الأمم التى تقدّر رموزها العلمية والدينية والمعرفية هى أمم أصيلة حية لا تموت أبداً، تحفظ ذاكرتها، وتعرّف الأجيال اللاحقة بمناقبهم ومعارفهم، ولا تزال تجمع بين الأصيل والجديد فيها، لتواجه كل غريب وارد يقدح فى هويتها الثقافية، أو يطعن فى رسوخ قيمها العريقة. أنا شخصياً سعدت سعادة بالغة حين علمت ممّا نشره صديقى الأستاذ الدكتور الطاهر سعد ماضى على صفحته بصدور قرار حكومة الوحدة الوطنية الليبية بمجلس الوزراء رقم (241) لسنة 2024م بإنشاء جامعة الإمام أحمد زرّوق للعلوم الشرعية، ومقرّها مدينة مصراته.
هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد عيسى البُرُّنُسيّ المغربى الأصل. قيل إن الزَّرُّوق لقب أتاه من جهة جدَّه لأمه الذى كان أزرق العينين. والبُرنُّسى، نسبة لقبيلة البرانس التابعة لقبيلة تازة بالمغرب. ولد فى الثانى والعشرين من المحرَّم عام (846هـ). توفى عنه والداه وهو صغير وربَّته جدته (أم البنين) وكانت من الصالحات، تربية حسنة: علمته - كما يقول هو فى الكنّاش - الصلاة وهو ابن خمس سنين، وأدخلته الكتّاب فى هذه السن، فتعلم من تلك المرأة الصالحة التوحيد والتوكل والإيمان والديانة بطريق عجيب. حدثته بحكايات الصالحين وأهل التوكل ولم تكلمه عن الخرافات والأباطيل، ودرَّبته وهو لم يزل صغيراً على نقد الكتب.
ويبدو أن هذه الدُرْبة المبكرة على نقد الكتب: إعمال العقل فيما يقرأ، ونقد ما يقرأ، قد أسفرت عن نزعة نقدية مُمَنْهَجَة، أثمرت فى حقل التصوف ثمارها الطيبة التى لا يخطئها بصر الناظر بالجملة فى كتابات الشيخ. ولعل هذه الدُرْبة الأولية هى التى قادته مبكراً إلى ما يقود وعى القارئ النابه نحو التحقق فيما عساه يقرأ ثم يفهم وينقد ما يقرأ على وعى من أمره وعلى بصيرة.
فلما بلغ سن الرشد طلب العلم وكان له فى طلبه رحلات بين المغرب والمشرق. وأقام بمصر مُدة وتتلمذ فيها على عدد من أعلام الشيوخ فى الفقه والحديث والتصوف، وعلا كعبه فبرز وذاع صيته. ولفت نظر علماؤها هناك حتى قال عنه مؤرخ الصوفية الأشهر المناوى فى طبقاته: عابدُ من بحر العِبَر يغترف، وعالم بالولاية يتصف، تحلى بعقود القناعة والعفاف، وبرع فى معرفة الفقه والأصول والتصوف والخلاف، خطبته الدنيا فخطب سواها، وعرضت عليه المناصب فردَّها وأباها.
وهى تعبيرات دالة ومعبِّرة على شخص العارف بالله أحمد زرَّوق كما تنطق بها كتاباته وتتكشف لنا فيها ملامح شخصيته.
ومن مصر ارتحل إلى الجزائر ومكث فيها فترة من الزمن، ثم رجع إلى وطنه بفاس (المغرب) إلى أن حدثت بينه وبين أحد شيوخها جفوة، فتركها ونزل مصراتة عام (886هـ)، ولقى من أهلها كل تقدير وتكريم كعادة الحفاوة الليبية، فكانت له موطناً ومستقراً. وفى عام (894هـ) توجَّه إلى الحج، ومنه زار القاهرة حيث استقر بها قليلاً، فألقى بعض الدروس بالجامع الأزهر، ثم رجع إلى مصراتة وقضى بها السنوات الأربع الباقية من عمره، إلى أن توفاه الله فى الثامن عشر من صفر عام (899هـ) بعد رحلة كفاح مضنية ذاق فيها طعم الجهاد الروحى ومعاناة التجربة الصوفية وفتوح العرفان والكتابة فى هذا الميدان بمداد مُعبَّق بعبق الروح وخلاصة المعارف الذوقيّة.
ولا يعقل أن تكون هنالك جامعة مؤسسة تحمل اسم الإمام أحمد زروق وهى لا تعنى عناية شديدة بتراثه المعرفى، وبخاصة إذا علمنا أن بعض مؤلفاته وشروحاته لم تزل حتى اليوم مخطوطات، فلا أقل من توافر قطاع الدراسات العليا بالجامعة على تحقيق هذه المخطوطات والعناية بها ونشرها بين الناس.
سبقت الجامعة الأسمريّة التى تحمل اسم الإمام عبدالسلام الأسمر (981 هـ - 1573م)، فكانت امتداداً لمركزه الإسلامى الذى أسسه يومذاك فى مدينة زلتين غرب ليبيا (سنة 912هـ - 1491م)، علامة على جهوده الإصلاحية، مسجد ومدرسة لتعليم القرآن بالإضافة إلى مختلف العلوم الإسلامية ومرافق العمل الدعوى والاجتماعى الخدمى، يُدَرّس فيه القرآن الكريم والفقه المالكى والعقيدة والسلوك والتربية وعلوم الترقية، ولم تنقطع تلاوة القرآن ولا التمسك بالتعاليم الإسلامية من زاوية الأسمر منذ تأسيسها قبل أكثر من 500 عام.
فلن تكون هذه بأقل من تلك، وكما شرح الزَّرُّوق صحيح البخارى وعلق عليه، وكتب حاشية على صحيح مسلم وجزءاً فى علم الحديث ورسالة فى مصطلح الحديث، كذلك شرح بعض كتب التّصوف بوجد متفرِّد عال وذوق راق بصير، وهو عجيب لافت للنظر: أنْ يجمع شيخنا بين عقلانية المنطق ووجد المتصوف ويفيض أسلوبه مع هذا بقوة روحية ورمزية عالية تجذب المنطقيَّ العقلانى بمقدار ما تشبع نهم المتصوف الروحانى بكل تأكيد.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم قرار حكومة الوحدة الوطنية الليبية الأستاذ الدكتور الإمام أحمد
إقرأ أيضاً:
جامعة جنوب الوادي تشارك في الملتقى العلمي الثاني لوحدة البرامج المهنية بجامعة أسيوط
ترأس الدكتور أحمد عكاوي رئيس جامعة جنوب الوادي، وفد الجامعة المشارك في فعاليات الملتقى العلمي الثاني الذي تنظمته وحدة البرامج المهنية بجامعة اسيوط برئاسة الدكتور أحمد المنشاوي رئيس الجامعة بعنوان ( الإصلاح المؤسسي والحوكمة الرقمية لدعم بناء الدولة المصرية ).
يضم وفد الجامعة الدكتور محمد وائل عبد العظيم نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحوث، والدكتور أبو الحمد مصطفى عميد كلية التجارة، والدكتور علاء تاج الدين وكيل كلية التجارة للدراسات العليا.
وأكد الدكتور أحمد المنشاوي، أن الملتقى العلمي الثاني للبرامج المهنية يُمثل منصة فكرية وعلمية مهمة تُجسد الدور الفاعل الذي تقوم به الجامعة في دعم توجهات الدولة نحو الإصلاح المؤسسي والتحول الرقمي، باعتبارهما من الدعائم الأساسية لبناء دولة حديثة تمتلك مؤسسات فعّالة.
وأكد الدكتور المنشاوي أن الملتقى يعكس التزام الجامعة بتعزيز الحوار وتبادل الخبرات بين الأكاديميين والمتخصصين وصُنّاع القرار، بما يُسهم في تطوير الأداء الحكومي وتحديث البنية الإدارية وفق أحدث المفاهيم والنظم المعاصرة.
وأكد الدكتور أحمد عكاوي، رئيس جامعة جنوب الوادي، على أهمية التعاون بين الجامعات المصرية في مجالات التطوير المؤسسي واشاد بتنظيم جامعة اسيوط لهذه الفاعلية المتميزة وأكد حرصه على تعزيز التعاون المشترك مع جامعة اسيوط، مشيرًا إلى الدور الحيوي للبرامج المهنية في دعم خطط الدولة نحو التحول الرقمي وتعزيز كفاءة المؤسسات الحكومية كما استعرض رئيس الجامعة ابرز جهود الجامعة في مجال تطوير النظم الإدارية.
ووجه رئيس الجامعة التحية لضيوف الملتقى من أصحاب التجارب الوطنية والدولية.
ووقع الدكتور أحمد عكاوي رئيس جامعة جنوب الوادي، والدكتور أحمد المنشاوي رئيس جامعة أسيوط بروتوكول تعاون بين جامعتي أسيوط وجنوب الوادي بهدف تعزيز الشراكة الأكاديمية والتكامل المؤسسي.
وتضمنت فعاليات الجلسة الافتتاحية عرضًا مرئيًا استعرض مسيرة وحدة البرامج المهنية على مدار سبع سنوات، كما جرى تكريم الضيوف وتسليم الدروع التذكارية تقديرًا لإسهاماتهم، وتبادل الدكتور أحمد عكاوي والدكتور أحمد المنشاوي الدروع التذكارية في ختام الجلسة الافتتاحية.
وشهد الملتقى عددًا من الجلسات العلمية المتخصصة، ناقشت موضوعات الإصلاح المؤسسي، وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية، والحوكمة المالية، والحوكمة الرقمية، بمشاركة نخبة من الخبراء من مختلف المؤسسات والجهات الرسمية، من أبرزهم الدكتور صالح الشيخ، الرئيس السابق للجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، والدكتورة خديجة عرفة من مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، والمهندس ياسر عمر وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، والدكتورة هبة صالح رئيس معهد تكنولوجيا المعلومات بوزارة الاتصالات.
وفي ختام الملتقى، عُقدت جلسة ختامية تم خلالها عرض التوصيات الصادرة عن النقاشات العلمية، والتي ركزت على أهمية ترسيخ مفاهيم الحوكمة والشفافية في مؤسسات الدولة، وتطوير البنية التكنولوجية والإدارية لدعم السياسات الحكومية، وتعزيز التعاون بين الجامعات المصرية في مجالات بناء القدرات المؤسسية.