حقيقة العقد الصامت بين الحركة الصهيونية والدول الغربية
تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT
في عام 1985 وقف مندوب إسرائيل بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة قائلا "لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 عام تفجّرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين".
تُلخّص هذه المقولة من نتنياهو حقيقة العلاقات الصهيونية المسيحية اليهودية؛ فالصهيونية لم تكن قط حركة يهودية فقط، بل كان مبدؤها وداعمها الأكبر المؤمنين بها من المسيحيين الإنجيليين لأهداف دينية متعلقة بتسريع عودة المسيح عليه السلام عند اشتعال معركة "هيرمجدون"، التي لن تحصل إلا بوجود اليهود في فلسطين.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أسباب اقتصادية تدفع دول أوروبا الغربية إلى منع تمركز يهود شرقي أوروبا القادمين من روسيا ورومانيا في غربها ولا سيما في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة فيما بعد.
الصهيونية المسيحية اليهوديةومن اللافت أن المادة 401 من قانون أميركي صدر عام 1940 تنصّ على أن أي مواطن يصوّت في انتخابات سياسية في دولة أجنبية يفقد جنسيته الأميركية على الفور، إلا أنه في عام 1967 استُثني من هذا القانون يهود الولايات المتحدة، وصدر هذا القرار عن مجلس القضاء الأعلى بأغلبية صوت واحد فقط، كان صوت العضو اليهودي في المجلس بايس أفرديم.
وكما يقول محمد السماك في كتابه "الصهيونية المسيحية" إنه كما يتمتع يهود الولايات المتحدة بهذا الاستثناء من دون سائر المواطنين الأميركيين، فإن إسرائيل أيضا تتمتع بمعاملة استثنائية من دون سائر دول العالم.
فعندما احتلت إسرائيل في عام 1967 بالقوة المسلحة سيناء في مصر، والجولان في سوريا، والضفة الغربية وقطاع غزة بما فيها القدس في فلسطين، استُثنيت من تطبيق القانون الدولي الذي يعدّ احتلال ومصادرة أراضي دولة أخرى بالقوة العسكرية عملا غير شرعي، فالقانون يُطبق على كل دول العالم عداها.
يعود هذا الموقف الأميركي والغربي الإنجيلي من إسرائيل إلى إيمان دينيٍّ يؤكد أن وجودها في حد ذاته معبّر عن إرادة إلهية ويُجسّدها.
وعندما شذّ عن هذه القاعدة الرئيس الأميركي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور واعترض على احتلال إسرائيل صحراء سيناء في عام 1956 إثر مشاركتها في حرب السويس مع بريطانيا وفرنسا (العدوان الثلاثي)، اعتُبر موقفه اعتراضًا على إرادة الرب.
وتجنبًا لهذه المواجهة، سكت الرئيس الأسبق ليندون جونسون في عام 1967 على الحرب الإسرائيلية التي وجّهتها للأقطار العربية في مصر وسوريا وفلسطين، بل سكت عن استهداف الصهاينة للسفينة العسكرية الأميركية ليبرتي، الذي أدى لمقتل 34 بحّارًا أميركيا وإصابة 171 آخرين بجروح مختلفة.
ويرصد السمّاك في كتابه السابق أن إسرائيل حينما غزت لبنان عام 1982 كان بين قواتها جنود يهود أميركيون، ذلك بأن اليهودي الأميركي لا يتمتع فقط بحق التصويت السياسي خارج الولايات المتحدة، ولكنه يتمتع أيضًا بحق العمل العسكري داخل صفوف القوات الإسرائيلية المسلّحة، وهو امتياز لا يتمتع به أي مواطن أميركي آخر.
فالدفاع عن إسرائيل ليس مجرد عمل عسكري يتم بقرار سياسي، إذ إن ربط الدفاع عن إسرائيل بعقيدة دينية يجعل أي اعتراض أو أي عرقلة للدفاع عنها ومؤازرتها اعتراضًا على إرادة إلهية وعرقلة لهذه الإرادة.
ومن المواقف المعبّرة عن ذلك قول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر "إن قيام إسرائيل في عام 1948 يعني العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين. وإقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها".
هذه النبوءة التوراتية القديمة هي جزء لا ينفصل من عقيدة المسيحية البروتستانتية التي جاءت كعملية تهويد كبرى للمسيحية، وأصبح الترابط العضوي والفكري بين الجانبين منذ القرن الـ16 الميلادي وحتى اليوم لا يكاد ينفصل.
ومنذ العصر الكولونيالي في القرن الـ19 وإدراك بريطانيا الإنجيلية نفسها قوة عسكرية وصناعية صاعدة، أصبحت مقولات كبار مصلحيها وخبرائها الإستراتيجيين من العسكريين والسياسيين تتوالى بضرورة إسكان اليهود في فلسطين لتحقيق هذه النبوءات.
ففي عام 1839، قال اللورد أنطوني أشلي الإصلاحي الإنجيلي في خطاب "إن اليهود رغم أنهم غلاظ القلب وغارقون في المعصية وينكرون اللاهوت، فإنهم ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص".
وفي عام 1841 كتب ضابط الأركان البريطاني في الشرق الأوسط هنري تشرشل إلى رئيس مجلس الممثلين اليهود في لندن موسى مونتغيور "لا أستطيع أن أُخفي عنك رغبتي الجامحة في أن أرى شعبك يحقق مرة أخرى وجوده كشعب.. إنني أعتقدُ أنه يمكن تحقيق الهدف بدقة، ولكن لابد من توافر أمرين لا غنى عنهما؛ أولا إن على اليهود أنفسهم أن يتحملوا الأمر على الصعيد العالمي وبالإجماع، وثانيا إن على القوى الأوروبية أن تساعدهم".
ورغم هذه المقولات التي نراها تخرج من زعماء الحركة الصهيونية من المسيحيين الإنجيليين قبل اليهود، فقد ظل تاريخ الحركة الصهيونية متعثرًا قبل ظهور هرتزل، وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق، لأن وقود هذه الحركة وهم اليهود أنفسهم لم يكونوا متحمسين للهجرة من أوروبا إلى فلسطين، واستمر ذلك حتى ظهور الصحفي النمساوي ثيودور هرتزل (1860-1904) مؤسس الحركة الصهيونية.
يرى عبد الوهاب المسيري في موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" أن هرتزل حل الإشكالية القديمة بضرورة إحياء مشروع إعادة اليهود لفلسطين بطرق عملية، وبيَّنَ التنظيرات التي سبَقَه إليها الصهاينة المسيحيون.
فيقول المسيري إن هرتزل قام "بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استنادًا للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي، ولم يكتف بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية".
وأشار هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 إلى ضرورة التفاهم التام مع الوحدات السياسية المعنية حتى يتم الحديث عن حقوق الاستعمار والمنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمته مقابل ما يُعطى له.
ويتأمل المسيري في هذا "العقد الصامت" بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وإدراك الطرفين الأهمية النفعية المادية المتبادلة لكل منهما، وأن هذا العقد سيتضمن تعهد الحركة الصهيونية بإخلاء أوروبا أو على الأقل الفائض البشري اليهودي وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي وداخل دولة وظيفية.
وتتحقق نتيجة ذلك عدة أمور مهمة، على رأسها أن "يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية، وستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي وحشد يهود الغرب المعروفين بثرائهم ليدعموا هذا المشروع الغربي".
ونظير ذلك "سيقوم الغرب ككل برعاية هذا المشروع ودعمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي.. ويمكن القول إن الحل مُتضمّن في تعهّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية (اليهودية في فلسطين المحتلة)، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين من طَرد أو إبادة أو محاصرة"، على حد وصف المسيري.
ويعد "الوعود البلفورية" مصطلحا سكّه المسيري للإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها رجال السياسة في الغرب يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ويعدون بدعمه وتأمينه مقابل أن يقوم اليهود بخدمة مصالح الدول الراعية.
بالإضافة إلى ذلك، تنحو الحضارة الغربية منحى "التماسك العضوي"، أي أن عدم التجانس والاختلاف يصبح سلبيًا كريها، وعدم قدرة هذه الحضارة على التوصل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات وخاصة اليهود إلا من خلال "التهميش" وجعلهم "جماعة وظيفية".
ويعد نابليون بونابرت من أوائل القادة الغربيين الذين أصدروا وعدًا بلفوريًا، وهو أيضًا أول مَن غزا المشرق العربي والإسلامي في العصر الحديث، وسنلاحظ في هذا الوعد أن فرنسا "تُقدّم فلسطين لليهود في هذا الوقت بالذات.. وهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين.. تدعوكم فرنسا للاستيلاء على إرثكم، بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء".
لا يختلف تصريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر أعضاء الجماعات اليهودية شعبًا غريبًا عن وطنه، مما يعني إسقاط المواطنة عنه، وهو شعب مرتبط بفلسطين، ورغم وجود عبارات مثل "الشعب الفريد" والذين عاشوا "تحت قيد العبودية والخزي منذ ألف عام" و"ورثة فلسطين الشرعيين"، فإننا سنجد حقيقة الدوافع الخفية لنابليون في تشريعاته داخل فرنسا.
ولم يكن نابليون يكن كثير الحب والاحترام لليهود، بل إن الهدف من وراء تحفيزهم للهجرة إلى فلسطين هو تفريغ فرنسا منهم بسبب المشكلات التي كانت قد بدأت في الظهور بسبب هذا الوجود عشية الثورة الفرنسية، والأمر الثاني أن يكونوا "جماعة وظيفية" في خدمة المصالح الفرنسية، وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل، وقد وافقه على رأيه.
وهناك أيضًا وعد بلفوري ألماني صدر بعد عدة أشهر من إنشاء الحركة الصهيونية؛ فقد تمكن هرتزل من لقاء أحد كبار المسوؤولين الألمان الذي تحدث مع القيصر عن الموضوع، وصدر خطاب من دون إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل في سبتمبر/أيلول 1898.
ومما جاء في الخطاب "إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد ليناقش الأمر (توطين اليهود) مع السلطان (العثماني)، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في القدس.. يحبّ جلالته أن يخبركم باستعداده أن يأخذ على عاتقه مسؤولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها. وجلالته حينما يكشف لكم عن نواياه فهو يعوّل بطبيعة الحال على مقدرتكم على الكتمان".
ولم يكن هدف قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني مختلفًا عن هدف نابليون من قبله، ففي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في سويسرا عن المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، يورد الأسباب التي دعت ألمانيا لتأييد المشروع الصهيوني، ومنها أن توطينهم سيعمل على رخاء فلسطين وإنعاش الخزانة العثمانية حليفة ألمانيا، ولم يكن وقتها يدرك الرفض القاطع من السلطان عبد الحميد لهذه الأفكار والوساطة الألمانية.
وكان فيلهلم يرى أن طاقة اليهود ستوجّه إلى أهداف أكثر نبلا من استغلال المسيحيين، وأن إفراغ ألمانيا من اليهود الذين فيها "وكلما عجّلوا بالذهاب.. كان ذلك أفضل، فلن أضع أية عراقيل في طريقهم".
ويعلّق المسيري على هذا الوعد بقوله "لعل موقف القيصر من اليهود بما يتسم به من كره عميق لهم، وترحيب شديد بالتخلص منهم، واستعداد تام لتوظيفهم في خدمة المصالح الألمانية، لا يختلف كثيرًا عن موقف نابليون من قبله أو موقف بلفور من بعده".
وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 وقبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر كامل، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك اللورد بلفور التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية والذي تعلن فيه تعاطفها مع الأماني والأحلام اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحين صدر هذا الوعد كان أعضاء اليهود لا يمثلون أكثر من 5% من مجموع السكان في فلسطين.
وكان مما جاء في هذا الوعد الشهير الذي أُرسل إلى اللورد إدموند روتشيلد أحد زعماء وأثرياء الحركة الصهيونية البريطانيين، "يسعدني أن أُنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي: تعاطفًا مع أماني اليهود الصهاينة التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهومًا بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى".
لا يختلف هذا التصريح عن تصريحات كل من نابليون وقيصر ألمانيا من قبل؛ ولكن يضاف إليه ما يمكن وصفه بالمكر الإنجليزي حين ادّعوا أن هذا التصريح لن يخل بـ"الحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين".
وبالرجوع لبلفور نفسه الذي كان قد تولى الوزارة الإنجليزية بين عامي 1903 و1905، فإننا سنراه يهاجم اليهود المهاجرين لبلاده لرفضهم الاندماج مع السكان، واستصدر لأجل ذلك تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الماحق ببلاده منهم.
وكان رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد الذي صدر في عهده هذا الوعد لا يقل كراهية لأعضاء الجماعات اليهودية من بلفور، بل ينطبق هذا الأمر على الشخصيات الأساسية الأخرى التي وقفت وراء هذا الوعد مثل جورج منلر وإيان سمطس، وكلها شخصيات قامت بدور أساسي في التشكيل الاستعماري الغربي، على حد وصف المسيري.
ومن خلال الأمثلة الثلاثة القاطعة السابقة يتأكد أن حقيقة العقد الصامت بين الحركة الصهيونية والحضارة الغربية كان لأهداف سياسية ودينية متبادلة، كما تكشف لنا من خلال تحليل المفكر عبد الوهاب المسيري لها كيف يعمل اليهود في فلسطين أداة وظيفية في خدمة المصالح الغربية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة الحرکة الصهیونیة الحضارة الغربیة الصهیونیة ا فی فلسطین الیهود فی هذا الوعد وطن قومی من خلال فی عام فی هذا
إقرأ أيضاً:
الغضب الصامت: الشارع العربي يعيد تشكيل المشهد الإقليمي
عندما بدأت إسرائيل تطبيع علاقاتها مع عدد من جيرانها عام 2020، في إطار «اتفاقيات أبراهام» التي رعتها الولايات المتحدة، بدأ كثير من المحللين يتساءلون عما إذا كانت القضية الفلسطينية لا تزال تحظى بأهمية في العالم العربي. وتزايدت الشكوك أواخر عام 2023، حين بدا أن دولًا عربية أخرى قد تنضم إلى الاتفاقيات وتُطبّع علاقاتها مع إسرائيل من دون أن تطالب، في المقابل، بقيام دولة فلسطينية مستقلة.
لكن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، الذي أعقب هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، فجّر موجة غضب دولية واسعة بسبب استخدام العنف ضد المدنيين الفلسطينيين، وفرض الحصار على المساعدات الإنسانية المرسلة إلى القطاع. ورغم أن الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وحتى داخل إسرائيل، عانوا طويلًا من العنف والحرمان، فإن المعارضة العربية للاحتلال الإسرائيلي لم تكن، في معظم الأحيان، عاملًا حاسمًا في مسار الصراع. ومع ذلك، وبالنظر إلى حجم الدمار غير المسبوق في هذه الجولة من القتال، توقّع كثير من المراقبين أن يدفع الغضب الشعبي المتصاعد في الدول العربية نحو تغييرات ملموسة في خطاب الحكومات وسياساتها.
في حين رأى كثيرون أن الحرب على غزة أعادت الزخم للقضية الفلسطينية، يرى بعض الباحثين أن هجمات 7 أكتوبر وما تلاها أضعفا حضور القضية على الساحة الدولية. ويستدلون بعدم قطع الدول العربية المُطبِّعة علاقاتها مع إسرائيل، وتراجع ذكر القضية في الخطاب الرسمي خلال زيارات مثل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، حيث غلبت المصالح الاقتصادية. غير أن هذا الرأي يغفل نقطة جوهرية. فكما تُظهر استطلاعات الرأي التي أُجريت في المنطقة، شهد الرأي العام العربي تحولًا ملموسًا انعكس، ولو جزئيًا، على سلوك بعض الأنظمة. صحيح أن المصالح الاستراتيجية لهذه الحكومات لم تتغير جذريًا نتيجة لما يجري في غزة، لكن سياساتها الخارجية باتت أكثر حذرًا، ومقيدة بالغضب الشعبي المتزايد من الهجمات الإسرائيلية.
فمنذ أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية على غزة، توقّف فعليًا مسار التطبيع العربي-الإسرائيلي. وخلال زيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج، لم يُطرح توسيع «اتفاقيات أبراهام» رسميًا على جدول الأعمال. وعلى الرغم من استمرار الحرب، لا تزال بعض الحكومات العربية ترى في العلاقات مع إسرائيل فرصة تخدم مصالحها، لكنها لم تتمكّن من التقدّم في هذا المسار، بسبب معارضة شعوبها.
اليوم، بخلاف ما كان عليه الوضع قبل 7 أكتوبر، لم يعد بإمكان قادة المنطقة تجاهل التأييد الشعبي الواسع للقضية الفلسطينية. وإذا كانت إسرائيل تطمح إلى اندماج فعلي ومستقر في المنطقة، فلن يتحقق ذلك من دون مسارٍ جادٍ نحو إقامة دولة فلسطينية.
لطالما دعم المواطنون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حق الفلسطينيين في قيام دولتهم. وخلال الأشهر التسعة التي أعقبت بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، تعمّق هذا الالتزام الشعبي. فقد أجرى «الباروميتر العربي»، وهو مشروع بحثي مستقل، استطلاعات رأي وطنية ممثّلة في عدد من الدول العربية. وأظهرت النتائج أن غالبية واضحة من المشاركين وصفوا الهجوم الإسرائيلي على غزة بمصطلحات مثل «إبادة جماعية»، أو «مجزرة»، أو «تطهير عرقي».
ومع ذلك، لم يتناقض هذا الموقف مع الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود: فقد بيّنت البيانات أن الأغلبية في معظم البلدان التي شملتها الاستطلاعات ما زالت تفضّل حل الدولتين لتسوية الصراع. لكن العداء الشعبي لإسرائيل ظل قويًا. ففي تونس، على سبيل المثال، لم تتجاوز نسبة من عبّروا عن رأي «إيجابي للغاية» أو «إيجابي إلى حد ما» تجاه إسرائيل 3% فقط. كما تراجع التأييد للتطبيع معها، حتى في الدول التي سبق أن وقعت على «اتفاقيات أبراهام». ففي المغرب مثلًا، انخفضت نسبة المؤيدين لتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل من 31% عام 2022 إلى 13% فقط بعد 7 أكتوبر 2023.
كذلك أثّرت الحرب على غزة في نظرة المواطنين العرب إلى القوى الدولية الفاعلة. فقد أظهرت استطلاعات ما بعد اندلاع القتال تراجعًا واضحًا في المواقف الإيجابية تجاه الولايات المتحدة، مقارنةً باستطلاعات أجريت في الفترة بين عامي 2021 و2022. انخفض التأييد للولايات المتحدة بـ23 نقطة مئوية في الأردن، و19 نقطة في موريتانيا، و15 نقطة في لبنان، وسبع نقاط في العراق. وسُجّلت تراجعات مماثلة في الآراء تجاه حلفاء إسرائيل الآخرين، مثل فرنسا والمملكة المتحدة. ففي لبنان، انخفضت المواقف الإيجابية تجاه فرنسا بـ20 نقطة، وفي موريتانيا بـ17 نقطة، وفي المغرب بـ10 نقاط. أما المملكة المتحدة، فقد تراجعت صورتها بـ38 نقطة في المغرب، و11 نقطة في الأردن، وخمس نقاط في العراق.
في المقابل، تحسّنت صورة الصين بشكل ملحوظ، بعد سنوات من التراجع. ارتفعت نسب التأييد لها بـ16 نقطة في الأردن، و15 نقطة في المغرب، و10 نقاط في العراق، وست نقاط في لبنان.
لم تؤدّ التحولات الجذرية في الرأي العام إلى اضطرابات كبرى على غرار ما شهدته المنطقة خلال ثورات الربيع العربي في 2010-2011. ومع ذلك، كانت الاحتجاجات شائعة نسبيًا في أنحاء متفرقة من العالم العربي خلال العام ونصف الماضيين. ووفقًا لاستطلاعات «الباروميتر العربي» بين عامي 2023 و2024، قال ما لا يقل عن 10% من البالغين في كل دولة شملها الاستطلاع إنهم شاركوا في مظاهرات خلال العام السابق - وهي نسبة تقترب من تلك التي سجّلت في الولايات المتحدة خلال احتجاجات 2020 ضد عنف الشرطة، بحسب بيانات من مؤسستي «كايزر فاميلي» و«سيفيس أناليتيكس».
وفي شهري أبريل ومايو من هذا العام، شهدت عدة دول عربية موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية المرتبطة بالحرب على غزة، بما في ذلك الجزائر والبحرين ومصر والعراق والأردن ولبنان وليبيا وموريتانيا والمغرب وسوريا وتونس واليمن. ففي المغرب وحده، خرجت 110 مظاهرات في 66 مدينة وبلدة في يوم واحد خلال أبريل. كما انطلقت مؤخرا من تونس قافلة شعبية تُعرف باسم «قافلة الصمود»، تضم مشاركين من تونس وليبيا ودول أخرى، بهدف إيصال مساعدات إلى أهالي غزة، ورغم الزخم، لم تحظَ هذه التحركات بتغطية تُذكر في وسائل الإعلام الدولية.
وربما كانت هذه الاحتجاجات أكثر اتساعًا وانتشارًا لولا القيود التي تفرضها العديد من الحكومات في المنطقة. فعلى الرغم من أن التظاهر لا يُعدّ محظورًا رسميًا في معظم الدول العربية، يدرك غالبية المواطنين أن الحق في الاحتجاج السلمي ليس مضمونًا فعليًا، لا سيّما حين يستهدف سياسات الدولة. ففي استطلاع أُجري بين عامي 2021 و2022 في 11 دولة عربية، قال 36% فقط من المشاركين، في المتوسط: إن حرية التظاهر مكفولة «إلى حد كبير أو متوسط». وحدها تونس سجّلت أغلبية واضحة (61%) ترى أن هذا الحق مكفول، في حين بلغت النسبة 25% في الأردن و12% فقط في مصر. ومنذ ذلك الحين، لم تُظهر معظم الحكومات العربية مؤشرات على أنها أصبحت أكثر تقبّلًا للاعتراض أو أكثر استعدادًا لحماية حرية التعبير السياسي.
في الأردن، الذي تربطه بإسرائيل معاهدة سلام، اندلعت احتجاجات شبه يومية ضد الحملة الإسرائيلية على غزة بعد 7 أكتوبر، وبلغت ذروتها في مظاهرات حاشدة عقب صلاة الجمعة كل أسبوع. وتحت ضغط الشارع، استدعت الحكومة الأردنية سفيرها لدى إسرائيل في نوفمبر 2023، فيما كانت إسرائيل قد سحبت سفيرها من عمّان في وقت سابق بسبب الاحتجاجات المتكررة قرب سفارتها. ورغم هذا التوتر، استمر التعاون الأمني بين الطرفين في بعض الملفات؛ ففي أبريل 2024، شارك الأردن بهدوء في صدّ هجوم إيراني بطائرات مسيّرة وصواريخ استهدف إسرائيل، ضمن عملية دفاعية قادتها الولايات المتحدة.
لكن هذا الدعم أثار موجة غضب واسعة في الشارع الأردني، أعقبها تصعيد سياسي داخلي. إذ بدأت الحكومة حملة ضد جماعة الإخوان المسلمين، التي لطالما نظّمت مظاهرات مناصرة للقضية الفلسطينية، وأصدرت قرارًا بحلّها. ونتيجة لذلك، تراجعت وتيرة الاحتجاجات المؤيدة لغزة خلال الشهرين الأخيرين.
وفي المغرب، أبدت السلطات حذرًا مشابهًا تجاه المنتقدين لاتفاق التطبيع مع إسرائيل المُوقّع في إطار اتفاقيات أبراهام عام 2020. وقد جرى اعتقال عدد من المتظاهرين الذين طالبوا بإلغاء الاتفاقية. ومع ذلك، لم تنحسر الحركة الاحتجاجية، بل طوّرت أساليبها؛ فبدلًا من التجمّعات التقليدية في المدن، بدأ النشطاء في استهداف الموانئ المغربية، معترضين على السفن المتجهة إلى إسرائيل لدعم مجهودها الحربي. وفي أبريل 2025، دعا أكبر اتحاد عمالي في البلاد الحكومة إلى منع عبور هذه السفن، ما أشعل موجة جديدة من الاحتجاجات التضامنية مع غزة.
رغم الانتقادات العلنية التي وجهتها بعض الحكومات العربية لسلوك إسرائيل في غزة، إلا أنها امتنعت عن اتخاذ خطوات ملموسة من شأنها عرقلة العمليات العسكرية الإسرائيلية. لكن هذا التردد لا يعكس بالضرورة لا مبالاة شعبية، ولا قدرة كاملة للحكومات على تجاهل التيارات المتصاعدة في الشارع. فالمظاهرات اليومية في عدة دول، وإن لم تؤدِّ إلى تغييرات حاسمة في السياسات الرسمية، فإنها تضيّق هوامش المناورة وتفرض حسابات جديدة على صناع القرار.
طرحت مصر، على سبيل المثال، في مارس، مبادرة لإعادة إعمار غزة، تقوم على قيادة عربية للجهود المدنية، وإشراف أمني عربي محتمل في المرحلة التالية. وقد وافقت جامعة الدول العربية بالإجماع على هذه الخطة، التي مثّلت موقفًا مغايرًا للمقترحات الأمريكية والإسرائيلية، والتي كانت تميل إلى خيارات أكثر تطرفًا، مثل إفراغ غزة من سكانها أو السيطرة عليها عسكريًا. هذا التوجه المصري يعكس جزئيًا استجابة لضغوط الرأي العام، ورغبة في إعادة تأكيد الدور الإقليمي في صياغة الحلول. في الوقت نفسه، يبدو أن الآمال الغربية في توسيع اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل قد فترت، على الأقل في المدى القريب. فالمزاج الشعبي العربي، الذي ازداد رفضًا للتطبيع منذ بدء الحرب، بات يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام أي تحرك رسمي في هذا الاتجاه. فعلى سبيل المثال، ألغى المغرب في عام 2024 زيارة كانت مقررة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو - خطوة لم تصل إلى حد القطيعة، لكنها عكست تحفّظًا واضحًا أعاق مسار التقارب، وهو ما يعكس تأثير الشارع وضغوطه على القرارات الرسمية.
لا تقتصر المظاهرات العربية المؤيدة لغزة على التعبير الرمزي، بل تعكس تحوّلًا فعليًا في المزاج الإقليمي، مع تزايد السخط من الانحياز الغربي لإسرائيل. وإذا استمرت الحرب ومحاولات التهجير، فقد تتصاعد موجات الغضب الشعبي وتفرض تحولات في الخطاب والسياسات بالمنطقة.
مايكل روبنز المدير والباحث الرئيسي المشارك في الباروميتر العربي.
أماني جمال المؤسسة المشاركة والباحثة الرئيسية المشاركة في الباروميتر العربي، وعميدة كلية برينستون للشؤون العامة والدولية، وأستاذة كرسي إدواردز س. سانفورد للسياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون.
نشر المقال في Foreign Affairs