سيناريوهات مظلمة لمستقبل البشرية
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
بين العبارة التي وردت في ملحمة جلجامش، (من يا صديقي يمكنه تسلق السماء؟!) وبين عبارة أرمسترونج (لقد هبط النسر على القمر) -النسر اسم أول سفينة فضاء لامست سطح القمر- خمسة آلاف سنة من الإنجازات العظيمة التي سطرها علماء الطبيعة والمهندسون ليغيروا العالم بأسره وليضعوا أقدامهم لا على الأرض بل على القمر!
ومن هنا فلا عجب أن ينظر الكثيرون منا إلى التقدم العلمي المذهل بكثير من الإعجاب، فلقد مكننا العلم من إنجازات ما كانت تخطر على بال أحد، إلا أن هناك وبالمقابل من ينظر بكثير من الخوف والخشية من هذا التقدم العلمي الذي لم تعد له حدود، لدرجة أن بعضهم يرسم صورة قاتمة وحالكة الظلام عن المستقبل، والسبب هو هذا العلم الذي أثار فينا كل هذا الإعجاب!.
والواقع أن الإجابة على هذا السؤال متشعبة ولها جوانب مختلفة لكن بعضها قائمة على معطيات علمية ومن أهمها: الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض، فأثر هذا الاحتباس بدأ يظهر جليًّا خلال السنوات الأخيرة، فمثلا لاحظنا أن سلطنة عمان مثلا تعرضت في العقد الأخير إلى عدد من الأنواء المناخية المتكررة التي لم تكن تعهد بهذا التسارع في القرن الماضي، كما إن درجات الحرارة في بعض دول الخليج في الصيف الماضي سجلّت أرقامًا قياسية جديدة، إذ وصلت درجة الحرارة في الشمس بالكويت إلى ٧٣ درجة مئوية، ولاحظنا أيضًا ارتفاعًا لافتًا وجفافًا ملحوظًا في القارة الأوروبية يشكّل تهديدًا حقيقيًا لتلك الدول، كما أشارت دراسات وتقارير عدة إلى أن عام ٢٠٢٣ هو أكثر الأعوام حرارة منذ قرون من الزمن، وعمومًا فإن هذا القرن يشهد ارتفاعًا ملحوظًا في درجات الحرارة لم تعهد سابقا، ويرى الكثير من العلماء أن السبب وراء ذلك هو التطور العلمي والتقنيات العلمية التي استخدمها الإنسان استخدامًا خاطئًا ولم يراعِ فيه النظم الحيوية ولا البيئية؛ فإنتاج الغازات الدفيئة على كرتنا الأرضية يصل إلى ما يعادل ٥٢ بليون طن سنويًا، وعلى الرغم من أن النباتات تقوم بامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون في عملية التمثيل الضوئي لتنتج غاز الأوكسجين، إلا أن ننتج كميات ضخمة منه تفوق طاقة النباتات على امتصاصه، ولذا فقد ارتفعت نسبته في الجو لتصل في عام ٢٠٢٠ إلى ٤١٢.٥ جزء في المليون وكان تركيزه حتى عام ١٩٦٠ حوالي ٣١٠ أجزاء في المليون، وبذلك فقد ارتفع بنسبة تصل إلى ٣٦ ٪، علما بأن تركيزه عام ٢٠٠٠ كان يقدر بحوالي ٣٦٠ جزءًا من المليون، وهناك عدد من الدراسات تشير إلى أن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون لم يتجاوز ٣٠٠ جزء من المليون في آخر ٨٠٠ ألف سنة من عمر كرتنا الأرضية إلا في العقود الأخيرة، ووصل عام ٢٠٢٣ إلى ٤١٩ جزءًا من المليون.
وإذا استمر ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون بهذه الصورة، فإن ذلك سيسبب ارتفاعات في درجات الحرارة بشكل لم يسبق له مثيل، ففي الخليج العربي- على سبيل المثال- فإننا سنتعرض إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة في بعض فصول السنة مما سيزيد من مخاطر الوفاة بسبب ضربات الشمس بصورة كبيرة.
وهذا التغير ستظهر آثاره خلال أقل من ٣ عقود من الزمن.
ولذا يرى بعض المحللين أن البشرية غير جادة في مواجهة الاحتباس الحراري والتوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، وأن الوقت لم يعد متسعًا للقيام بالتغيرات المطلوبة لوقف ارتفاع درجات الحرارة، ويرى هؤلاء بأننا قد نضطر إلى إنشاء مدن كبيرة تحت الأرض مثلًا وذلك للتخفيف من ضربات الشمس في بعض فصول السنة وخاصة في المناطق الحارة، كما تشير التوقعات إلى حدوث كوراث بيئية ضخمة مع اكتظاظ سكاني كبير نتيجة تقلص مساحات كبيرة من اليابسة التي ستغمرها مياه البحار والمحيطات، وكل ذلك ستتضح آثاره بشكل أكثر وضوحًا خلال عقدين أو ثلاث عقود من الزمن، ولذا ينظر الكثير من المتخصصين في العلوم والتقانة بأن الاحتباس الحراري أهم تهديد يواجه البشرية؛ لأنه يهدد البشرية برمتها لا بعض مجتمعاتها.
كما أن هناك تخوفًا من انتشار التقانة المرتبطة بالطاقة النووية، فهذه الطاقة تعد أحد أفضل أنواع الطاقة من حيث الكفاءة، إلا أن انتشار هذه الطاقة يمهد الطريق إلى امتلاك قدرات بناء الأسلحة النووية الفتاكة، بصورة يصعب السيطرة عليها وخاصة في المناطق الساخنة من العالم والأقل استقرارًا فهذه الأسلحة ستسبب دمارًا هائلًا وفتاكًا إذا أسيء استخدامها، ويجزم البعض إن حربًا عالميةً ثالثةً ستعني فناء البشرية وذلك لأن السلاح النووي سيقضي على الغالبية العظمى من البشر أما الذين سينجون فسيصابون بالعقم نتيجة تعرضهم لهذه الاشعاعات، أما الأقل تشاؤمًا يرى بأن تراجعًا تقنيًا كبيرًا سيحدث وانخفاضًا لافتًا في أعداد البشر!
كما أن وجود أعداد كبيرة من محطات توليد الطاقة النووية يزيد من احتمال حدوث أخطاء بشرية تكون لها آثار كارثية، كما حدث في كارثة تشرنوبل عام ١٩٩٦م، ويتساءل البعض عن مخلفات الطاقة النووية، فخطر هذه المخلفات لا يقل عن خطر القنبلة نفسها، فالمخلفات الناتجة مصدر لإشعاعات قاتلة، ويتم حفظها اليوم بصورة آمنة ولكن المشكلة في هذه المخلفات بأن حفظها بهذه الصورة يجب أن يصل لمدة تزيد عن خمس وعشرين ألف سنة، وهي مدة من الزمن طويلة للغاية ولا يستطيع أن يضمنها أحد.
وهناك من يتحدث صراحة عن التخوف من التقدم المذهل في التقنية الحيوية وانتشارها السريع وسهولتها، مما يجعل من الصعب السيطرة عليها، ولذا فان وضع القوانين والتشريعات العالمية وإن كان مجديًا ويضع قيودًا على الاستخدام غير المدروس لهذه التقنية، إلا أن ذلك لن يمنع من استخدامها بطرق غير صحيحة، فلو تم استخدام هذه التقنية في هندسة الخلايا الجنسية لعدد من أفراد البشر، فإن ذلك يعني تغييرًا نهائيًا ومستدامًا لبعض البشر وأن هذه الصنف الجديد سيكون مغايرًا لنا نحن البشر الحاليين.
وهناك بعض البحوث العلمية التي نشرت في السنوات القليلة الماضية أثار الكثير من اللغط والقلق، ففي عام ٢٠١٨ م في الصين، وفي أحد المؤتمرات العلمية أعلن الطبيب الصيني «خه جيان كوي» عن قيامه بسبق علمي فقام بتغيير في الخارطة الجينية لتوأمين هما لولو ونانا، وذلك بغرض حمايتهما من مرض نقص المناعة الأيدز، والذي ورثا جيناته من أبيهما المصاب، وبذلك أصبحتا لولو ونانا أول طفلتين في تاريخ البشرية يحملان خريطة جينية مهندسة بشريًا.
إن هذه البحوث تثير الكثير من المخاوف، إذ يمكن استخدامها لتحسين القدرات البشرية، كأن يتم استخدامها لتقوية الذاكرة وتحسين أدائها، وتنمية الذكاء وتطويره أو تحسين مهارات اللغة أو القدرات البصرية أو السمعية، وبهذا سيتم إنتاج النسخة رقم اثنين من البشرية والتي تمتلك قدرات مطورة عنا نحن النسخة الأولى!.
وفي شهر يونيو عام ٢٠٢٠ نشرت مجلة ساينس أحد أشهر المجلات العلمية وأكثرها انتشارًا عن بحث قام به عدد من العلماء في فرنسا؛ إذ قاموا بزرع جينات بشرية في دماغ جنين للقردة، وأفاد الباحثون بأنهم لاحظوا أن القشرة المخية الحديثة للقرد، وهو جزء من الدماغ عند القردة معنيّ باللغة والتعلم، تضخمت بشكل كبير، حيث تشير البحوث السابقة بأن الجين المزروع في جنين القرد هو من الأجنة الرئيسية التي يمكن استخدامها في تنمية الذكاء.
وقد توقف الباحثون عن المضيّ قدمًا في البحث، وقاموا بقتل أجنة القرود التي تمت زراعتها بجينات بشرية خوفًا مما سيلحق لها من أضرار، لكن ذلك لم يزل المخاوف بل زاد منها، فوجود هذه التقنيات، وسهولة الحصول عليها ومع الفضول البشري الذي لا يقف عند حد يدفع البعض لاستخدامها في قادم الأيام لإنتاج أصناف من الحيوانات تم التلاعب في جيناتها وغدت تمتلك قدرات تقارب القدرات البشرية!
بل وهناك تخوُّف كبير أيضًا من تقنيات الذكاء الصناعي أيضًا؛ فالتقنيات التي تزوّد بها هذه الآلات تتطور بشكل مذهل مما يجعلها تمتلك مستوى عاليًا من الذكاء والتعلم الذاتي، وهذا يجعل البعض يتصور أن ذكاء هذه الروبوتات سيفوق ذكاء البشر خلال العقود القادمة، مما سيؤدي إلى فقدان السيطرة والتحكم بها، بل سيحدث العكس وستقوم هذه الروبوتات بالتحكم بالإنسان، لكن تحكمها سيكون وحشيًا إذ أن هذه الكائنات الروبوتية لا تمتلك وعيًا ولا تتحكم بها المشاعر التي تتحكم بالإنسان، فهي لا تحس بالحزن والخوف والجوع، لذا سيصعب تهديدها أو تخويفها!.
وأخيرًا هناك الدليل التاريخي المستخلص من التاريخ الطبيعي، فالملاحظ من هذا التاريخ الطبيعي أن الكائنات الحية بأصنافها المختلفة تعمر الأرض لفترات معينة من التاريخ ثم تنقرض، فالتاريخ الطبيعي شهد سيطرت الديناصورات لفترات من الزمن، ولكنها انقرضت بعد أن كانت سيدة الأرض لفترات طويلة، كما حدث الأمر نفسه مع حيوانات أخرى، بل حتى بعض الحيوانات الضخمة كالماموث تعرضت للانقراض، وقد ثبت اليوم بما لا يدع مجالًا للشك بأن أعدادًا كبيرةً من أصناف مختلفة من الكائنات الحية تنقرض سنويًا.
وإذا كان التاريخ الطبيعي يدعم السيناريوهات المظلمة التي أشرنا لها، فإن السنن التاريخية تدعم ذلك أيضًا، فهذه السنن التاريخية توضح لنا أن الحضارات البشرية تنمو وتتطور ومن ثم تصل إلى القمة وبعدها تبدأ بالتراجع والانهيار.
إن من سلبيات العولمة أنها وحدت الحضارة البشرية؛ فالتاريخ البشري لم يشهد مشتركات بين الحضارات المختلفة كالتي يشهدها العالم اليوم، فما سيحدث اليوم في بقعة ما سيبلغ أثره في أبعد نقطة في كرتنا الأرضية، ومن هنا فإن هذه المشتركات تجعل البشرية برمتها في خطر محدق؛ لأن الحضارة البشرية بلغت القمة وستبدأ قريبًا بالتراجع وربما بالانقراض!
لكن الأمر الذي يتفق عليه الجميع بأن البشرية اليوم في مركب واحد، وإن أي واحد منا إن قام بثقب القارب الذي يقلنا فستغرق البشرية برمتها ولذا فلابد من توحيد الجهود والعمل المشترك.
كما يتفق الجميع بأننا لابد وأن نسير نحو إيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي تواجهنا، فلقد وصلت البشرية إلى طريق لا رجعة فيه وفي الوقت نفسه لا يمكنها أن تتوقف إلى ما وصلت إليه؛ لأن ذلك يعني ببساطة انتهاء سريع للحضارة البشرية، فالتراجع أو الوقوف على ما نحن عليه من تطور وعدم التقدم إلى الأمام ومحاولة إيجاد حلول للتحديات التي تواجهنا يعني أنه وخلال عقود من الزمن سنتراجع إلى الوراء وربما سيشهد جيل اليوم فناء الحضارة البشرية قبل أن يخطفه الموت!.
إلا أن التقدم الذي نسعى إليه اليوم يختلف تمامًا عن التقدم الذي سعت له البشرية في القرون الأخيرة، فقبل هذا القرن كانت البشرية تسعى إلى الرفاه المادي والاقتصادي والتكنولوجي، ودون أدنى اهتمام بالبيئة المحيطة وبكرتنا الأرضية بيتنا الكبير وسكننا الوحيد في هذا الكون الكبير، أما التقدم الذي نسعى إليه اليوم فيضع في مقامه الأول سعادة الإنسان بمفهومه الواسع والذي لا يمكن تحقيقه دون رعاية البيئة المحيطة وتولية اهتمام فائق بكرتنا الأرضية حتى وإن كان ذلك على حساب رفاهنا الاقتصادي والتقني؛ فالسعادة لا تتكئ على عصا الاقتصاد وحده.
إنَّ السيناريوهات المظلمة التي أشرنا إلى بعضها إن صحت -واحتمال صحتها معتد به في الوسط العلمي- فإن علينا أن ندرك أننا نعيش في مرحلة غاية في الخطورة، فالبشرية برمتها في خطر محدق، ولا سبيل لها للنظر إلى خلفها والتراجع، فإما أن تسير إلى الأمام وتواجه التحديات وإما ستنقرض كما انقرضت الكائنات الحية الأخرى!
أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي -كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التاریخ الطبیعی درجات الحرارة الکثیر من من الزمن إلا أن
إقرأ أيضاً:
التفكير العلمي. . المُنجَز الحقيقي للتجربة البشرية
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
من أهم الإنجازات التي حققتها البشرية عبر مسيرتها الطويلة هو ما يُعرف بالتفكير العلمي، ذلك الأسلوب الفريد في التفكير الذي لا يقتصر على المتخصصين وحدهم؛ بل هو أداة مشتركة يستخدمها العلماء من مختلف التخصصات لتفسير نتائج تجاربهم وفهم الظواهر التي يدرسونها.
التفكير العلمي هو ذلك النسيج المشترك الذي يربط العلوم ببعضها، وهو القوة التي تمكن الإنسان من التفاعل مع عالمٍ مليء بالمعلومات المتنوعة والمعقدة، ليتمكن من اتخاذ قراراته اليومية بناءً على معايير واضحة ومنهجية سليمة.
ليس التفكير العلمي ظاهرة حديثة نشأت مع التطور العلمي، لكنه أصبح ضرورة مُلحّة في عصرنا الحالي؛ حيث غدت المعرفة أشبه ببحرٍ هائج من المعلومات التي تتدفق بسرعة غير مسبوقة. هذه الوفرة في العلوم والتقنيات زادت من حاجة الإنسان إلى أدوات تساعده على التمييز بين الصحيح والمضلل، بين المعرفة الحقيقية والآراء المتحيزة أو المغلوطة. هذا التحدي اليوم لا يواجه فقط العلماء أو المختصين؛ بل يطال كلّ شخص يسعى لفهم ما حوله بشكل موضوعي وواقعي.
خذ مثلًا قصة غاليليو غاليليّ، الذي تحدى في القرن السابع عشر العقائد السائدة حينما قال إن الأرض تدور حول الشمس، ليست مركز الكون كما كان يعتقد الجميع. لم يكن غاليليو مجرد ناقل رأي؛ بل اعتمد على ملاحظات دقيقة وأدوات متطورة آنذاك، واستطاع أن يدعم فكرته بأدلة تجريبية. رغم معارضة الكنيسة وصراعاته الشخصية، ظل منتميًا لمنهجية التفكير العلمي، مما مهد الطريق لفهمنا الحالي للكون. هذه القصة تُبرز أهمية التفكير العلمي كأداة للتحرر من الأفكار الجاهزة والدخول في عالم الحقيقة المدعومة بالأدلة.
في ظل تعقيد العلوم وتداخل تخصصاتها، يصبح من المستحيل لأي فرد أن يُلمّ بكل تفاصيلها أو يتقنها جميعًا. لكن هناك مهارة أساسية يمكن لأي إنسان امتلاكها: القدرة على التحقق من صحة طريقة التفكير نفسها. هذه القدرة تمنحه القوة ليكون ناقدًا واعيًا، قادرًا على رفض المعلومات والنظريات التي لا تستند إلى منهجية سليمة، حتى وإن جاءت من مصادر علمية أو متخصصة ذات مكانة مرموقة، فليس كلّ ما يُقال أو يُكتبُ يستحقّ القبول، خصوصًا إذا كان الأساس الفكري الذي بُني عليه ضعيفًا أو مليئًا بالثغرات.
تخيل مثلًا أنك قرأت دراسة تدّعي أن تناول نوعٍ معين من الأعشاب يمكن أن يعالج مرضًا خطيرًا. قد تبدو الفكرة جذّابة، لكن التفكير العلمي يدفعك لأن تسأل: كم عدد المشاركين في هذه الدراسة؟ هل كانت الدراسة مزدوجة التعمية؟ هل هناك تجارب أخرى تدعم هذه النتيجة؟ هل تم نشر نتائج الدراسة في مجلة علمية محكّمة؟ بهذه الأسئلة، تحمي نفسك من الوقوع في فخ الادعاءات غير المدعومة بأدلة قوية.
التفكير العلمي – إذن – ليس مجرد أداة لفهم الأفكار؛ بل هو درع يحمي العقل من الانزلاق خلف الخداع أو التحيز. إنه يسمح للإنسان بأن يُقيِّم الأفكار المطروحة ويجعلها تمر عبر مصفاة دقيقة من النقد والتمحيص. ولا يعني هذا التشكيك أو الرفض الأعمى؛ بل يعني البحث الجاد عن المنهجية التي استُخدمت، والتحقق من سلامة خطوات التفكير، وفضح أي خلل قد يؤدي إلى استنتاجات مغلوطة.
في حياتنا اليومية، نواجه مواقف كثيرة تستدعي منا استخدام التفكير العلمي، عندما نقرأ تقارير عن أطعمة "سحرية" تحرق الدهون أو تساعد في إنقاص الوزن بسرعة، أو عندما نشاهد إعلانًا يُروّج لمنتج معين بوصفه "معجزة" في حل مشكلة صحية أو تقنية، أو نستمع لمحاضر يقدم تفسيرًا معقدًا لظاهرة اجتماعية دون أن يذكر كيف توصّل إلى هذه النتائج، هنا يظهر التفكير العلمي كأداة تمكننا من التمييز بين المعلومات الموثوقة وتلك التي تستند إلى انطباعات شخصية أو بيانات ضعيفة.
في هذا السياق، يصبح الإنسان قادرًا على اكتشاف أخطاء منهجية قد لا يلحظها البعض، حتى من أصحاب الاختصاص، بمجرد أن يبذل قليلًا من الجهد والتأمل. هذه الأخطاء ليست بالضرورة مقصودة، لكنها تظهر نتيجة لقصور في تطبيق قواعد التفكير العلمي أو انزلاق نحو الأحكام المسبقة أو التفسيرات السطحية، ومن خلال التعرّف على هذه الأخطاء، يمكننا تعزيز قدرتنا على التمييز بين ما هو علمي ومنهجي، وما هو عشوائي أو غير موثوق.
على سبيل المثال، في إحدى الدراسات الاجتماعية التي تناولت أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعٍ معين، قد يميل الباحث إلى الاعتماد على عدد قليل جدًا من الحالات دون تمثيل عادل لأصناف المجتمع المختلفة، مما يؤدي إلى نتائج غير دقيقة ومضللة. التفكير العلمي يدعونا هنا أن نبحث عن حجم العينة، تنوعها، وطبيعة الأسئلة المطروحة، لنقرر مدى صحة الاستنتاجات.
إنَّ مهارة التفكير العلمي ليست حكرًا على العلماء أو الأكاديميين؛ بل هي حق لكل إنسان يسعى إلى معرفة حقيقة الأشياء وفهم العالم من حوله، فالتفكير العلمي يمنحنا القدرة على مواجهة التعقيدات والتحديات التي فرضها عصر المعرفة، لنعيش حياة أكثر وعيًا ونجاحًا، ونُسهم في بناء مجتمع يرتكز على العلم والمنطق، لا على الأوهام والانطباعات الخاطئة.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر