والقوة الصهيونية باستباحتها كل المنطقة، هي خديعة كل الإدارات السابقة للعرب والفلسطينيين، وهي لم تعد اليوم كذلك لما فيها من وضوح الدعم والإسناد للمشروع الاستعماري الصهيوني.
وهنا سؤال صعب يطرحه المرء على نفسه، حين يراقب معظم الموقف الفلسطيني ومن خلفه مواقف عربية ربطت كل ما يجري بسردية المحتل عن إزالة عقبة "المقاومة" من طريق رغد التطبيع القادم: هل سينتهي الإرهاب الصهيوني المنتشر على طول الأرض وعرضها في فلسطين، وصولا لسيادة عربية مستباحة؟ ألم يكن واضحا للطرف العربي والفلسطيني الرسمي الموقف الأمريكي، بعد تجربة طويلة ومفضوحة من الاستفزاز والتزوير دفاعا عن الإرهاب الإسرائيلي وتبريره وحمايته؟
لم يعد يسمع الأمريكي والإسرائيلي من ديباجة السياسة العربية كلاما واضحا وصريحا، بما يخص القضية الفلسطينية، اقتصرت السياسة في الآونة الأخيرة على إظهار ما يدور في الغرف المغلقة، أي جهر مقترن بالخذلان الكبير الذي تعيشه القضية على وقع الجرائم المستمرة، فلا تسمع نفيا عربيا مباشرا لما يدلقه ترامب من خطط بشأن فرض حليفه الصهيوني زعيما بالقوة، وبالتطبيع مع إرهابه، ولا كلاما فلسطينيا مباشرا بشأن مراجعة كل الرهانات والأوهام السابقة. قبل أيام قال مصدر سوري في تصريحات لقناة إسرائيلية إن بلاده وإسرائيل ستوقعان اتفاقية سلام قبل نهاية العام 2025، وأنها ستتضمن تطبيعا كاملا ستكون الجولان فيه "حديقة سلام". كما لا بيان عربيا يعيد التأكيد على ديباجة القرارات الدولية بشأن سورية الجولان، والتأكيد على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 لأي حل متعلق بمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
العدوان الخطير التي يجري في مدن الضفة والقدس، يزامل وحشية الإبادة الجماعية في غزة، وهنا، كما في السابق، لم يطلب الفلسطينيون من عربهم نجدة عسكرية، حتى لا يكرر البعض نموذج الإبادة المطلوب في غزة، لكن يطالبون بالتركيز على فضح طبيعة الإجرام الصهيوني وإرهابه، وعزله وحصاره، والمطالبة بمحاكمته أمام العدالة الدولية، وهذا أضعف الانحياز لمبادئ العدالة والقانون الدولي والإنساني، لمن يعتنق ممارسة السياسة المحكومة بعدالة وأخلاق، وليس بخلط أنصاف الحقائق المفلترة سلفا.
لليوم وبعد كل هذا الإرهاب الصهيوني، الذي يواجه رفض وغضب شوارع غربية وعالمية، لم تشعر المؤسسة الصهيونية بضغط أو خطر يدفع إسرائيل للتراجع عن ممارسة الإرهاب وارتكاب الجرائم، فرغم كل الشواهد وحقائق الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، هناك على أطراف العالم العربي وداخله انهيار للمواقف، ولحظة ترقب استسلام فلسطيني لتتويج عصر "السلام" الصهيوني، لحظات مرت من قبل في محطات كثيرة من كامب ديفيد 1979، وتوجت في أوسلو 1993، ووادي عربة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي حقائق تكشفت وتعري عن هذه "المعجزة" الكثير.
فكل ما يُطرح من أعجوبة التطبيع، الملحق بمعجزة "السلام" والمقدم إسرائيليا وأمريكيا على أنه مفتاح الفرج وسبب للتفاؤل بالمستقبل، يتم فوق بالأعالي، حيث التجريد والتسطيح لكل شيء، للعدالة وللقانون وللحق، بعيدا عن بديهيات التاريخ والواقع، فظن من فرح بمعجزة أمريكا وأعجوبة الغطرسة الصهيونية أن أرض الواقع الذي يتميز بصرامته وقسوته لن يصيب هذه العناصر بالتحلل، لكنها عادت لسابق عهدها وتكشفت المعجزة عن مسخ ميت في المهد.
أخيرا، المشغولون بنسيج الكلام عن التطبيع الإسرائيلي مع هذا النظام العربي وغيره، وتفجير لغة الإرهاق من القضية الفلسطينية، فقط ندعوهم لمراقبة مواقف شعوب ونخب غير عربية تجاه نظام الفصل العنصري الصهيوني، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومطالبهم بعزل وحصار إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا إحلاليا في المنطقة، وخطرا على السلم العالمي. فترديد نبرة وسردية صهيونية، تقتل روح الإنسان ولا توقظ من عقله شيئا في فضاء الظلم والقهر، تبقى نبرة محاصرة ومعزولة ومتفسخة، فمن صفق للهزائم التي مضت وللهزائم القادمة، سيبقى مصدوما من أيام هاربة من تاريخ الوهم الذي يحاول الانتماء له والعيش في ظله. والتاريخ والمجتمعات حركة مستمرة، والمستقبل مفتوح دوما على كل الاحتمالات، والتاريخ العربي والفلسطيني لن يُقرأ أبدا من لوحة الغطرسة الصهيونية ولا من عبرنته وتزويره.
x.com/nizar_sahli