حقيقة العقد الصامت بين الحركة الصهيونية والدول الغربية
تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT
في عام 1985 وقف مندوب إسرائيل بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة قائلا "لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 عام تفجّرَ من خلال المسيحيين الصهيونيين".
تُلخّص هذه المقولة من نتنياهو حقيقة العلاقات الصهيونية المسيحية اليهودية؛ فالصهيونية لم تكن قط حركة يهودية فقط، بل كان مبدؤها وداعمها الأكبر المؤمنين بها من المسيحيين الإنجيليين لأهداف دينية متعلقة بتسريع عودة المسيح عليه السلام عند اشتعال معركة "هيرمجدون"، التي لن تحصل إلا بوجود اليهود في فلسطين.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أسباب اقتصادية تدفع دول أوروبا الغربية إلى منع تمركز يهود شرقي أوروبا القادمين من روسيا ورومانيا في غربها ولا سيما في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة فيما بعد.
الصهيونية المسيحية اليهوديةومن اللافت أن المادة 401 من قانون أميركي صدر عام 1940 تنصّ على أن أي مواطن يصوّت في انتخابات سياسية في دولة أجنبية يفقد جنسيته الأميركية على الفور، إلا أنه في عام 1967 استُثني من هذا القانون يهود الولايات المتحدة، وصدر هذا القرار عن مجلس القضاء الأعلى بأغلبية صوت واحد فقط، كان صوت العضو اليهودي في المجلس بايس أفرديم.
وكما يقول محمد السماك في كتابه "الصهيونية المسيحية" إنه كما يتمتع يهود الولايات المتحدة بهذا الاستثناء من دون سائر المواطنين الأميركيين، فإن إسرائيل أيضا تتمتع بمعاملة استثنائية من دون سائر دول العالم.
فعندما احتلت إسرائيل في عام 1967 بالقوة المسلحة سيناء في مصر، والجولان في سوريا، والضفة الغربية وقطاع غزة بما فيها القدس في فلسطين، استُثنيت من تطبيق القانون الدولي الذي يعدّ احتلال ومصادرة أراضي دولة أخرى بالقوة العسكرية عملا غير شرعي، فالقانون يُطبق على كل دول العالم عداها.
يعود هذا الموقف الأميركي والغربي الإنجيلي من إسرائيل إلى إيمان دينيٍّ يؤكد أن وجودها في حد ذاته معبّر عن إرادة إلهية ويُجسّدها.
وعندما شذّ عن هذه القاعدة الرئيس الأميركي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور واعترض على احتلال إسرائيل صحراء سيناء في عام 1956 إثر مشاركتها في حرب السويس مع بريطانيا وفرنسا (العدوان الثلاثي)، اعتُبر موقفه اعتراضًا على إرادة الرب.
وتجنبًا لهذه المواجهة، سكت الرئيس الأسبق ليندون جونسون في عام 1967 على الحرب الإسرائيلية التي وجّهتها للأقطار العربية في مصر وسوريا وفلسطين، بل سكت عن استهداف الصهاينة للسفينة العسكرية الأميركية ليبرتي، الذي أدى لمقتل 34 بحّارًا أميركيا وإصابة 171 آخرين بجروح مختلفة.
ويرصد السمّاك في كتابه السابق أن إسرائيل حينما غزت لبنان عام 1982 كان بين قواتها جنود يهود أميركيون، ذلك بأن اليهودي الأميركي لا يتمتع فقط بحق التصويت السياسي خارج الولايات المتحدة، ولكنه يتمتع أيضًا بحق العمل العسكري داخل صفوف القوات الإسرائيلية المسلّحة، وهو امتياز لا يتمتع به أي مواطن أميركي آخر.
فالدفاع عن إسرائيل ليس مجرد عمل عسكري يتم بقرار سياسي، إذ إن ربط الدفاع عن إسرائيل بعقيدة دينية يجعل أي اعتراض أو أي عرقلة للدفاع عنها ومؤازرتها اعتراضًا على إرادة إلهية وعرقلة لهذه الإرادة.
ومن المواقف المعبّرة عن ذلك قول الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر "إن قيام إسرائيل في عام 1948 يعني العودة أخيرا إلى أرض الميعاد التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين. وإقامة الأمة الإسرائيلية هو تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها".
هذه النبوءة التوراتية القديمة هي جزء لا ينفصل من عقيدة المسيحية البروتستانتية التي جاءت كعملية تهويد كبرى للمسيحية، وأصبح الترابط العضوي والفكري بين الجانبين منذ القرن الـ16 الميلادي وحتى اليوم لا يكاد ينفصل.
ومنذ العصر الكولونيالي في القرن الـ19 وإدراك بريطانيا الإنجيلية نفسها قوة عسكرية وصناعية صاعدة، أصبحت مقولات كبار مصلحيها وخبرائها الإستراتيجيين من العسكريين والسياسيين تتوالى بضرورة إسكان اليهود في فلسطين لتحقيق هذه النبوءات.
ففي عام 1839، قال اللورد أنطوني أشلي الإصلاحي الإنجيلي في خطاب "إن اليهود رغم أنهم غلاظ القلب وغارقون في المعصية وينكرون اللاهوت، فإنهم ضروريون بالنسبة للأمل المسيحي في الخلاص".
وفي عام 1841 كتب ضابط الأركان البريطاني في الشرق الأوسط هنري تشرشل إلى رئيس مجلس الممثلين اليهود في لندن موسى مونتغيور "لا أستطيع أن أُخفي عنك رغبتي الجامحة في أن أرى شعبك يحقق مرة أخرى وجوده كشعب.. إنني أعتقدُ أنه يمكن تحقيق الهدف بدقة، ولكن لابد من توافر أمرين لا غنى عنهما؛ أولا إن على اليهود أنفسهم أن يتحملوا الأمر على الصعيد العالمي وبالإجماع، وثانيا إن على القوى الأوروبية أن تساعدهم".
ورغم هذه المقولات التي نراها تخرج من زعماء الحركة الصهيونية من المسيحيين الإنجيليين قبل اليهود، فقد ظل تاريخ الحركة الصهيونية متعثرًا قبل ظهور هرتزل، وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق، لأن وقود هذه الحركة وهم اليهود أنفسهم لم يكونوا متحمسين للهجرة من أوروبا إلى فلسطين، واستمر ذلك حتى ظهور الصحفي النمساوي ثيودور هرتزل (1860-1904) مؤسس الحركة الصهيونية.
يرى عبد الوهاب المسيري في موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" أن هرتزل حل الإشكالية القديمة بضرورة إحياء مشروع إعادة اليهود لفلسطين بطرق عملية، وبيَّنَ التنظيرات التي سبَقَه إليها الصهاينة المسيحيون.
فيقول المسيري إن هرتزل قام "بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استنادًا للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي، ولم يكتف بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية".
وأشار هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 إلى ضرورة التفاهم التام مع الوحدات السياسية المعنية حتى يتم الحديث عن حقوق الاستعمار والمنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمته مقابل ما يُعطى له.
ويتأمل المسيري في هذا "العقد الصامت" بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وإدراك الطرفين الأهمية النفعية المادية المتبادلة لكل منهما، وأن هذا العقد سيتضمن تعهد الحركة الصهيونية بإخلاء أوروبا أو على الأقل الفائض البشري اليهودي وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي وداخل دولة وظيفية.
وتتحقق نتيجة ذلك عدة أمور مهمة، على رأسها أن "يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية، وستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي وحشد يهود الغرب المعروفين بثرائهم ليدعموا هذا المشروع الغربي".
ونظير ذلك "سيقوم الغرب ككل برعاية هذا المشروع ودعمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي.. ويمكن القول إن الحل مُتضمّن في تعهّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية (اليهودية في فلسطين المحتلة)، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين من طَرد أو إبادة أو محاصرة"، على حد وصف المسيري.
ويعد "الوعود البلفورية" مصطلحا سكّه المسيري للإشارة إلى مجموعة من التصريحات التي أصدرها رجال السياسة في الغرب يدعون فيها اليهود لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ويعدون بدعمه وتأمينه مقابل أن يقوم اليهود بخدمة مصالح الدول الراعية.
بالإضافة إلى ذلك، تنحو الحضارة الغربية منحى "التماسك العضوي"، أي أن عدم التجانس والاختلاف يصبح سلبيًا كريها، وعدم قدرة هذه الحضارة على التوصل إلى إطار تتعامل من خلاله مع الأقليات وخاصة اليهود إلا من خلال "التهميش" وجعلهم "جماعة وظيفية".
ويعد نابليون بونابرت من أوائل القادة الغربيين الذين أصدروا وعدًا بلفوريًا، وهو أيضًا أول مَن غزا المشرق العربي والإسلامي في العصر الحديث، وسنلاحظ في هذا الوعد أن فرنسا "تُقدّم فلسطين لليهود في هذا الوقت بالذات.. وهذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين.. تدعوكم فرنسا للاستيلاء على إرثكم، بل لأخذ ما تم فتحه والاحتفاظ به بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء".
لا يختلف تصريح نابليون عن وعد بلفور، فنابليون يعتبر أعضاء الجماعات اليهودية شعبًا غريبًا عن وطنه، مما يعني إسقاط المواطنة عنه، وهو شعب مرتبط بفلسطين، ورغم وجود عبارات مثل "الشعب الفريد" والذين عاشوا "تحت قيد العبودية والخزي منذ ألف عام" و"ورثة فلسطين الشرعيين"، فإننا سنجد حقيقة الدوافع الخفية لنابليون في تشريعاته داخل فرنسا.
ولم يكن نابليون يكن كثير الحب والاحترام لليهود، بل إن الهدف من وراء تحفيزهم للهجرة إلى فلسطين هو تفريغ فرنسا منهم بسبب المشكلات التي كانت قد بدأت في الظهور بسبب هذا الوجود عشية الثورة الفرنسية، والأمر الثاني أن يكونوا "جماعة وظيفية" في خدمة المصالح الفرنسية، وهذا ما قاله ملك إيطاليا لهرتزل، وقد وافقه على رأيه.
وهناك أيضًا وعد بلفوري ألماني صدر بعد عدة أشهر من إنشاء الحركة الصهيونية؛ فقد تمكن هرتزل من لقاء أحد كبار المسوؤولين الألمان الذي تحدث مع القيصر عن الموضوع، وصدر خطاب من دون إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل في سبتمبر/أيلول 1898.
ومما جاء في الخطاب "إن صاحب الجلالة على استعداد أكيد ليناقش الأمر (توطين اليهود) مع السلطان (العثماني)، وأنه سيسعده أن يستمع إلى مزيد من التفاصيل منكم في القدس.. يحبّ جلالته أن يخبركم باستعداده أن يأخذ على عاتقه مسؤولية محمية (يهودية) في حالة تأسيسها. وجلالته حينما يكشف لكم عن نواياه فهو يعوّل بطبيعة الحال على مقدرتكم على الكتمان".
ولم يكن هدف قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني مختلفًا عن هدف نابليون من قبله، ففي تعليقه على تقرير سفير ألمانيا في سويسرا عن المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897، يورد الأسباب التي دعت ألمانيا لتأييد المشروع الصهيوني، ومنها أن توطينهم سيعمل على رخاء فلسطين وإنعاش الخزانة العثمانية حليفة ألمانيا، ولم يكن وقتها يدرك الرفض القاطع من السلطان عبد الحميد لهذه الأفكار والوساطة الألمانية.
وكان فيلهلم يرى أن طاقة اليهود ستوجّه إلى أهداف أكثر نبلا من استغلال المسيحيين، وأن إفراغ ألمانيا من اليهود الذين فيها "وكلما عجّلوا بالذهاب.. كان ذلك أفضل، فلن أضع أية عراقيل في طريقهم".
ويعلّق المسيري على هذا الوعد بقوله "لعل موقف القيصر من اليهود بما يتسم به من كره عميق لهم، وترحيب شديد بالتخلص منهم، واستعداد تام لتوظيفهم في خدمة المصالح الألمانية، لا يختلف كثيرًا عن موقف نابليون من قبله أو موقف بلفور من بعده".
وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 وقبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر كامل، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك اللورد بلفور التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية والذي تعلن فيه تعاطفها مع الأماني والأحلام اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحين صدر هذا الوعد كان أعضاء اليهود لا يمثلون أكثر من 5% من مجموع السكان في فلسطين.
وكان مما جاء في هذا الوعد الشهير الذي أُرسل إلى اللورد إدموند روتشيلد أحد زعماء وأثرياء الحركة الصهيونية البريطانيين، "يسعدني أن أُنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي: تعاطفًا مع أماني اليهود الصهاينة التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهومًا بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى".
لا يختلف هذا التصريح عن تصريحات كل من نابليون وقيصر ألمانيا من قبل؛ ولكن يضاف إليه ما يمكن وصفه بالمكر الإنجليزي حين ادّعوا أن هذا التصريح لن يخل بـ"الحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين".
وبالرجوع لبلفور نفسه الذي كان قد تولى الوزارة الإنجليزية بين عامي 1903 و1905، فإننا سنراه يهاجم اليهود المهاجرين لبلاده لرفضهم الاندماج مع السكان، واستصدر لأجل ذلك تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الماحق ببلاده منهم.
وكان رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد الذي صدر في عهده هذا الوعد لا يقل كراهية لأعضاء الجماعات اليهودية من بلفور، بل ينطبق هذا الأمر على الشخصيات الأساسية الأخرى التي وقفت وراء هذا الوعد مثل جورج منلر وإيان سمطس، وكلها شخصيات قامت بدور أساسي في التشكيل الاستعماري الغربي، على حد وصف المسيري.
ومن خلال الأمثلة الثلاثة القاطعة السابقة يتأكد أن حقيقة العقد الصامت بين الحركة الصهيونية والحضارة الغربية كان لأهداف سياسية ودينية متبادلة، كما تكشف لنا من خلال تحليل المفكر عبد الوهاب المسيري لها كيف يعمل اليهود في فلسطين أداة وظيفية في خدمة المصالح الغربية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة الحرکة الصهیونیة الحضارة الغربیة الصهیونیة ا فی فلسطین الیهود فی هذا الوعد وطن قومی من خلال فی عام فی هذا
إقرأ أيضاً:
بي-2 سبيريت.. الطائرة التي تريدها إسرائيل لتدمير منشأة فوردو النووية
في الوقت الذي تدور فيه رحى الحرب بين إسرائيل وإيران، تعود الأنظار مجددًا نحو القدرات العسكرية الأميركية باعتبارها أحد العوامل الحاسمة في هذه المواجهة، خاصة مع تصريحات إسرائيلية تؤكد الحاجة المُلحّة إلى الدعم العسكري الأميركي لضرب منشأة فوردو النووية الشديدة التحصين.
تعوّل إسرائيل كثيرا على دخول الولايات المتحدة الأميركية في الحرب التي تشنها على إيران، نظرًا لعجزها عن استهداف منشأة فوردو النووية الواقعة جنوب طهران نظرا لتحصينها الشديد. إذ يتطلب تدمير هذه المنشأة تحديدًا استخدام قاذفات إستراتيجية وقنابل خارقة للتحصينات لا تملكها إلا الولايات المتحدة حاليا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غموض "إف-35".. هل أسقطتها الدفاعات الجوية الإيرانية حقا؟list 2 of 2هل يحلق صائد الطائرات الصيني في سماوات إيران قريبا؟end of listونقل موقع أكسيوس عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والقيادة العسكرية الإسرائيلية يعتقدون أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يتخذ قرارًا بالتدخل العسكري المباشر لدعم إسرائيل وقصف منشأة فوردو.
ولو حدث ذلك السيناريو، فستبرز في القلب منه القاذفة الأميركية "بي-2 سبيريت" (B-2 Spirit) التي تمتلك مواصفات تقنية تجعلها الوحيدة تقريبًا القادرة على تنفيذ مثل هذه المهمة المعقدة. لكن ما الذي يجعل منشأة فوردو هدفًا استثنائيا، ولماذا تعجز إسرائيل عن مواجهتها بمفردها؟
بي2- سبيريت.. الطائرة التي تستطيعلفهم عمق الأمر، سنتعرف بداية إلى الطبيعة الخاصة جدا لهذه النوعية من الطائرات المسماة بي-2 سبيريت والتي كثر الحديث عنها مؤخرًا ورُبطت بمنشأة فوردو تحديدا.
فالقاذفات نوع من الطائرات المصممة خصيصًا لمهاجمة الأهداف البرية والبحرية بإسقاط القنابل أو إطلاق الصواريخ، وتتخصص بشكل أساسي في مهام القصف الإستراتيجي (ضمن مهام أخرى)، أي استهداف البنية التحتية، أو المراكز الصناعية، أو خطوط الإمداد، أو الأصول الأخرى ذات القيمة العالية بهدف إضعاف قوة العدو وتقويض قدراته الأساسية.
إعلانوبشكل خاص، تمتاز "بي-2" بقدرتها على حمل أسلحة ضخمة مثل القنابل الخارقة للتحصينات (جي بي يو-57) والأسلحة النووية، وذلك ما يجعلها عنصرًا أساسيا في عمليات الردع الإستراتيجي. هذه العمليات تتطلب مهام طويلة المدى بعيدًا عن قواعد الانطلاق وبتخفٍّ تام عن رادارات العدو.
ويفهم مما سبق أن هذه النوعية من العمليات غالبًا ما تنطوي على مهام بعيدة المدى في عمق أراضي الخصم المستهدف، ولتحقيق هذا الغرض يجب أن تكون هذه القاذفات قادرة على السفر لمسافات طويلة من دون رصدها تحت أي ظرف.
ورغم أن قاذفة إستراتيجية أخرى هي "بي ـ 52" قادرة على حمل مثل هذه القنابل الضخمة، فإنها ليست مؤهلة للقيام بالعمليات التشغيلية من هذا النوع، إذ إنها لا تتمكن من فرض التفوق الجوي والمناورة والتخفي من الرادارات، ولذلك فهي بحاجة لوجود طائرات أخرى للحماية.
في الحرب الباردة كانت القاذفات، مثل "بي-52″ الأميركية، جزءا رئيسيا من إستراتيجيات الردع النووي، إلا أن الولايات المتحدة احتاجت إلى قاذفة قادرة على اختراق الدفاعات الجوية السوفياتية من دون أن يتم كشفها بسبب التقدم الكبير في تقنيات الرادار، مما جعل القاذفات التقليدية أكثر عرضة للخطر.
بحلول منتصف السبعينيات، ابتكر مصممو الطائرات العسكرية طريقة جديدة لتجنب الصواريخ الاعتراضية، والمعروفة اليوم باسم "التخفي".
وفي عام 1974، طلبت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة "داربا" معلومات من شركات الطيران الأميركية عن أكبر مقطع عرضي لطائرة تكون غير مرئية فعليا للرادارات.
وإثر ذلك، وفي عام 1979، أطلقت القوات الجوية الأميركية برنامجا لقاذفة متطورة تكنولوجيا يتركز على قدرات التخفي، وفي عام 1981 فازت شركتا نورثروب وبوينغ بعقد تطوير القاذفة الشبحية الجديدة بموجب "مشروع سي جي سينيور"، وبحلول عام 1988 كشف النقاب رسميا عن القاذفة "بي-2 سبيريت" للجمهور.
في الأصل، خططت الولايات المتحدة للحصول على 132 قاذفة من طراز "بي 2″، ولكن بسبب التكاليف المرتفعة تم تخفيض العدد إلى 21 طائرة فقط، حيث قُدِّرت التكلفة الإجمالية لكل طائرة -بما يشمل الصيانة والتطوير- بنحو 2.1 مليار دولار، مما يجعلها واحدة من أغلى الطائرات العسكرية التي بنيت على الإطلاق.
وفي 17 يوليو/تموز 1989 قامت قاذفة "بي-2 سبيريت" بأول رحلة لها من مصنع القوات الجوية 42 في كاليفورنيا، ومنذ ذلك الحين بات ينظر إلى القاذفة الشبحية الأميركية على أنها القاذفة الإستراتيجية الأكثر تقدمًا في العالم، بسبب قدرتها الفائقة على التخفي.
وتعزى هذه القدرة بالأساس إلى تصميم جناح الطائرة القادر على الإفلات من الرصد الراداري، فضلا عن كونها مطلية بمواد تمتص أشعة الرادار، وتمتلك قدرات على قمع الأشعة تحت الحمراء (بصمتُها الحرارية منخفضة)، كما تعمل أنظمة التشويش المتقدمة الخاصة بها على تعطيل رادار الخصم وأنظمة اتصالاته.
ووفقًا لسلاح الجو الأميركي، يوجد 19 قاذفة بي-2 عاملة، يمكنها أن تحلق بسرعات دون سرعة الصوت، لكنها قادرة على التزود بالوقود جوًا، وذلك ما يسمح لها بالطيران لمسافات طويلة للغاية.
إعلانوخلال حرب كوسوفو في أواخر التسعينيات، حلّقت طائرات بي-2 ذهابًا وإيابًا من قاعدتها في قاعدة وايتمان الجوية بولاية ميسوري لضرب أهداف، وفي عام 2017 حلّقت طائرتان من طراز بي-2 لمدة 34 ساعة للوصول إلى ليبيا، ويجري ذلك أيضا على عمليات في العراق (2003)، وأفغانستان (2001-2021)، وسوريا (2017)، وصولا إلى العمليات الأميركية الأخيرة في اليمن.
وهي الطائرة التي يعود ذكرها للضوء على إثر ما يرشح من تصريحات من أن ضرب منشآت إيران النووية المحصنة لا يمكن أن يتم إلا عبر الترسانة الأميركية، وعلى رأسها قاذفة بي -2.
تحصينات منشأة فوردوإذا ما تحدثنا عن استهداف منشأة "فوردو" النووية الإيرانية، والتي تعد واحدة من أكثر المنشآت تحصينًا في العالم، يبدو أنه لا مناص من استخدام هذه القاذفة إذا أرادت إسرائيل ومن ورائها أميركا السير في خطة تدمير المنشآت النووية الإيرانية.
منشأة فودو هذه، صُمّمت خصيصًا لتكون قادرة على الصمود أمام الضربات الجوية وحتى بعض الهجمات النووية التكتيكية، أي تلك التي تستخدم أسلحة نووية صغيرة ذات أثر محدود.
تقع "فوردو" على بُعد نحو 95 كيلومترا جنوب غرب العاصمة طهران، وقد شُيّدت داخل مجمع أنفاق تحت جبل يبعد حوالي 32 كيلومترا شمال شرق مدينة قُم، ويقدر أن عمق المنشأة عن سطح الأرض يصل إلى 80 أو 90 مترًا، بهدف واحد وهو حماية المنشأة من القنابل الخارقة للتحصينات.
المنشأة محاطة بطبقات من الصخور الجبلية الطبيعية والخرسانة المسلحة العالية الكثافة، مع جدران فولاذية أو دروع معدنية داخلية، وتصميم داخلي يمثل "متاهة"، ليعقّد الاختراق، ويحد من تأثير الانفجارات.
كذلك فإن هناك دفاعات جوية متعددة تحيط بالمنشأة، منها بطاريات صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى وأنظمة تشويش إلكتروني لمنع استهداف دقيق، مع كاميرات حرارية، وأجهزة استشعار، وحراسة دائمة.
وتتألف المنشأة، بحسب بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من قاعتين مخصصتين لتخصيب اليورانيوم، وقد صممت لاستيعاب 16 سلسلة من أجهزة الطرد المركزي الغازي من طراز "آي آر-1" (IR-1)، موزعة بالتساوي بين وحدتين، بإجمالي يبلغ نحو 3 آلاف جهاز طرد مركزي.
قنبلة واحدة فقطوحسب المعلومات المتاحة، لا توجد سوى قنبلة واحدة يحتمل أن تصل إلى هذا العمق قد تستخدمها إسرائيل لضرب منشآت مثل فوردو ونطنز النوويتين، وهي القنبلة الأميركية "جي بي يو-57 إيه بي".
وتُعرف هذه القنبلة أيضا باسم القنبلة الخارقة للدروع الضخمة (إم أو بي)، وهي قنبلة تقليدية موجهة بدقة لتدمير الأهداف المدفونة والمحصنة على عمق كبير، مثل المنشآت والمخابئ تحت الأرض، وهي تزن نحو 13-14 طنا، ويبلغ طولها 6 أمتار.
هذه القنبلة قادرة على اختراق ما يصل إلى 61 مترا من الخرسانة المسلحة أو ما يصل إلى 12 مترا من الصخور الصلبة، ولا يمكن حملها بواسطة الطائرات المقاتلة الأميركية العادية، بل تحتاج لقاذفة الشبح الأميركية "بي 2 سبيريت" التي تشغَّل بواسطة القوات الجوية الأميركية.
ويتطلب الأمر، لتنفيذ مهمة كهذه، أن يحلّق عدد من طائرات بي-سبيريت، لتبدأ أولا حرب إلكترونية متخصصة، مهمتها تشويش أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية على نطاق واسع، وعزل المنطقة المستهدفة عن أي اتصالات خارجية.
ومع الوصول إلى منطقة الهدف فوق جبل فوردو، تبدأ أنظمة الاستهداف العالية الدقة على متن الطائرات بتحديد الموقع الدقيق للمنشأة تحت الأرض، ثم تطلق القنابل، لكن الأمر أعقد من مجرد الحاجة لقنبلة واحدة، إذ يتطلب ضربات متتالية على النقطة نفسها، ربما تبدأ بقنابل أخرى غير جي بي يو-57 إيه بي، لإحداث صدمة أولية أو لإزالة الطبقات السطحية من الصخور التي قد تعيق الاختراق الأعمق، أو حتى لاختبار استجابة الدفاعات المتبقية التي لم يتم تشويشها بالكامل، ثم تطلق القنابل الرئيسية بعد ذلك.
إعلانعند الاصطدام، تخترق كل قنبلة طبقات صلبة من الصخور والخرسانة المسلحة، معتمدة على طاقتها الحركية الهائلة، قد تُطلق قنابل متتالية على النقطة نفسها لتعميق الاختراق، أو على نقاط مختلفة لتوسيع دائرة التدمير. وبعد اختراق عشرات الأمتار في عمق الأرض، تنفجر الشحنة المتفجرة داخل القنبلة بقوة هائلة، مُحدثة موجة صدمية تدمر البنية الداخلية للمنشأة.
وحتى في هذه الحالة، فالهدف ليس فقط تدمير المفاعل نفسه، بل شلّ أنظمة الدعم الحيوية مثل غرف التحكم وأنظمة التبريد ومخازن الوقود.
عائق أعمقيفسر ما سبق حاجة إسرائيل الشديدة للقاذفة الأميركية وقنبلتها الضخمة. وبحسب صحيفة واشنطن بوست، فإن "المنشآت النووية الإيرانية لم تتعرض لأضرار لا يمكن إصلاحها في الموجتين الأوليين من الهجمات الإسرائيلية"، وبنت الصحيفة ذلك الاستنتاج على التصريحات الصادرة عن البلدين فضلًا عن مقاطع الفيديو والصور للمواقع المتضررة.
وتوضح الصحيفة أنه يبدو أن إسرائيل شنت هجومًا قرب فوردو، لكنها لم تُصب المنشأة تحت الأرض نفسها. وبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية وخبراء في مجال حظر الانتشار النووي فإن الضربات على نطنز، موقع التخصيب الرئيسي الآخر في إيران، قد دمرت منشآت عدة وألحقت أضرارًا بالنظام الكهربائي.
وأوضح المحللون الذين اطلعوا على صور الأقمار الصناعية في البداية أن معدات التخصيب تحت الأرض في نطنز لم تتضرر على الرغم من وجود آثار مباشرة على قاعات التخصيب تحت الأرض في نطنز.
ولكن حتى إن نجحت إسرائيل في الحصول على الدعم الأميركي وتنفيذ ضربات كهذه، فإن الأمر يظل أعقد مما قد يتصور.
ورغم أن إسرائيل استطاعت عبر العقود الماضية تنفيذ ما يُعرف "بعقيدة بيغن" التي تقوم على توجيه ضربات استباقية لمنع خصومها في المنطقة من امتلاك قدرات نووية، كما حدث عند تدمير مفاعل تموز العراقي عام 1981، ومنشأة الكبر السورية عام 2007، فإن الملف الإيراني يطرح تحديات من نوع مختلف تمامًا.
فالمنشآت المستهدفة من قبل كانت منفردة وظاهرة ولا تزال في مراحل مبكرة من التشييد، مما جعل ضربها ممكنًا وفعالًا.
لذلك يمثل استهداف منشأة فوردو تحديًا مختلفًا عما واجهته إسرائيل سابقًا. فالبرنامج النووي الإيراني موزع على مواقع متعددة ومحمي جيدًا تحت الأرض، كما أنه مدعوم بخبرات تقنية وعلمية راسخة، وذلك ما يجعل القضاء عليه بالكامل من خلال ضربات جوية أمرًا معقدًا للغاية.
وحتى إن نجحت الضربات الجوية، فإن إيران تملك القدرة العلمية والفنية على إعادة بناء منشآتها، وذلك ما دفع إسرائيل إلى محاولة استهداف العلماء الإيرانيين في محاولة لإبطاء البرنامج النووي. ومع ذلك، فإن هذا النهج أيضًا محدود الفاعلية نظرًا لاستناد البرنامج إلى بنية مؤسساتية وعلمية عميقة، وليس إلى أفراد فقط يمكن استبدالهم بسهولة.
في النهاية، يظل الملف النووي الإيراني أكثر تعقيدًا من مجرد استهداف منشآت مادية، إذ يتعلق الأمر بمنع دولة لديها المعرفة العلمية والإرادة السياسية من استئناف نشاطاتها، وذلك ما يجعل التعامل الناجح معه بعيدًا كل البعد عن مجرد حل عسكري سريع.