رغم كونه مصدرا للرزق ومنبعا للخير ومصدرا للثراء، فإن مصطلح «النفط» يعكس مشاعر منفرة فى القاموس الجمعى للعرب، إذ يُدلل عموما على الحضارة المصطنعة والجمال، والإبداع المُستأجر، ويراه البعض سببا للإتكالية، ودافعا للدعة والسكون، وسبيلا للإفساد.
وليس أدل على ذلك من أن الشاعرة الكويتية، بنت الخليج نفسه، سعاد الصباح، تقول فى إحدى قصائدها «ثُم حلت لعنة النفطُ علينا/ فاستبحنا كل ما ليس يُباح».
وهذا الشاعر الجميل نزار قبانى، رحمه الله، يتحدث على لسان أنثى عربية تنتقد الثراء السهل الخالي من التحضر والوعى، فيقول:» متى يا سيدى تفهم؟ بأنك لن تخدرنى بجاهك أو إماراتك/ بنفطك وامتيازاتك/ وبالبترول يعبقُ من عباءتك/ وبالعربات تطرحها/ على قدمى عشيقاتك».
من هُنا، فإن الرأى العام، فى أغلبه يضيق كثيرا بخبر، أو إعلان، أو جدل بشأن مشاركة المبدعين المصريين فى مشروعات صناعة السينما والطرب فى مجتمعات نفطية مجاورة لم يكن لها علاقة بالفن، بل كانت على عداء تام معه ربما بدوافع قبلية أو تفسيرات متطرفة للإسلام.
يلوم اللائمون فى بلادى أهل الفن الذين ذهبوا للمشاركة فى مهرجانات الترفيه، ووصلات الدعاية، وحفلات الجمال المصطنع فى الصحراء.
يشتط البعض عليهم، فيتهمهم بالجشع وعبادة المال، وربما بالانتهازية، دون أن يلحظ هؤلاء عدة أمور أراها هامة.
أولها أن مصر كانت لديها صناعات فنون عظيمة، وسينما مبكرة، مبهرة ومُعلمة، وأنها لأسباب عديدة تستحق مقالات ومقالات، وهنت وتدهورت مثل أمور كثيرة، وصارت أحوال كثير ممن يعملون فيها محزنة. عانى فنانون كبار من المرض والعزلة، وتجاهل المؤسسات، مع نظرة المجتمع الساذجة التى تفترض أن كل مشهور هو بالضرورة ثرى، وواجهوا ظروفا قاسية فى ظل تراجع شديد فى عدد الأعمال الفنية سواء فى السينما أو الدراما خلال السنوات التالية لـ2011.
فضلا عن ذلك، فإن التوجيه العام للفن، أدى إلى تهميشه ونفور الفنان نفسه منه، لأن الفن حرية أولا، وثانيا، وثالثا، ولا يمكن ولا يجوز إدارته بتكليفات وتوجيهات فوقية. ومادام الفن موجهًا فى محيطنا، فلم يعد أى مبدع يرى بأسا فى أن يعمل فى محيط آخر تحت إطار توجيه آخر، فالأمر سيان.
ملاحظة أخرى جديرة بالتأمل هى أن الاعتماد على النجوم المصريين يؤكد أنهم مازالوا المصدر الأول لصناعة الجمال فى المنطقة، وهو ما يمثل خبرا سارا وسط غابة الأخبار المحبطة. فعلم الجغرافيا يخبرنا أن الأنهار تجرى من أعلى لأدنى، وأن فيض الجمال ينزاح رويدا ليُحسن الأقل حسنا.
وهناك مَن يتصور أن هجرة بعض الفنانين إلى دول أخرى تمثل عملية إخلاء للساحة المصرية من الابداع. وهؤلاء يظنون أن خروج فنان ما أو مطرب بعينه، يعنى هروبا للفن خارج أرضه، ويتناسون أن المجتمع المصرى بتناقضاته وتركيباته المعقدة، وزخمه، وتنوعه، وإرثه هو المُنتج للفن وللفنانين أيضا جيلا بعد آخر. فهناك بوتقة صهر لمواهب وورشة صناعة إبداع فى مصر سواء زادت الأعمال الفنية أو قلت، واشتغل الناس أم لم يشتغلوا، وهذا التكوين نتاج سمات اجتماعية وثقافية راسخة.
وحسبنا هنا أن نتذكر ما فعله السلطان الغازى سليم الأول عقب احتلاله القاهرة قبل أكثر من خمسمائة عام. لقد قام الرجل بجمع ألف وثمانمائة فنان وحرفى وصانع وخطاط من أفضل الكوادر المصرية، وأرسلهم جبرا إلى الأستانة، ليشاركوا فى صناعة الجمال بعاصمة السلطنة العثمانية. ربما تصور السفاح الغازى وقتها أنه ينزع عن مصر سحر الإبداع، ويقصره على بلاده، لكن سعيه خاب، فأخرجت المحروسة فيما بعد صناعا آخرين أكثر مهارة، وأعظم ابداعا، فرسموا وصوروا وأنشأوا وزخرفوا ثم ورثوا أجيالا آخرى جمالهم المُدهش.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد سعاد الصباح الشاعر الجميل نزار قباني
إقرأ أيضاً:
إطلاق كتاب «فنّانو الشرق الأوسط.. من عام 1900 إلى اليوم»
دبي: «الخليج»
استضافت قمة الإعلام العربي، جلسة مخصّصة للفنّ والثقافة، أكدت الأهمية المتزايدة للتعبير الإبداعي كركيزةٍ أساسيةٍ في تشكيل الخطاب العام، انطلاقاً من كون الفنّ رابطاً قوياً بين الثقافات والأيديولوجيات، ويتجلّى دوره الحيوي اليوم في تجسير الفجوات الثقافية.
وحملت الجلسة عنوان: «حوار الفن والثقافة»، وشارك فيها الكاتب والباحث في الفنون البصرية صائب أغنر، الذي قدّم لكتابه الجديد «فنّانو الشرق الأوسط: من عام 1900 إلى اليوم»، وهو عملٌ مرجعيٌّ شاملٌ من 400 صفحة يُوثّق أعمال 259 فنّاناً من جميع أنحاء المنطقة، وحاورته خلال الجلسة أنطوليا كارفر، المدير التنفيذي لمركز «آرت جميل».
وقال: «الفنّ يحتلّ المرتبة الثالثة في حياتي، بعد العمل والأسرة». وبينما قدّم كتابه السابق «فن الشرق الأوسط» - الذي حقّق نجاحاً عالمياً ويُعرض حالياً في طبعته الرابعة - تعريفاً بالفنّ الإقليمي، فإنّ هذا العمل الجديد يتعمّق في استكشاف التطوّر الفنّي في منطقة الشرق الأوسط، مُسلّطاً الضوء على كلٍّ من الفنانين الأوائل والأصوات المعاصرة.
من بين الأعمال الفنّية البارزة التي نوقشت خلال الجلسة، لوحة «الرجل الغاضب» للفنان ضياء العزاوي، و«بنت البلد» لمحمود سعيد، وأعمال فنية مؤثرة بريشة الفنانة كمالا إبراهيم إسحق. كما يُسلّط الكتاب الضوء على فنّانين مثل إنجي أفلاطون وعبد الحليم رضوي، مقدّماً قصصاً متنوّعةً وأنماطاً إقليميةً ووسائطَ وتأثيراتٍ مختلفة. ويُزيّن غلاف الكتاب عملٌ فنّيٌّ للفنانة الفلسطينية سامية حلبي مُستوحى من الذكاء الاصطناعي.
وتحدّث أغنر عن اختياره للفنانين وعمق التاريخ الكامن وراء اختياراته، فبعض الفنانين قد غادر عالمنا والبعض الآخر لا يزال يلعب دوراً في تشكيل المشهد الفنّي المعاصر.
وأشار إلى إدراج الخطّ العربي من عصور ما قبل الإسلام في الكتاب، مُسلّطاً الضوء على الإرث اللغوي والبصري الذي حمله الفنّ.
واختُتمت الجلسة بتأكيد أنّ الفنّ ليس مجرّد تعبير، بل ضرورة، فمن خلال الاحتفاء بالتراث الثقافي والقصص الفردية، يُعزّز الفنّ التعاطفَ والفهمَ المشتركَ عبر الحدود.