مسلمو البوسنة يحيون ذكرى مجزرة سريبرينتسا
تاريخ النشر: 11th, July 2024 GMT
سريبرينتسا (البوسنة والهرسك) "أ ف ب": بدأ آلاف الأشخاص اليوم الوصول والتجمّع في سريبرينتسا لإحياء ذكرى المذبحة التي تعرّض لها مسلمو البوسنة خلال الحرب الأهلية في البلاد عام 1995، بعد شهرين من تخصيص الأمم المتحدة يوما سنويا لإحياء ذكرى هذه الإبادة الجماعية.
وينظّم الحدث إحياء لذكرى الحادي عشر من يوليو 1995، حين سيطرت قوات صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش على مدينة سريبرينتسا، قبل أشهر قليلة من انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت ثلاث سنوات في البوسنة.
وفي الأيام التالية، قتلت قوات صرب البوسنة نحو ثمانية آلاف مسلم من رجال ومراهقين، في جريمة وصفتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية بأنها إبادة.
وجاءت مولودة حسنوفيتش عند قبر ابن عمها الذي كان عمره 18 عاما عندما قُتل.
وقالت "الأمر صعب عندما يأتي يوليو. انتهى بهم الأمر على هذا النحو فقط لأنهم يحملون اسما (مسلما) مختلفا".
وفقدت حسنوفيتش أكثر من عشرة من أقاربها الذكور في المذبحة، بينهم والدها وزوجها الذي يقع قبره بجوار قبر ابن عمها.
ودفن رفاته مرتين إذ عثر عليه في مقبرتين جماعيتين مختلفتين.
وأكدت السيدة البالغة 54 عاما لوكالة فرانس برس، إنها لا تزال تبحث عن بقايا شقيقها، "على الأقل عظمة واحدة" لدفنه.
في أواخر مايو أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة تخصيص يوم عالمي لذكرى الإبادة في سريبرينتسا، على الرغم من المعارضة الشديدة لصرب البوسنة ولصربيا.
نفى ميلوراد دوديك، رئيس الكيان الصربي في البوسنة، مراراً وتكراراً أن تكون حصلت إبادة جماعية، وقال إن إدارته لن تعترف بالقرار.
أصدرت محكمة تابعة للأمم المتحدة حكما بالسجن مدى الحياة على الزعيم السياسي لصرب البوسنة رادوفان كارادجيتش وقائد جيشه راتكو ملاديتش بتهمة ارتكاب جرائم حرب بما في ذلك الإبادة الجماعية في سريبرينتسا.
والخميس، دفنت رفات 14 آخرين من الضحايا، بينهم فتى كان في السابعة عشرة، في مقبرة تذكارية في بوتوكاري، خارج سريبرينيتسا مباشرة.
وسيدفن بيريز موييتش الذي عثر على رفاته في منطقة سريبرينتسا العام الماضي، بجوار شقيقه حازم.
وحتى الآن، تم دفن رفات 6988 من ضحايا سريبرينتسا، ومنها الكثير غير مكتمل، وغالبيتها تحت شواهد القبور البيضاء في بوتوكاري.
وعثر على الرفات في 87 مقبرة جماعية، وقالت متحدثة باسم معهد المفقودين في البوسنة لوكالة فرانس برس إنهم ما زالوا يبحثون عن نحو ألف شخص.
وللتغطية على الجريمة، قامت قوات صرب البوسنة بنقل جثث الضحايا إلى مقابر جماعية ثانوية.
والأربعاء، وصف الاتحاد الأوروبي الذي تطمح البوسنة للانضمام إليه هذه الفظائع بأنها "واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ أوروبا الحديث".
وقال منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل والمفوض الأوروبي لشؤون التوسيع أوليفر فارهيلي في بيان مشترك "لا مكان بيننا لأولئك الذين ينكرون الإبادة الجماعية ويحاولون إعادة كتابة التاريخ وتمجيد مجرمي الحرب".
والإثنين، انطلق آلاف الأشخاص في مسيرة إلى سريبرينتسا في شرق البوسنة لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية.
والمسيرة التي تمتد على مئة كيلومتر تنظّم سنويا انطلاقا سريبرينتسا وصولا إلى قرية نيزوك التي وصلها أوائل الناجين حينها.
ودارت الحرب في البوسنة بين 1992-1995 بين الكروات والمسلمين والصرب، وأودت بحياة ما يقرب من 100 ألف شخص.
وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من انتهاء الحرب، لا تزال الدولة في البلقان منقسمة بشدة على أسس عرقية.
بقلم روسمير سمايلهوديتش
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة فی البوسنة
إقرأ أيضاً:
اللغة التي تفشل
تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).
تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.
«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!
سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.
ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.
أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.
تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني